العدد الحاليالعدد رقم 45ترجمات

هوبز Hobbes منطق السّلطة

إيف شارل الزرقا  Yves Charles Zarka *

ترجمة: د. أسماء كريم

السلطة هي المفهوم الأساس في فلسفة هوبز. وقد وضع الناس سلطة سياسة مطلقة من أجل تجنّب حرب الكُلّ ضد الكُلّ؛ فبهذه الطريقة يمكن الحفاظ على السَّلام والنظام الاجتماعيين.

لقد أعاد توماس هوبز Thomas Hobbes تحديد جوهر السياسة، لهذا فهو بالتَّأكيد أهمّ فيلسوف سياسي في العصر الحديث، كما أنَّه سلَّط الضوء على ما سيصبح المفهوم الأساس للسياسة: مفهوم السُّلطة. وإن لم يكن الوحيد الذي فكَّر في السُّلطة، فقد كان أوّل من أظهر أنَّ حقيقة السياسة تكمن في السُّلطة. وقبل هوبز، كان ميكيافيلي Machiavel قد منح أيضًا أهمية كبرى للسُّلطة، وكان ينوي، من خلال هذا الاعتبار، العودة إلى حقيقة الشيء السياسي ضد الخطابات الخياليَّة لرجال الأخلاق السّياسيّين الذين سادوا قبله. لكن ميكيافيلي يعتقد أنَّ السّلطة هي سلطة الأمير، البطل السياسي الحقيقي، الذي كانت فضيلته مسيطرة علة ثورته وجوبًا. أما عند هوبز، فيتم التَّعامل مع السلطة في ذاتها دون أي اعتبار لمن يمتلكها أو يمارسها. وهكذا، فإنَّ الحاكم السياسي، الذي يتمتَّع بالسّلطة العليا في الدولة، ليس له وَجْه أو اسم خاص. وهذا هو السَّبب في كون الأمر لا يتعلَّق بالحـَاكِم أو الأمير بقدر ما يتعلَّق بالسّيادة. الفرق جوهري. إنَّ الهدف عند هوبز هو دراسة السّلطة بوَصْفها مؤسَّسة، من خلال السيادة، وهيكل الدولة في حدّ ذاته، بغض النَّظر عن سياق تاريخي معيَّن أو شخصيَّة معيَّنة. من المؤكَّد أنَّ هوبز كتب أطروحته السياسيَّة ردًّا على أزمة سياسة خطيرة، وهي الحرب الأهليَّة الانجليزيَّة التي وقعت بين عامي 1640 و1660. لقد كتب أوَّل كتاب له عن السياسة، مبادئ القانون الطبيعي والسياسي/ The Eléments of  law Natural and Political، سنة 1940 من أجل تقديم إجابة عن الصراع القائم بين الـمَـلِك والبرلمان.

حربُ الكُلّ ضد الكُلّ

لكن هذا الرّد لم يكن مجرد استجابة مؤقَّتة ومحليَّة وتاريخيَّة: بتعبير أدقّ، لم يكن الأمر يتعلَّق فقط بالوقوف إلى جانب الملك تشارلز الاوّل ضدّ مطالب البرلمان. كانت تهدف بشكل أساس إلى إظهار أنَّ السبيل الوحيد للخلاص لا يمكن العثور عليه إلا من خلال العودة إلى جوهر السياسة باعتباره منطق السّلطة التي تشكّل السيادة، بغض النَّظر عمَّن يمارسها. وعندما فهمنا منطق السّلطة هذا، نكون قد فهمنا أهم شيء: القواعد التي تحدّد الحيلة السياسيَّة، أي كيفيَّة توزيع الحقوق والواجبات داخل الدّولة. غالبًا ما تكون الحرب الأهليَّة نتيجة الجهل بمنطق السّلطة هذا الذي يشكّل جوهر السياسة.

إنَّها ليست نظريَّة سياسيَّة فقط، ولكن فلسفة هوبز بأكملها هي فلسفة سلطة. والسلطة بالنسبة له هي المفهوم القادر على تفسير أي فعل، سواء كان فعل الأجسام في الفيزياء، أو تصرّفات الأفراد في الأخلاق. فعلى المستوى المادي، فالسلطة هي مجرّد قوَّة (Power/ Potenta)؛ أي القدرة على إحداث تأثيرات، ويحدث هذا ليس لأنَّها أجسام، بل لأنَّها أجسام متحرّكَة. تكمن نظريَّة السَّبَبِيَّة، وبالتاي تفسير التَّأثيرات الفيزيائيَّة، في نظرية الحركة التي طوَّرها هوبز في كتابه عن الجسد/De Corpore عندما ننتقلُ من أجساد خاملة إلى إنسان، فلا حاجة لتقديم شيء مثل الرّوح الخالدة، وهو ما يعتبره هوبز خيالًا. فلسنا بحاجة إليها إطلاقًا لشرح نشأة التَّمثلات البشريَّة واللغة والعواطف، أي الحياة العاطفيَّة الفرديَّة والحياة العاطفية بين البشر. الأفراد هم أجسام من نوع معيَّن لها حركة حيوانيَّة وحيويَّة، تتمتَّع بتمثّلات وعواطف أوليَّة يمكن من خلالها تفسير كيفية استخدامهم لعلامات اللغة.

تفصلُ الحالة البشريَّة نفسها بعيدًا عن الحالة الحيوانيَّة، من خلال اللغة تحديدًا، لتُصبح حالة سياسيَّة. على المستوى الفردي، تجعل اللغة الإنسان أكثر تطلُّعًا للمستقبل، فهي تسمح له بتوسيع ذاكرته وتمديد أُفقه، وليس فقط الاكتفاء بإشباع احتياجاته الحاليَّة، لكن توَقُّع احتياجاته المستقبليَّة ومحاولة تحقيق ذلك. وعلى المستوى العلائقي، تُدْخِلُ اللغة بُعد المحاكاة في العلاقات بين البشر. وحيث إنَّها تجعل الإنسان قادرًا على قَوْل الحقيقة والكذب، وإنتاج المعنى واللَّامعنى، فإنَّها تُقدّم عدم اليقين المتبادل بين الأفراد فيما يتعلَّق بنواياهم المتبادَلَة. إنَّ عدم اليقين هذا هو الذي سيُحدثُ الخوف من الآخرين، ويُغرق العالم البشري في حرب الكُلّ ضد الكُلّ.

ومن هنا طفرة عاطفيَّة كبيرة. يُعرّف الإنسان نفسه أوَّلًا بوصفه كائنًا للرغبة، وهذه الرّغبة هي محاولة (conatus) للحفاظ على نفسه في الكون، ومحاولة للاستمرار في الوجود. ترتبط كلّ الرّغبات الأخرى للإنسان بهذه الرّغبة الأساسيَّة. بيد أن هذه الرّغبة، التي كانت رغبة في الاشباع والبحث عن أشياء مختلفة لهذا الاشباع، أصبحت رغبة في القوّة. إنَّ هذا البحث المتواصل عن تراكم القوة والمأزق الذي يضع فيه العلاقات الإنسانيَّة، يجعل الإنسان حيوانًا سياسيًّا. وهذه هي المأساة السياسيَّة. يسعى جميع الأفراد للسيطرة على بعضهم البعض بشكل متبادل، ولا ينجح أي منهم في ذلك، لكنَّهم يدركون بأنفسهم أنَّ الوجود في هذه الحرب الكُلّ ضد الكُلّ لا يمكن تحمُّله لأنَّها حرب ضعيفة وغير آمنة ومُتقلِّبة ولا مخرج لها سوى الموت. هكذا، يصبح الخوف من الموت العنيف هو الإحساس الـمُهيمن، والذي سيقود الأفراد إلى البحث عن طريقة للخروج من حالة الحرب قصد إحلال السَّلام.

طريقة النَّجاة من الموت العنيف

إنَّ الخوف من الموت يُعيد الإنسان إلى العقل. ومَنْطِقُه هو الذي سيُعطيه الحلّ. والطريقة الوحيدة للانتقال من الصّراع بين الأفراد إلى السَّلام هي إزالة الأسباب التي دفعت الأفراد إلى المخاطرة برغبتهم في الاستمرار في الوجود من أجل الرّغبة في تجميع السّلطة إلى الأبد. ومع ذلك، بما أنَّه ليس من الممكن التَّخلّص من القوَّة التي نمتلكها، من القوَّة الطبيعيَّة لجسمنا وعقلنا في أي حال من الأحوال (الماديَّة، كما رأينا)، فإنَّ الاتفاق يبقى هو الحل الوحيد. ثم ننتقل من الرّغبة في السلطة إلى المنطق السياسي للسلطة: إنشاء المؤسَّسة من خلال العُرف الاجتماعي للسيادة التي تشكّل سلطة سياسيَّة مُطلقَة، أي سلطة لا يمكن لأي شخص آخر أن يُنَافسها. لكن هذه السلطة المطلقة ليست سلطة طاغيَّة على الإطلاق، على العكس ما أرادنا جوم جاك روسو Jean-Jacques-Rousseau أن نُصدّقه. إنَّها سُلطة تَتَّحدُ فيها القُوَّة والقانون من أجل إرساء نظام اجتماعي يُعيد الثقة إلى العلاقات الإنسانيَّة، ويقضي على جنون السَّعي غير المحدود إلى السُّلطة. يتمثَّل المنطق السياسي للسُّلطة في تحديد الإطار القانوني والسياسي الذي يمكن من خلاله إرساء السِّلم المدني والحفاظ عليه.

ذهب هوبز أَبْعَد من ذلك مع كتاب اللفياتان/ Léviathan، مُؤلَّفه السياسي الرئيسي. فبينما كانت السلطة السياسيَّة ذات طابع الهيمنة التي يدعّمها العُرف الاجتماعي الذي يرقى إلى ميثاق خضوع، فإنَّ اللفياتان/ Léviathan سيُدشِّن اتفاقيَّة تفويض لم تعُد تحوُّلًا خالصًا. وبالتالي فهو يفتح بابًا أمام مُشْكلتَيْن أساسيَّتين في السياسة حتى الآن: مشكلة التمثيل والإرادة السّياسيَّة والعامَّة. سعى هوبز إلى تحديد الطريقة التي يمكن من خلالها أن تكون إرادة الـحاكم أو الـحُكَّام في الوقت نفسه إرادة المواطنين. وهذه قضيَّة ما تزال راهنة في القرن الحادي والعشرين.

 

الهوامش:

*أستاذ فخري في جامعة باريس السربون Paris-Sorbonne، أسَّس مجلة (Cités (Puf وأدارها. مدير تحرير الكاتب هوبز Hobbes عند فران/ Vrin، وقد نشر مؤخّرًا تأملات فلسفيَّة عن عصرنا/ Réflexions philosophiques sur notre temps (Puf), 2023.

المصدر:

(مجلة العلوم الإنسانية الفرنسية/ عدد خاص، Sciences Humaines/ les essentiels, Hors-série، العدد 14، ماي-يونيو2023، ص:34-36)

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

د. أسماء كريم

أستاذة محاضرة، باحثة في الترجمة والتواصل - المغرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى