العدد الحاليالعدد رقم 45ثقافات

أنصــاف

ليست كل الحلول محمودة، ولا كل المسالك آمنة، أنصاف الحلول ذريعةً لتأجيل الحسم، وأرضيّة المتخاذلين، وعصا يتوكأ بها الجبناء.

ونصف الفرح حزنٌ مؤجل، يتأرجح بينهما الفرح والخيبة، ونصف الابتسامة خبث ودهاء يتزر بود كاذب، ونصف الحكمة؛ الحياد في غير محله ونصفه الآخر ظلمًا في حق المظلوم، وقد لبس لبوس الحكمة والاتزان.   والوقوف في منتصف الطريق متاهة ويباب، لا يُوصلك ولا يُرجِعك.

أما نصف الحزن؛ فتوجسٌ دائم وقلق مستمر، وحالة لا تهدأ ولا تستقر، وهذا النصف يفسد عليك الأرباع الأخرى، حتى نصف الالتفاتة، في نصفها الآخر احتقار وكِبْر، وغطرسة وغرور.

لا تكن مثل لوحة «موناليزا الشمال» – صاحبة القرط اللؤلؤي – تلك التي عُرفت بأنصاف التعبير: نصف التفاتة، ونصف توهان، ونصف نظرة… وجه لا يُدرك له قرار.

ولا تكن كمن يعطي معروفًا، ثم يتبعه منًّا وأذًى؛ فذلك نصفُ إحسان، ونصفُ أذى، فيُلغى الفضل من أصله.

قال أحدهم:

إنّ خيرَ الودِّ ودٌّ تطوّعتْ به

                  النفسُ، لا ودٌّ أتى وهو متعبُ

السلام الآثم ما كان بنصف كفّ، لا حرارة فيه ولا حياة. ونصف النصف بلادة شعور، وبرودة وجدان، ولا مبالاة، «فإمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان».

والرماديون من حزب نصف العلاقة، ونصف الظنّ جائزٌ، ونصفه الآخر حرامًا. ونصف نظرة، في نصفها الآخر، بَطَرًا وغرورًا، وقد تفضي نصف اللحظة إلى سقوطٍ في شِباك الغواية.

والنصف في المواقف تعليق؛ لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى؛ «فتذروها كالمُعلَّقة».

نصف همومنا من خوفنا من المجتمع، والنصف الآخر نُضيّعه في تجميل صورتنا أمامه.

نهرب من النقد، ونركض خلف القبول، فنعيش أنصاف شخصيات في أنصاف حيوات، لسنا بحاجة – كما يقول كانريقي – أن نضيّع الحياة في سماع ما يقوله الآخرون عنا.

وهكذا، نمضي في دوائر ناقصة، كلّها أنصاف: أنصاف أحلام، أنصاف قرارات، أنصاف محاولات، أنصاف أمنيات، أنصاف مشاريع، وهذه الأنصاف تكملها الخيبات، ولكن لا تكن مثل خوان ميّاس الروائي الإسباني، نصف ميّت ونصف حي، نعم إنه الفتور سيّد الأنصاف كما في قصته (مسألة إيحاء) وأبدع في وصف المشهد «لا أعرف كم تأخرت حتى استغرقت في النوم، غير أني أعرف أني رأيت في الحلم مجددًا صديقي وعائلته. كانت قد مرت أيام منذ كنت معهم في البيت الريفي. كانت حياتي عادية، لو استثنينا إرهاقي منها. لم أكن قادرًا، كما كنت من قبل، على صعود سلم بيتي في الدور الرابع». وكنت فقدت شهيتي ومذاق الأشياء التي كانت من قبل تثيرني. ليس مذاق كل الأشياء، إنما نصفها تقريبًا. ومعتقدًا بأنه خلل كيمياوي، بدأت في تناول فيتامينات من دون أثر يذكر المسألة ليست أني كنت مريضًا، لكني لم أكن كذلك على ما يرام. وفي العمل كنت أنتج نصف ما كنت أنتجه من قبل. الحياة، في النهاية غدت نصف حياة.

أثناء ذلك، اتصل بي صديقي ليحكي لي، وهو مشغول جدًا، أن ابنته تعاني من مشكلات. أي نوع من المشكلات؟ سألته. أجابني بأنها تبدو نصف ميتة، أو نصف حية. لا شيء يؤلمها، لكنها فقدت %50 من حيويتها. وفي المواد التي كانت تحصل فيها على عشر باتت تحصل على خمس وكل شيء هكذا صحوت في لحظة إنهاء المكالمة مع صديقي، لكني أعتقد أني استيقظت نصف يقظة، بمعنى أن نصفي فحسب ما استيقظ، وبقيت على هذه الحال حتى الآن.

نعود للناس، منهم من اختار الوقوف في منتصف الطريق لكل شيء؛ فلا هم مع، ولا هم ضد، لا يَجزمون ولا يُخلِصون… وكم نصف قصم ظهر بريء؛ هم الرماديون، الذين إذا ذُكروا قيل عنهم: «حامض حُلو»؛ فلا تكن منهم. كن بدرًا مكتملًا في أمنياتك وقراراتك ومواقفك، اظفر بالفواتح… تَربَتْ يداك! واتسم بسمات أصحاب الاستحقاق لا يلاحقون من يتجاهلهم ولا يرضون بأنصاف العلاقات ولا يتحدثون كثيرًا عن كرامتهم. لكن لا يتنازلون عنها، والإيمان نصف صبر ونصفه الآخر شكر.

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

محمد العمر

السعودية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى