
الصورة الشعرية في قصيدة مرثية الحب
تُعَدُّ الصورة الشعرية من أبرز العناصر التي يبحث عنها الناقد عند تحليل أي نص شعري، فهي الوسيلة التي يستخدمها الشاعر لإبراز مشاعره وأفكاره عبر لغة مجازية تجمع بين العمق والجمال.
تُعبِّر الصورة الشعرية عن قدرة الشاعر على تحويل الواقع إلى لوحات فنية نابضة بالحياة، حيث تُقدِّم رؤًى فريدة تُثري النص وتُلامس وجدان المتلقي، ومن خلال التنوع بين الاستعارة، والتشبيه، والتناقض، تفتح الصورة الشعرية آفاقًا واسعة للتأويل، وتكشف عن الأبعاد الفنية والإنسانية الكامنة في النص، وهذا ما نجده في قصيدة مرثية الحب.
القصيدة
جَاءَتْنِي تَنْفُضُ الأَهْ
وَصَوْتُهَا كَأَنَّهُ
لَحْنُ احْتِضَارِ الحَيَاةِ،
دُمُوعُهَا تَكَادُ تَخْنُقُنِي
وَتَضْرِبُنِي كَالْعُشْبِ
تَزِلْزِلُهُ أَمْطَارُ السَّمَاءِ
لِتَعْزِزَ كِبْرِيَاءَهَا،
فَكَانَتْ دُمُوعُهَا
تَنْزِلُ دُونَ نَحِيبٍ أَوْ بُكَاءِ،
تُكَلِّمُنِي بِرِفْقٍ،
تَغْتَصِبُ الوَجَعَ بِكَلِمَاتِهَا،
تَجْتَهِدُ أَنْ تَحْمِينِي
مَرَارَةَ هَـٰذَا اللِّقَاءِ،
تَسْأَلُنِي: كَيْفَ حَالُكَ بَعْدِي؟
مَا لَوْنُ أَيَّامِكَ دُونِي؟
دُونَ أَنْ أُكَلِّمَكَ صَبَاحًا
وَأُسَامِرَكَ المَسَاءِ،
ذِكْرِيَاتُنَا… هَلْ مَا زِلْتَ تَذْكُرُهَا؟
أَيَأْتِيكَ بِاللَّيْلِ طَيْفِي؟
فَوَاللَّهِ يَمْلَؤُا مُحِيطِي طَيْفُكَ
كَالْهَوَاءِ،
أَحْسَسْتُ حَدِيثَهَا
سَيْفًا يَخْتَرِقُنِي،
فَكَانَتْ كَلِمَاتُهَا
تَتَسَلَّلُ لِجِسْمِي
كَالسُّمِّ تَشِلُّنِي
وَتَعْتِمُ أَلْوَانَ الدِّمَاءِ،
يُغْتَالُنِي الأَلَمُ
وَيُشَيِّعُنِي قَهْرِي،
وَالخَيْبَةُ قَدْ شَيَّدَتْنِي
مَوَاكِبَ عَزَاءِ،
هَرَبْتُ بِصَمْتِي
لَمْ يَرْحَمْهَا جَوَابِي،
كَيْفَ أُخْبِرُهَا حَالِي؟
وَحَالِي لِغَيْرِهَا تُقَدَّسُ بِالْوَلَاءِ،
كَيْفَ سَأُجَمِّلُ اعْتِرَافِي
بِعِشْقِي لِآخَرَ
وَقَلْبِي يَنْبُضُ
لِغَيْرِ أُنْثَى؟
وَلَمْ يَعُدْ يُعْنِينِي
غَيْرُهَا مِنَ النِّسَاءِ،
فَتَبَادَرَتْ تَهْمِسُ لِي:
لَقَدْ هَوِيتُ غَيْرِي؟
فَلْتَسْعَدْ مَعْشُوقَتُكَ
بِقَلْبِكَ بِالْهَنَاءِ،
قَدْ كُنْتُ آخِرَ آمَالِي
فِي دُنْيَاتِي،
بَعْدَكَ أَنَا
مَا تَمَنَّيْتُ فِيهَا البَقَاءَ،
عُذْرًا
لَمْ أَشَأْ تَعْكِيرَ مِزَاجِكَ،
لَكِنِّي أَتَيْتُكَ أَمَلًا
أَنْ تَجِيبَ الرَّجَاءَ
لِأَسْمَعَ مِنْكَ آخِرَ زَفْرَةٍ
تَجْلِدُنِي بِهَا حُرُوفُ “أُحِبُّكَ”،
لِتَكُونَ خَاتِمَتِي
وَتُشَارِكَنِي كَفَنِي وَالفَنَاءَ
بِكُلِّ جَحْدِ الأَرْضِ،
رَدَّدْتُهَا لَسْتُ أَنْطِقُهَا،
عَاهَدْتُ نَفْسِي لَنْ أَمْنَحَهَا
إِنْ لَمْ تُغَلَّفْ بِصِدْقِي وَالنَّقَاءِ،
فَقَهْقَهَتْ تَضْحَكُ،
يَا وَيْلَتِي،
أَكَانَ نُبْلُ جَوَابِي أَمْ رِيَاءً؟
فَغَادَرَتْنِي أُضَاجِعُ حَيْرَتِي،
قَسْوَةٌ لَبِسْتُهَا
وَأَنَانِيَّةٌ صَغْتُهَا بِدَهَاءٍ،
وَلَمْ أَزَلْ أَتَسَاءَلُ
حَتَّى جَاءَنِي خَبَرُ
انْتِحَارِ قَلْبٍ
أَغْدَقَنِي يَوْمًا بِالعَطَاءِ،
فَكَانَ يَوْمِي حَالِكًا بَعْدَهَا،
لَمْ تَشْفِعْ لِي
مَوَاكِيبُ رَثَائِهَا،
فَصَارَ حَالِي
أَقْرَبَ مِنْهَا لِلرَّثَاءِ
ولإبراز جماليات الصورة الشعرية وما تتركه من تأثير، سنستعرض فنون البلاغة في الأبيات، بالإضافة إلى الصور الناتجة عن التناقض، مع تحليل الأثر العام لتلك الأبيات.
وأول ما يطالعنا في هذه الأبيات هي الاستعارة، إذ تستند القصيدة إلى استعارات ثرية، مثل:
«كلماتها تتسلل لجسمي كالسُّم»
تصوير الكلمات كمادة تؤثر في الجسد، معبّرة عن شدة الألم النفسي. يستعير الشاعر هنا (السم) للكلمات، مما يوحي بقساوة هذه الكلمات، والتي ربما تؤدي إلى الموت جرّاء سماعها. كما توحي هذه الصورة بأن المحبوبة كالأفعى، وأبرز ما تجيده هو الكلام الذي تتقنه بخفة ورشاقة، متسللةً كما الأفعى لتوقع ضحيتها بشباك كلامها المسموم.
«الخَيْبَةُ قَدْ شَيَّدَتْنِي مَوَاكِبَ عَزَاء»
الخيبة هنا مشيدة لألم دائم، يجسد مأساة الشخصية. استعار الشاعر (مواكب العزاء) لوصف الخيبة التي تلقاها من المحبوب، مما يدل على أن هذا المحبوب قد توفى بالنسبة إليه، بدليل موكب العزاء، وأنه لم يخلّف وراءه سوى الندم، الحسرة، الألم، والخيبة.
ولا تقتصر فنون البلاغة على الاستعارة في هذه الأبيات، إذ نلاحظ أن التشبيه حاضر بقوة:
«تضربني كالعشب تزلزله أمطار السماء»
التشبيه هنا يعبر عن الهشاشة الداخلية للشاعر، حيث صوّر الألم الذي يعيشه وكأنه زلزال يهز كيانه. وبدلاً من أن يضرب الزلزال الأرض ويشتت ما عليها من معالم، نجد أن هذا الألم يضرب الشاعر نفسه، مبعثرا ملامحه النفسية تمامًا كما يفعل الزلزال بالعشب الهش.
«طيفك كالهواء»
تعبير عن الحضور اللامحدود للشخص الآخر. يشبه الشاعر المحبوب الغائب بالهواء، وهي صورة شعرية معبرة توحي بما لهذا المحبوب من تأثير عميق في شخصية المُحب، فبمجرد تذكره، يشعر الشاعر وكأنه يتنفس الصعداء؛ لأن المحبوب يشكل ضرورة وجودية تمامًا كالهواء، حتى وإن كان مجرد ذكرى أو خيالاً.
ولا يكتفي الشاعر باستخدام الصور الشعرية التي تستند إلى فنون البلاغة، بل يستحضر صورًا متناقضة كان لها أثرًا كبيرًا في توضيح معالم الصورة الكلية للقصيدة: «لحن احتضار الحياة»
يجمع بين جمال اللحن ومأساة الاحتضار، فتقوم هذه الصورة على الجمع بين النقيضين: الحياة والموت، وهذه الثنائية المتضادة أظهرت معالم الصورة الشعرية بوضوح، وأبرزت إحساس الشاعر بالألم والجمال في آن واحد.
«كيف أُخبرها حالي؟ وحالي لغيرها تُقدس بالولاء»
تصوير يحمل تناقضًا بين الواقع والحقيقة المكبوتة. يستمر الشاعر في رسم معالم الفراق بينه وبين محبوبته بثنائية متضادة، وكأن ما غيبها ليس الموت، بل البعد القسري والخارج عن المألوف. القدر هنا يلعب دورًا رئيسيًا، مما يبرز حالة الصراع الداخلي للشاعر.
كل هذه التناقضات أسهمت في رسم الصور الشعرية في النص، التي تنقل بصدق الصراع الداخلي العاطفي للشاعر، إذ تعبر الأبيات عن مشاعر: الحب، الخيانة، الندم، البعد الجائر القهري، والاختفاء، مما يجعلها شديدة التأثير في المتلقي، وكأن الشاعر يرثي معالم هذا الحب، فجاءت القصيدة مليئة بالصور المفردة التي توضح وترسم غاية واحدة، وهي الشفقة على صرح هذا الحب الذي تلاشى حد الاختفاء، هذا وتميزت القصيدة بقدرتها على توظيف الصورة الشعرية بثراء، مما يجعل القارئ يغوص في عمق المشاعر الإنسانية وتناقضاتها المختلفة.
الهوامش:
اعترافات رجل، بلال الدرع، دار آراء، ط1، بغداد، 2024 :35-39.
عدد التحميلات: 0