العدد الحاليالعدد رقم 43نصوص

مقطوعة من السماء

هنالك من الجرائر ما يستوطن خلد صاحبه وإن التهى العالم عن استذكاره. خصوصًا مع أولئك الذين لا يمتلكون ملكة التعايش مع الزيف بسلام حتى لو كان مدفونًا بداخلهم. مِثلُ ذلك الذنب الذي استوطن نفس ريمو جيازوتو -أستاذ الموسيقى والباحث في تاريخها- بعدما أدلى بادعائه الأخرق. كيف لباحث أكاديمي أن يخوض في التأليف الموسيقي ويدعي ابتداع تلك المقطوعة المعجزة؟ كيف يتجرأ على تقمص لباس الابتكار طيشًا وزورًا؟

لم يُفتتَن ريمو بمعزوفة كما مقطوعة أداغيو (في سلم صول الصغير) للموسيقار الخالد تومازو ألبينوني، والتي تَوّج بجمعها عمله الأكاديمي الدؤوب. كانت مقطوعة سماوية حقًا تكشف لسامعها لمحة عن خبايا الكون، أو قد يُخيّل له برهة أنه فهم سر الحياة. استلبت المقطوعة فؤاده واستحوذت على جوارحه. حينما التأم شملها بفضله، ظلت ترانيمها تعزف في رأسه وتتحرك لها يديه ليل نهار حتى اختبل منها عقله وتشوشت بها أفكاره. بعد نجاحها المهول، اختلط الزيف بالحقيقة عليه فظنها من إنتاجه. لعل نفسه الفاسدة سولت له دخول التاريخ من أسهل الأبواب، عبر الاستئثار بها صعودًا على أكتاف أموات لا يملكون حول الذود عن أنفسهم. ما أرعن تذرعه ذاك “بخوف المبتدئ من الفشل” عندما سئل عن سبب تأخر ادعاءه الفاحش. يا لها من جريرة ستلازمه إلى قبره. هذا ما دار في خلد ريمو جيازوتو والنعاس يغالبه على مكتبه في أحد ليال فلورانس الباردة عام خمس وستين من القرن المنصرم.

***

يُذكَر بأن للنوم تجليات تدنو من الحقيقة قُربًا وتفلت من الذاكرة هربًا كلما ازداد عمقه. بدأ رأس ريمو يثقل، فنومه أصبح مضطربًا منذ أدلى بتصريحه الأخرق. أسند خده على كفه وهو في الغَشيَة الأولى من النوم، تلك التي تتزاحم غرائب الأفكار فيها. تذكر كيف تشابهت منافحات أورليان ويوحنا البانوني في قصة اللاهوتيين لبورخيس حتى تجانست كتاباتهم ثم تلاحمت أشخاصهم في شخص واحد عاش في أزمنة مختلفة. “أيدخل الاستلهام عند أقصى درجاته في دائرة السطو الفكري؟” سأل ريمو نفسه قبل أن يسلمها لمرحلة أعمق من النوم. أخذته النومة الثانية عشر سنين إلى الوراء. سمع طرقًا على الباب أيقظه من نومه. سلّمه ساعي البريد ظرفًا كبيرًا آتيًا من ألمانيا، وجد به قصاصات ورق هائلة العدد نشرها على مكتبه. أخذ يعيد ترتيب قصاصات الورق باجتهاد تحت ضوء مكتبه الخافت مرات وتارات حتى طلع نور الصباح. أصيب بالذهول حينما وجد أعظم مقطوعة عرفها شاخصة أمامه تحت نور الفجر. لم يتوقف رأسه عن ترنيمها وتكرارها حتى أغمي عليه من الإعياء. أخذته النومة الثالثة إلى مكان لم يعهده. كان يسير في الحلم على ضفاف نهر بجانب مكتبة. رأى أسراب طائرات سوداء تغطي سماء المدينة. رأى القنابل تتناثر كالجراد على البشر والشجر والحجر. أصيبت المكتبة وتناثرت أشلاؤها من كتب ومخطوطات وورق. رأى على ضفاف النهر رماد كراس محترق وتالف تمامًا ما عدا استهلال أعلاه، قرأ فيه:

“فاتحة اداغيو (في سلم صول الصغير) لتوماسو ألبينوني”.

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 1

د. أوس الحربش

طبيب وكاتب سعودي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى