العدد الحاليالعدد رقم 45ثقافات

الحقيقة وحدهـا لا تكفي للزخرفـة

لماذا علمونا أن الفصاحة والبلاغة والطلاقة هي فضائل كبرى؟

بخلاف اعجابي العميق بالقدرات الكتابية لمن يكتبون جيدًا (لأن الكتابة تأتي – بطبيعتها – مع الكثير من أدوات الانضباط والتثبت، كالمساحة الوقتية والانعزال والقلق والمراجعة والتراجع والمقارنة والتصحيح وحُزَمٍ كاملةٍ من الأدوات البحثية)، هل تصدقني إذا قلت إنني لا أرى أي جمالٍ في الطلاقة الكلامية القصوى؟

من ناحية، ربما وُجِدَ السبب في أن الطلاقة ترتبط بالضرورة بالاسترسال والاطناب والاستيطال والاسهاب، وهذه جميعها نقائضٌ للمباشرة والفعالية.

ومن ناحيةٍ أخرى (وهي الأهم)، ربما كان السبب يكمن في فكرة «الارتباط الشرطي» conditioned reflex، وفق التعبير الخاص بعالم النفس الروسي بافلوف Pavlov وتجاربه الشهيرة، فهناك – في مكان ما من عقلي – ارتباطٌ وثيق ٌ بين الطلاقة من جهة وبين الزيف والادّعاء من جهةٍ أخرى، ولذلك فأنا أجد الطلاقة العالية مريبةٌ دائمًا:

أرى الطلاقة كمركب شحنٍ كبير، لا تكفي الحقيقة وحدها لملئه في أغلب الأحيان، ولذلك فهو يأتي محملاَ – إلى جانب الحقيقة – بحمولة حاوياتٍ ثقيلةٍ من الزيف والادعاء والدجل والكذب والمبالغة. حتى تتوزع هذه «الحمولة» الديماغوجية جيدًا على ظهر مركب الخطيب المفوّه فلا بد – في أغلب الأحيان – من موازنة شحنته البلاغية هذه من خلال رص حاوياتٍ أخرى على الجانب المقابل من سطح المركب، وهذه الحاويات الإضافية عادةً ما تكون عامرةً بأطنانٍ من الميلِ المَرَضي للظهور الاستعراضي، لأن الطَلِق، في بيئتنا العربية العتيقة، يدرك تمامًا أنه محاطٌ بإطارٍ نموذجيٍ جداً لأمثاله: مجتمعٍ ذي ثقافةٍ شفاهيةٍ راسخةٍ ينظر أفراده إلى لسان الخطيب – و ليس إلى ما يتحرك به هذا اللسان – كقدس الأقداس، و لقدراته الكلامية كفضيلةٍ كبرى، أيًا ما كان المحتوى العبثي لما يتفوّه به هذا الخطيب. وهكذا، ينتهي الأمر مع الطَلِق دائماً بكميةٍ أسطوريةٍ من الفخر، كفيلة بإدارة أكبر الرؤوس تواضعًا.

لا يحضرني تعبيرٌ مصورٌ لعلاقة الطَلِق بجماهيره أفضل من اللوحة الشهيرة للألماني Magnus Zeller الشهيرة باسم «الخطيب» The Orator (الصورة). لاحظ شكل الخطيب الذي يوحي بامتلائه بما لا أجد تعبيرًا عنه أفضل من لفظ panache الإنجليزي، أي إدمان الشعور المختلط بالعظمة والنشوة معاً، والذي نقله لنا الفنان بكل اقتدار.

في أغلب الأحوال، يصدق ظني.

نظريتي الخاصة الآن هي أن هناك – إلى أن يثبت العكس – علاقةٌ طرديةٌ بين الطلاقة النشطة وبين الزيّف؛ كلما ازدادت طلاقة المتحدث ومساحة ظهوره كلما اضطر لتعبئة قوالبه الكلامية الفارغة والسريعة بما هو أكثر من «الواقع» وبما يتجاوز «الحقيقة» (الأمثلة الجيدة على ذلك لا تعد ولا تحصى في كلٍ من الخطاب السياسي بما يختلط به من كذبٍ وخلط، وفي الخطاب الديني الوعظي/التجاري وما يُقحم به من إحالات مبالَغَة إلى الكثير من الاعجازيات والغيبيات. كان رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (أَخْوَفَ مَا أَخَافَ عَلَيْكُمْ بَعْدِي عَلِيمُ اللِّسَانِ).

عبر التاريخ، وبشكلٍ عام، لم تكن الحقيقة أبدًا حليفًا جيدًا للنشطين من الطَلِقين كلاميًا، لأن الحقيقة تأتي عادة عاريةً، فقيرةً، مملةً، وجرداء.

الحقيقة وحدها لا تكفي للزخرفة.

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

د. مشاعل عبدالعزيز الهاجري

أكاديمية من دولة الكويت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى