
تلقي الأدب الرقمي: تحولات في الذوق والاستيطيقا
لا شك أن الرقمية قد أحدثت تغييرات لا حصر لها في مختلف مجالات الحياة، ومنها الأدب كجزء من هذه الحياة، باعتبار الأدب بنية فوقية تعكس تمثلات المجتمع وتعكس الحياة العادية للمجتمع، والذي يجعلنا على مستوى الكتابة نرى مجموعة من التغييرات أفرزتها الرقمية على مستوى التلقي، وهي تحولات لا حصر لها في هذا المضمار، مع بروز الأدب الرقمي، أو مع رقمنة الأدب، بحيث تغيرت مستويات القراءة وجمالياتها وطبيعة جمهور القراء، بشكل يسائل مستقبل الأدب بشكل عام.
سلطة الحامل
لا شك أن الحامل الرقمي يفرض سلطته على القارئ، فعندما كان الحامل ورقيًا فإن الأمر كان يقتصر على بعض القراء وهذه مسألة لا بد من الإشارة إليها على اعتبار أن الكتاب يحتاج إلى أدبيات تجعله حصرًا على القارئ بالمعنى الدارج أي الذي لديه القدرة على شراء كتاب وقراءته، أي إن صح التعبير عما طالب العلم الذي يشتغل في مسألة معينة، أو التلميذ في المدرسة، أو الباحث الجامعي الذي يكون أما منتسبًا للجامعة أو باحثًا علميًا.
أما حين ننتقل إلى الحامل الرقمي فإن الأمر مختلف تمامًا لماذا؟ لأن الأدب صار متاحًا للجميع والكتاب صار مطروحًا في كل المواقع الإلكترونية، فصار حتى من يبحث عن التفاهات في الإنترنيت يصادف في طريقه قصيدة أو قصة أو كتابًا، فصار الأدب والعلم في كل مكان مطروحًا للعالم والجاهل، للمتخصص ومن لا تخصص له، وكما كانت المعاني، من قبل، كما قال الجاحظ مطروحة في الطريق كذلك صارت المعرفة مطروحة في الطريق فبإمكانك مثلاً عبر محرك البحث غوغل أو باقي محركات البحث أن تكتب كلمة لتحصل على عشرات الكُتَّاب فيها وعشرات الكتب وآلاف المقالات، وهو ما يجعل القارئ يأتي من أصناف متعددة وهو ما يجعل الجماليات كذلك وأشكال التفاعل مع الكِتاب أو المقروء متغيرًا خاضعًا لسلطة الحامل الرقمي، أو المقروء إن صح التعبير لأن الاسم ينبغي أن يتحول من الكتاب بالمعنى الذي كنا نجده بين دفتين إلى المقروء الذي هو رقمي لا يمكن لمسه، وهنا تتحول الجماليات التي تجعل للجميع القدرة على القراءة، وهي قراءة أو قراءات أهم ما يميزها العشوائية، كما سنوضح.
تحَوُّل الكتابة تحول القراءة والتلقي
إن الكتابة التي تغيرت بفعل الحامل الرقمي الذي أتاح كذلك الخروج من الرقابة والتي تجعل الجميع يبدع في أي صنف وينشر عبر مواقع متعددة قد لا تكو بالضرورة في شكل كتاب مصور ومطبوع بدار من دور النشر وهو ما يجعل الكتابة أيضًا كتابات متعددة تجعلنا أمام عوالم لا حصر لها من أشكال الإبداع التي يمكن القول إنها خرجت إلى العلم بفعل هذه التحولات التي للرقمية فصرنا مثلاً على مستوى النشر نجد أن الجميع ينشر وعلى مستوى فن من الفن كالقصة صرنا أمام تحولات لا حصر لها والتي تبعث على التيه من شدة التغيرات التي تقع للجنس الأدبي والتي نذكر منها على سيبل المثال لا الحصر تغيرات مشتوى الأشكال وتنشال الأجناس الأدبية وحول الشكل.
القراءة السريعة
لعل من بين أهم التحولات التي طرأت على فعل القراءة أننا لم نعد نسعى إلى البحث عن المتعة، أو عن لذة القراءة كما يسميها رولان بارت “le plaisir de lire” التي لا شك أنها تكون عبر القراءة المتواصلة التي والعميقة التي تمتد لما يقرب الأسبوع في كتاب واحدج بل إن تدفق المعلومات وتدفق الكتاب والنصوص الأدبية معها تجعلنا نقرأ على سبيل المثال الكتاب على أبعد تقدير فنقرأ الكتاب في ساعات من خلال قراءة ماسحة سريعة من أجل الظفر بما هو أعمق في اعتقاد المتلقي من فيديوهات وصور رقمية وما إلى ذلك من المواد الجمالية التي تجعلنا من البحث عن المتعة.
القراءة البراغماتية وغياب اللذة
إن أهم ما نجده في التلقي الجديد للأدب الرقمي أن المتلقي، في الغالب، لا يبحث عن اللذة في القراءة وهو ما يجعل المرء محصورًا في البراغماتية أي البحث عن المعلومة بشكل مباشر دون الحاجة إلى أي شيء آخر وهذا نشاهده ونجده بشكل كبير عند الطلبة والباحثين والتلاميذ الذين يدعوهم إلى البحث عن الكتابة هدف برغماتي نفعي، ويبحثون عن المعرفة الجاهزة، فقد تجد كتابًا أعظم من كتاب آخر، لكنهم يختارون الكتاب الذي يوصل إلى المعلومة بشكل مباشر، أو الكتاب الذي يفرض على الطالب أو التلميذ فرضًا من خلال برنامج الجامعة أو المدرسة أو الشغل، وهو ما يمكن أن نسيمه القراءة تحت الطلب.
القراءة الانتقائية
من بين الأمور التي صرنا نراها أيضًا أنه من الصعب على الإنسان من خلال الاشتغال على الكتاب الرقمي أو المقروء الرقمي عمومًا أنه لا يمكن أن يقرأ كل شيء ما يضطره بشكل دائم إلى ان يختار بعض الفقرات التي تهم ما يبحث عنه وهو من الأمور التي تجعلنا نتساءل عن إمكانية اتخاذ الأحكام أو ما شابه من خلال هذه الانتقاءات نرى أن الطالب أحيانًا أو المسمى مثقفًا يكتفي بقراءة مقدمة الكتاب وخاتمته أو قراءة بعض فقرات تهم ما يبحث عنه ما يجعله في نهاية المطاف لا يمكنه أن يتكلم لكننا نجده يتكلم كما لو أنه يعرف كل شيء عن ما يقرأه أو عن ما يبحث فيه وهو من الأمور التي تدعونا إلى طرح تساؤل بهذا الشأن.
قراءة الصدفة
المتلقي أيضًا صار خاضعًا للصدفة كما هو الحال لباقي المنشورات أو باقي أشكال التواصل التي نجدها على بوابات الإنترنيت فقد يكون الكتاب أعمق ولا أحد يطلع عليه، حتى ولو كان الكتاب قيمًا كما نرى أن البعض لا يستغل من الكتب إلا ما يصادفه أمامه وذلك لغياب الوجهة والهدف في هذا لصدد، فحتى الباحث في تخصص معين لم يعد يذهب إلى المكتبات للبحث عن الكتب الغنية في الموضوع، إنما يكتفي بما يجده أمامه من كتب رقمية، وهذه القراءة التي تقوم على الصدفة وليس على أهمية ما نقرأه، غير أيضًا من أدبيات القراءة، ومن أدبيات البحث العلمي.
قراءة التفاهة
الحق أن الأعمال الأدبية التي حققت مقروئية كبرى، وعرفت جمهورًا كبيرًا من القراء، وحصلت أحيانًا على جوائز كبرى هي أعمال تفتقد إلى القيمة الأدبية أو العلمية أو الفنية بمفهوم المتلقي التقليدي، وتقوم عادة على التفاهات لأنها تستقطب جمهور القراء العاديين غير المتخصصين والذين يبحثون على التفاهة، ما يسائل قيمة الكتاب والأدب وهو ما يجعلنا في نهاية الأمر ندعو إلى الاهتمام بالذوق الأدبي، وتنميته لتغيير الوجهة والحفاظ على ماء الأدب.
النتائج والآثار
من نتائج هذه الفوضى في القراءة والتي تقوم على الصدفة وعلى غياب ثقافة القراءة، ما نذكره اختصارًا:
غياب القيمة
إن أهم ما غاب في عصر الرقمية هو قيمة الأشياء، ومنها على مستوى المعرفة والعلم، وقيمة العلم وقيمة المعرفة، وقيمة الأدب، وإلا فكيف يمكننا أن ندرك قيمة الكتاب ونحن نعامله كالسندويتش نلتهمه التهامًا من خلال قراءة مسحية أو من خلال بتر بعض فقراتها وتناولها بشكل براغماتي نفعي لا يعطي أهمة للكاتب ولا للكتاب.
هدم صرح الثقافة
كيف يمكن لقراء انتقائيين وانتهازيين أو على الأقل براغماتيين أن ينتجوا المعرفة كما أنتجها كبار المثقفين من قبل كما هو الحال لمثقفي وفلاسفة القرن العشرين، مثلاً، ممن كرسوا حياتهم للثقافة وللعلم وللمعرفة وللأدب، من أمثال سارتر وكامي وفوكو وبارت وغيرهم، أو من العرب أمثال طه حسين وتوفيق الحكيم وعباس محمود العقاد الذي يقول: “أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا وحياة واحدة لا تكفيني ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة، والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة”.
التأثير على الإبداع والإنتاج
إن نوعية القراءة تحدد نوعية الإنتاج والإبداع، ما يجعلنا في هذا الصدد نفقد أيضًا قيمة الإبداع الأدبي الذي يظل خاضعًا للقراءة فلا يمكن أن نكتب أدبًا جيدًا ما لم تكن قراءاتنا جيدة، وفي هذا يقول عبدالفتاح كيليطو في كتابه “Le Cheval de Nietzsche”: “قل لي ماذا تقرأ أقول لك ماذا تكتب”، بحيث إن هذا التحول في جماليات القراءة مع الأدب الرقمي ستؤثر بشكل جذري على الإبداع الأدبي وعلى إنتاج المعرفة، بشكل عام.
تحولات جمهور القراء
أصبح الجمهور لا يتكون إلا من التلاميذ والطلبة الجامعيين أو الأساتذة الذين يرغمون على القراءة بدافع النجاح في الامتحانات ما خلق نوعًا من المحدودية في طبيعة القراء، ففي السابق كنا نجد لكل كاتب قراؤه المخلصون الذين يتلقفون كتبه فور إنتاجها، حتى إننا حين نعود مثلاً إلى القرن التاسع عشر كنا نجد أن دور النشر كانت تؤدي للكاتب من أمثال بلزاك قيمة الكتاب حتى قبل إبداعه، كونها تعرف مسبقًا أن جمهوره ينتظرون هذا الكتاب بلهفة وشوق، وهم يشبهون اليوم جمهور كرة القدم وهم يشترون بطاقات المقابلات الكروية قبل موعد المباراة.
إفساد الذوق الثقافي
إن الذوق الثقافي سيفسد لا محالة لغياب ثقافة قرائية إن صح التعبير، كون القراءة صارت مرتبطة بالمنفعة، ولم تعد هناك رغبة في القراءة من أجل القراءة باعتبارها غاية في ذاتها، ولم تعد القيمة العليمة أو المعرفية غاية أيضًا لافي ذاتها، بل صار الإنسان يقرأ للحصول على شهادة علمية، أو للحصول على وظيفة، وصار أيضًا القراء يقرأون او يتفاعلون مع ما ينشر أحينًا بهدف إشهار كتاب معين أو كاتب معين، أو مضاعفة عدد المشاهدات من أجل الأرباح المالية، ما يمكن معه أن يفسد الذوق الثقافي عامة.
انهدام النقد
الحق أن النقد الأدبي لم تعد لديه مصداقية حين نجد أن الجميع صاروا يتكلمون في ما يعلمون وفي ما لا يعلمون عبر قنوات الاتصال المتاحة التي ترفع من قدر عمل أدبي معين وتحط من الآخر، علمًا أن هذا التفاعل الرقمي أو قل هذا النقد الرقمي يحتسب في تقييم العمل دون الأخذ بعين الاعتبار طبيعة الناقد أو من يقوم بالتعليق، وهو ما يؤخذ به في تحيد مثلاً الأعمال الأدبية الأكثر مقروئية أو الأكثر تفاعلاً، ما يقود إلى قتل الأدب والنقد معان في غياب التخصص.
على سبيل الختم: كيف يمكن خلق جماليات قرائية جديدة؟
التوعية الرقمية
وذلك من خلال العمل على خلق نوع من التوعية عن طريق المدرسة والجامعة ومن ذلك التوعية بأخلاقيات القراءة كجزء من أخلاقيات العلم والمعرفة بشكل عام، وبأدبيات البحث العلمي، لأننا صرنا أمام فوضى كبيرة على مستوى التفاعل التي نجدها أو حتى النشر صار من الصعب أن نعرف أصل النص أو صاحب النص، وهو ما يحول دون احترام الملكية الأدبية والأمانة العلمية.
العودة إلى القراءة العميقة
لا متعة في الواقع تعدل أن تقرأ الكتاب بشكل متأنٍ وبشكل عميق لأن هذه المتعة لا يمكن أن تجدها في غيار قراءة النص كاملاً، صحيح أن الكتابة الانتقائية تفيد أحينًا في البحث العلمي، الا أنه لا يمكن أن تعطينا بشكل شيء في الكتاب.
المزاوجة بين الورقي والرقمي
لا بد كذلك من الاهتمام بالكتاب الورقي لأن متعة القراءة في الكتاب الورقي لا يمكن أن تعدلها أي قراءة أخرى من خلال ما تتيحه من بساطة لنا للتأمل والقراءة بشكل بسيط، وهو ما تفعله القراءة الرقمية إذًا نحن عاملنا الكتاب الرقمي أيضًا بالطريقة نفسها التي نعامل بها الكتاب أو النص الرقمي.
أخلاقيات القراءة الرقمية
للقراءة الرقيمة أخلاقياتها التي لا بد منها، والحق أننا لا يمكن أن نجد أي قراءة تفيد ما لم نعط للكتاب قيمة وهنا نستحضر ما جاء في الأثر من “أن العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا اعطيته كلك” وهذا يعني أن العلم والأدب والمعرفة عمومًا لا يمكن أن نأخذ منه شيئًا ما لم نمنحه الأهمية التي يستحقها، وهنا يمكن أن نقول مثلاً إن سرقة الكتب وتصويرها بشكل غير قانوني يجعلنا لا نعير أهمية للمقروء في حين أننا حين نشتري الكتاب يكون لذلك قيمة وهذه من الأمور التي نجدها في الغرب عادة، بحيث أنه يصعب تحميل أي كتاب دون أداء سعره، وشراء الكتاب عبر البوابات الإلكترونية غالبًا ما يعطيه قيمة، بحيث يشعر القارئ بقيمة الكتاب من خلال تأدية حقوق النشر، في حين أن مجانية المقروء على أهميتها، تجل القارئ لا يولي ما يصادفه من كتب أي أهمية.
عدد التحميلات: 0