
من الآداب العالمية أدب الرعب القوطي
قلاع عملاقة مظلمة، أبواب سحرية غامضة، أقبية متعفنة وممرات سرية مخيفة، أشباح ومصاصو دماء، ظواهر غريبة، قوى خارقة، مستذئبون وأشخاص مصابون بأمراض غريبة ومشاهد مرعبة مثيرة للاشمئزاز. هذه العناصر هي أبرز ما يتسم به أدب الرعب القوطي الذي لقيَ شهرةً واهتمامًا وإقبالًا واسعًا في العالم الغربي في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر للميلاد.
خلال هذين القرنين ازدهر نوع من الأدب الرومانسي dark romance الذي يتضمن قصص وروايات رعب مخيفة اصطلح عليه: «أدب الرعب القوطي». يتميز هذا الأخير بهيمنة الرعب والغموض على الأجواء ووجود التشويق كعنصر أساسي لا غنى عنه. ظهر في إنجلترا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر مع رواية «قلعة أوترانتو» (the castle of otranto) للكاتب الانجليزي هوراس وولبول سنة 1765م، والتي تعتبر أول رواية رعب قوطية لتليها بعد ذلك أعمال وروايات قوطية أبرزها: أسرار أودولفو، دراكولا، و فرانكنشتاين. السبب في إطلاق اسم القوطية (Gothic)على هذا النوع من الروايات هو أن أصحابها اتخذوا من القصور والمباني ذات الطراز القوطي إطارًا لأعمالهم؛ فمثلًا نجد أن أحداث رواية دراكولا تدور في قلعة مظلمة مرعبة.
أولًا: العمارة القوطية:
هي منجز معماري ازدهر في أوروبا في أواخر القرون الوسطى وتحديدًا في فرنسا في منتصف القرن الثاني عشر إلى نحو 1400م. يقترن بعصر إنشاء الكنيسة في أوروبا الشمالية ويتسم هذا الطراز غالبًا بنمط معماري معين: كالأقواس البارزة المدببة، والسقوف العالية، وزجاج النوافذ الملون، والأقبية المضلعة…كان هذا الطراز المعماري مستعملًا على نطاق واسع خاصة في الكاتدرائيات والأديرة والكنائس في أوروبا، إضافة إلى قاعات المدينة والنقابة والجامعات وحتى بعض المساكن والبيوت. وسمي هذا الفن المعماري بالقوطي نسبة إلى قبائل القوط الألمانية البربرية التي أسقطت الإمبراطورية الرومانية واجتاحت إيطاليا في القرن الخامس الميلادي والتي أحضرت معها فنًّا فظًا يتسم بالغرابة وغياب التنظيم والتناسق. هذا النمط المعماري كانت له تجليات في أدب الرعب القوطي.
يركز هذا النوع من الأدب على الموت، الخراب، الدمار، الرعب والفناء. ويلاحظ في أغلب الروايات القوطية أن الأحداث قائمة على اللاعقلانية والشغف والرغبة، لا على المنطق والسبب. نما هذا الأدب وازدهر كنتيجة للوضعية التاريخية، الاجتماعية، النفسية والسياسية في أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع العشر. ورغم أن بدايات الحركة القوطية كانت واضحة إلا أنه من الصعب تحديد نهايتها، هذا إذا كانت قد بلغت النهاية أصلًا. فكما علمنا من قبل، ازدهرت الرواية القوطية في القرن التاسع عشر ولكن القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين شهدًا استمرار ونمو هذا الولع والتعلق الكبيرين بالرعب وعوالم مصاصي الدماء والمستذئبين والظواهر الخارقة للطبيعة مما يبرهن أن جاذبية وقوة الأدب القوطي استمرت في الانتشار والتأثير إلى فترات متأخرة. في سعي لتسليط الضوء على الجانب المظلم من الطبيعة الإنسانية وفوضى اللاعقلانية، يمنح الأدب القوطي القارئ المعاصر لمحات من الجو الاجتماعي والفكري الخاص بالزمن الذي تم فيه إنتاج العمل الأدبي، زمن يمزج بين: الجنون والعقلانية، الثورة والخضوع، الحلم والكابوس.
ثانيًا: أعلام مدرسة أدب الرعب القوطي:
ذكرنا سالفًا أن أول من أشعل فتيل الأدب القوطي هو الكاتب الإنجليزي هوراس وولبول بروايته (قصر أورتانتو)، لتليه بعد ذلك سلسلة من روايات رعب حبست أنفاس القراء ولاقت رواجًا واسعًا. أبدعتها أفكار كتاب ذوو مُخيلة خصبة فظلت أسماؤهم خالدة في تاريخ الأدب العالمي مثل:
1ـ هوراس وولبول (Horace Walpole)
ولد بلندن، عاش في الفترة الممتدة ما بين 1717م و1797م. تلقى تعليمه في جامعتي إيتون وكامبريج. أنشأ صداقة مع كل من توماس قراي، ريتشارد وست وتوماس أشتون الذين كانوا من الأعضاء الأوائل في ما يسمى بمدرسة المقبرة الشعرية. (Graveyard school of poetry) والتي سميت كذلك بسبب تركيز أعضائها على: الموت، الدمار، والفناء الإنساني. تأثر وولبول بالعديد من الكتاب خاصة قراي الذي اعترف له هوراس بأنه صاحب الدور الأكبر في تطوير أسلوب كتابته لروايات الرعب القوطية. سنه 1739م قام ووليول بجولة حول القارة الأوروبية الأمر الذي كان عاملًا أساسيا في تطوير أسلوبه ككاتب رعب. سنه 1764م نشر أكثر أعماله شهرة ونجاحًا: (قلعة أورانتو) والتي صنفت كأول رواية رعب قوطية. غير أن الأمر المحيّر أن الكاتب نفسه تبرأ من روايته مدعيًا أنها ترجمة لنص إيطالي.
بعد نجاح الرواية وإصدار الطبعة الثانية، اعترف وولبول بأن الكتاب من تأليفه. بعد مسيرة حافلة بالكتابة والسياسة، توفي وولبول في الثاني من مارس عام1797م في لندن.
2 ـ وليام باكفورد (William beckford)
يُعدُّ روائيًا، ناقدًا، جامع قطع فنية وأحيانًا رجل سياسة. ولد عام 1760م بلندن، وعُرف بكونه أثرى رجل من الطبقة العامة في إنجلترا. كان باكفورد رجلًا لامعًا، موسيقيًا موهوبًا وذا حس فني عال رغم ما عرف عنه من غرابة أطوار وفحش ومجون. لم يستهوه درب والده ولم يرغب أن يتتبع خطاه ويدخل عالم السياسة والأعمال، وإنما كانت شغوفًا بالسفر والكتابة وجمع القطع الفنية الجميلة. ومن أهم صفات باكفورد شغفه بحركة الاستشراق. فقد قرأ كتاب الليالي العربية عدة مرات في سن مبكرة، مما ألهمه كتابه روايته فاثك (VATHEK) سنة 1768م. توفي سنه 1844م بعد صراع طويل مع الحمى والأنفلونزا.
3 ـ إيميلي برونتي ( Emily bronte)
كاتبة روائية وشاعرة. ولدت في إنجلترا سنه 1818م. فقدت والدتها وأختيها في سن مبكرة بسبب مرض السل الرئوي، مما جعلها أكثر قربًا وتعلقًا بباقي أفراد عائلتها. كانت ايميلي وأخواتها يقمن بنشر بعض القصائد بأسماء مستعارة رغم أن إيميلي تعتبر أكبر موهبة شعرية في العائلة. نشرت للأخوات العديد من الدواوين الشعرية. كما نشرت إيميلي روايتها القوطية الوحيدة (مرتفعات ويذرينغ) والتي نشرتها تحت الاسم الذكوري المستعار (ايلي بيل). توفيت في الثلاثين من عمرها نتيجة لإصابتها بالسل كباقي أفراد عائلتها. بعد وفاتها أعادت أختها نشر روايتها باسمها الحقيقي.
4 ـ إدجار ألين بو (Edgar Allan poe)
كاتب وشاعر أمريكي ولد ببوسطن، مستشوستس. تم تبنيه من طرف رجل الأعمال جون ألان منذ سن الثالثة. عانى كثيرًا في حياته بسبب الفقر والفاقة و حاول أن يجعل من الكتابة مصدر دخل له. اتجه إلى الإدمان الكحولي في محاولة يائسة ليتناسى معاناته. شملت كتاباته مختلف العناصر المميزة لأدب الرعب القوطي مثل: أحداث ما وراء الطبيعة، الأماكن المظلمة، الرعب والبنايات الهشة المخيفة. ويعتبر بو من أهم ممثلي أدب الرعب في القرن التاسع عشر.
5ـ آن رادكليف (Anne Radcliffe)
كاتبة بريطانية ولدت بلندن، كتبت سلاسل من روايات الرعب الرومانسية. تعتبر رادكليف من أكثر كتاب الرعب تأثيرًا. اسم رادكليف مرادف تقريبًا لاسم نوع من الأدب القوطي، نوع يستعمل الأحداث الغريبة الماوراء طبيعية لكنه يوفر تفسيرًا منطقيًا للأحداث في النهاية. (أسرار أدولفوا) هي أحد أبرز وأهم أعمال رادكليف.
ثالثًا: إنجازات أدب الرعب القوطي:
تميز هذا اللون من الأدب بالتركيز على الرواية كجنس أدبي؛ لما كانت تمثله الرواية من ملامسة للواقع الاجتماعي والسياسي ولقربها من المتلقي سواء القارئ في الحالة العادية، أو ما تم استثماره في المجال السينمائي؛ إذ الكثير من روايات الرعب القوطية أنجزت كأفلام وروجت لها السينما العالمية، ومن أشهر هذه الأعمال ما يلي:
1ـ قلعة أوترانتو (The castle of otranto)
تعد (قلعة أوترانتو) لصاحبها وولبول التي نشرت سنه 1764م أول رواية رعب قوطية في العالم. أدرج الكاتب في هذه الرواية مختلف عناصر أدب الرعب، كالقلعة القوطية التي تدور فيها أحداث القصة والتي يفترض أن زمنها الفعلي ثلاثة أيام وليلتان فقط. حيث أن القلعة تكاد تكون شخصية وكيانًا قائمًا بحد ذاته. إضافة إلى استعمال جو كئيب: أجراس منتصف الليل، ممرات ودهاليز مظلمة. تدور هذه القصة الغريبة حول مانفريد، أمير أوترانتو الذي يملك إبنا واحدا فقط يدعى كونراد. خلال حفل زفاف كونراد والأميرة إيزابيل، سقطت خوذة تمثال عملاقة على رأس كونراد وكانت سببًا في أن يلقى حتفه. يقرر مانفرد بعد ذلك أن يترك زوجته ويتخذ ايزابيل زوجة له حتى تنجب له وريثًا لكن إيزابيلا ترفض ذلك مما يدفعها إلى الهروب إلى سرداب القلعة محاولة الخروج من متاهة الأنفاق للاحتماء بالكنيسة. وهكذا تتوالى الأحداث وتتناوب بين مد وجزر ومطاردة وسجن. كان لهذه الرواية المشوقة تأثير كبير على مسار أدب الرعب، حيث استطاع الكاتب استعمال مخيلته وإبداعه لينتج كتابًا عاش عقودًا بعد تأليفه.
2 ـ دراكولا (Dracula)
نشرت هذه الرواية للمرة الأولى سنه 1897م من طرف الكاتب الإيرلندي برام ستوكر. قبل الشروع في كتابة الرواية، قضى الكاتب سنة كاملة يبحث ويقرأ عن مصاصي الدماء. تتحدث القصة عن جوناثان هاركر، محام شاب، يزور قصر الكونت دراكولا المنزوي في منطقة جبلية من أجل صفقة عمل لصالح شركته. لكن دراكولا يتقفى أثر جوناثان ويتبعه إلى إنجلترا. وهناك كان يطارد مينا خطيبة هذا الأخير. بدأت علامات الشحوب تظهر على لوسي صديقة مينا حيث كانت تموت تدريجيًا ولذلك تم استدعاء خبير مصاصي الدماء البروفيسور فان هالستين. لكن لوسي المسكينة ماتت بعد مهاجمتها من طرف أحد المستذئبين، ليكتشف البروفيسور أنها أصبحت حية في صورة أخرى: أصبحت مصاص دماء مما أدى إلى قتلها نهائيًا. تتزوج مينا وجوناثان فيما بعد لكن دراكولا لم يستسلم بل يحاول خلق صلة تربطه بمينا عن طريق تطعيمها بدمائه دوريًا. استغل جوناثان والبروفيسور هذه الرابطة لاكتشاف مكان اختباء دراكولا. في نهاية القصة يقتل دراكولا ويتحول إلى غبار لتتحرر مينا منه وتتزوج جوناثان ويعيشا سعادة بعد ذلك.
3 ـ فرانكنشتاين (Frankenestein)
رواية فرانكنشتاين لصاحبتها ماري تشالي نشرت لأول مرة سنه 1818م. اعتبرها العديد من النقاد أول رواية خيال علمي حديثة. لكن تشيلي ركزت في روايتها على: العزلة، الأحداث الغير الطبيعية والأماكن المسكونة والتواجد المزدوج، مما جعل من الممكن تصنيف الرواية كعمل أدبي قوطي. يكتشف العالم الشاب فيكتور فرانكنشتاين طريقة يستطيع بمقتضاها بث الحياة في المادة فيبدأ بصنع كائن عن طريق جمع أعضاء الجثث وبواسطة الصواعق بثّ فيه الحياة. لكنه ارتكب خطأ جعل المخلوق ذا شكل مخيف مرعب فهرب من المختبر قبل استيقاظه. يهرب ذلك المسخ ويتوارى عن العيون لأنه يخجل من شكل المرعب المخيف، فتراه يقصد الأماكن المظلمة المنزوية. قتل هذا الوحش العديد من أقارب وأصدقاء فرانكنشتاين بل وحاول قتل فرانكنشتاين نفسه كما قتل زوجته، فقرر فرانكنشتاين الانتقام من المسخ ويطارده إلى القطب المتجمد إلى أن يموت. فيحس المسخ بالخزي والعار بسبب صنيعه عندما يرى خالقه ميتًا، ويلقى بنفسه في النار كملجأ أخير.
4 ـ ملموث المتجول (Melmoth the wanderer)
كتبها تشارلز روبرت ماتورين سنة 1820م. تعتبر هذه الرواية المشوقة آخر رواية رعب قوطية. إنها قصة الشاب ملموث الذي قايض روحه وباعها للشيطان مقابل أن يعيش مئة وخمسين سنة إضافية. غير أنه ندم فيما بعد على ذلك القرار فقرر إيجاد شخص يأخذ الصفقة بدلًا عنه حتى يتحرر. تذكر الرواية تفاصيل كثيرة مليئة بالحكم، حيث أن ملموث قرر الظهور للأشخاص الذين يعيشون حياة بائسة، ورغم ذلك لم يوافق أي منهم على عرضه. نأخذ على سبيل المثال أنه ظهر في إحدى المرّات لسيدة شابة جن حبيبها وعرض عليها أن يشفيه مقابل أن تأخذ عنه تلك الصفقة لكنها رفضت. في نهاية الرواية يجد ملموث أن لا مهرب من تلك الصفقة ويضطر إلى التضحية بروحه ومنحها للشيطان في النهاية.
5 ـ الراهب (The monk)
الرواية من تأليف ماثيو قريقوري لويس سنة1795م. استغرق عشر أسابيع فقط لكتابتها وإنهائها لكنها نشرت سنة 1796م. كانت رواية (أسرار أودولفو) هي مصدر إلهام لويس ليكتب هذه الرواية. تتكون الرواية من قصتين مختلفتين. تتحدث القصة الأولى عن عاشقين تفرقهما عائلاتهما والكنيسة الكاثوليكية حيث تؤخذ العاشقة الحامل إلى الدير أين تسجن وتقيد ليتم تعذيبها. تلد المسكينة في زنزانتها ويموت ابنها أمام عينيها بطريقة مزرية وشنيعة فعلًا. أما القصة الثانية فتتحدث عن الراهب أمبروسيو الذي خرق كل عهود ونذور العفة بسبب مكيدة من صنع ماتيلدا الشريرة، خلال سلسلة من الأحداث المتشابكة يقتل الراهب امرأة ويغتصب أخرى، ثم انتهى به المطاف مسجونًا وقد باع روحه للشيطان ليموت في النهاية ميتة شنيعة.
6 ـ أسرار أودولفو (The mysteries of odolpho)
رواية (أسرار أودولفو) لصاحبتها رادكليف والتي ظهرت سنه 1794؛ كتبت استلهامًا واعتمادًا على أعمال وولبول. استعملت الكاتبة عدة تقنيات لتأطير روايتها ووضعها في قالب رعب. يلاحظ أن الكاتبة اعتمدت على عنصر التشويق بشكل أساسي في هذه الرواية. تدور أحداث القصة في العصور الوسطى في فرنسا وإيطاليا. لم تكن روايتها مرعبة دموية كما هو الحال مع كثير من معاصريها لكنها اعتمدت على الممرات السرية. كما شملت الرواية بعض صور العنف والمطاردات. تتحدث القصة عن إيميلي، بطلة القصة التي تجد نفسها في قصر مسكون مليء بالظلال وآثار الأقدام وحتى موسيقى وضوضاء لا تفسير لها. أدرجت رادكليف الكثير من العناصر الماوراء الطبيعية لكنها وفسرت تفسيرا منطقيا في النهاية.
7 ـ وايلاند (Wieland)
ظهرت هذه الرواية عام 1798م للكاتب الأمريكي تشارلز بروكدن براون. تعتبر أول رواية رعب قوطية في الولايات المتحدة الأمريكية. يتميز هذا العمل بعمقه في دراسة ومعالجة الأبعاد النفسية للشخصيات، إضافة إلى اعتماده التام على طابع الرعب. يحاول براون في هذه الرواية أن يوضح فكرة معينة مفادها أن المبادئ تقطن في ضمير كل فرد منا، لكن الدين أو القيادة الدينية المكشوفة والمعلنة يمكن أن تؤدي إلى نهايات مأساوية. في هذه الرواية يقوم الشيطان بخدعة، مستغلًا الحماسة والإذعان للدين، ويقنع ويلاند وهو الشخصية الرئيسية للقصة بقتل عائلته بحجة أنها إرادة الله. فقام هذا الأخير بقتل زوجته وأولاده وهربت أخته لتروي لنا القصة. في هذه الرواية يحاول الكاتب توضيح عقلانية التنوير ولا عقلانية الحماسة الدينية. بهذا ينتقل براون بفن أدب الرعب من الأحداث الغريبة والتشويق إلى الغوص في عالم علم نفس الإنسان. هل يعتبر ويلاند مجنونا بسبب فعلته؟ هل يمكن القول إن جرائمه انبثقت من الجنون أم أنها استجابة عادية للأوامر الدينية التي جعلت تصرفاته غير عقلانية ولا مقبولة؟. تتميز هذه الرواية بطابعها الكئيب والمظلم. غير أنها تظل قطعة ثمينة في تاريخ الأدب الأمريكي عامة.
رابعًا: أهم مواضيع هذا الأدب
1ـ الرعب والذعر (Terror and horror)
يعتبر الذعر والرعب من أهم الأدوات المستعملة في أدب الرعب. منحت رادكليف لكل مصطلح تعريفًا خاصًا به مبينة أن الرعب هو الإحساس بالتشويق حيث يعيش القارئ الرعب عندما يترقب وينتظر وقوع أحداث مروعة ومخيفة يُلمح إليها فقط ولا يتم تناولها مباشرة. بينما تعيش الذعر بتناول أمور شنيعة بشكل صريح عندما تحقق توقعات القارئ وتحدث تلك الأحداث المروعة فعلًا ولهذا ركزت رادكليف في رواياتها على عنصر الرعب عن طريق الوصف الدقيق للممرات السرية واحترافيتها في تصوير الأحداث الغير طبيعية.
2ـ الظاهر والحقيقة (Appearance and reality)
يركز أدب الرعب القوطي على اكتشاف الفرق بين ما يبدو لنا وبين الحقيقة. فمثلًا في أعمال رادكليف، تبدو الأحداث كأنها تأخذ منحى غير طبيعي أو ما وراء طبيعي. لكن في نهاية العمل تقدم الكاتبة تفسيرًا منطقيًا للأحداث. رغم أن بعض كتاب الرعب لم يفرقوا في رواياتهم بين ما يبدو وما هو حقيقي، تركوا الأمر غامضًا للقارئ مما يؤدي إلى خلق جو من الغموض والارتباك في الرواية. ولذلك كان التفريق بين الواقع والظاهر موضوعا تناولته معظم روايات الرعب.
3 ـ الاحتجاز (Confinement)
تقريبًا كل روايات الرعب في القرنين الثامن والتاسع عشر للميلاد كانت تحوي بعض عناصر الحجز أو السجن. وكان طابع الكلوزتروفوبي (claustrophobia)الذي يطغى على هذه الروايات وعلى أدب الرعب عمومًا محط أنظار وتعليقات النقاد. يتجسد ذلك عادة في احتجاز بطل القصة في قلعة عتيقة حيث تدور أغلب أو جميع الأحداث. ويحاول البطل جاهدا الهروب من غرفته أو زنزانته ليجد نفسه تائها في تلك القلعة المخيفة دون مخرج واضح. نأخذ شخصية إزابيل في قلعة أورتانتو كمثال، أو أجينز في رواية الراهب التي سجنت وقيدت ليتم تعذيبها. إن الصراع مع الاحتجاز ومحاولة الهروب هو ما يخلق كلًا من الخوف والرعب في نفس القارئ. من أبرز مشاهد الاحتجاز وأكثرها رعبًا ما جاء في قصة سقوط بيت آشر للكاتب الأمريكي إدجار بو، حيث دفنت مادلين آشر حية وهذا يخلق شعورا غير مريح لدى القراء.
خامسًا: الأسلوب: يمكن إيجاز أهم سمات أسلوب أدب الرعب القوطي في المعالم التالية:
1 ـ المحيط (Setting)
في أدب الرعب القوطي، يعتبر المحيط (الزمكان) أهم أداة أو عنصر. عادة ما تعتمد روايات الرعب على مكان خال مظلم مريب يكون في الكثير من الأحيان عبارة عن قصور أو قلاع قديمة مظلمة أو مسكونة؛ فمثلًا، في رواية وولبول (قلعة أورتانتو) تلعب القلعة بحد ذاتها دورًا رئيسيًا في الرواية ولها دور كبير في تأطير الرواية وإعطائها نكهة الرعب الخاصة. ولذلك يمكن القول إن المحيط يلعب دورًا هامًا في توفير كمية من التشويق مساوية لتلك التي توفرها الشخصيات أو حبكة القصة. إضافة إلى ذلك يحرص كتاب الرعب على إرساء قصص في الماضي البعيد وتحديدًا في العصور الوسطى رغم أنهم لم يتمكنوا من وصف ذلك الزمن كما كان فعليًا.
ولأن الأماكن غالبًا ما تكونُ غامضةً، سريةً ومعتمةً في أدبِ الرعبِ نجد أنَّ خصائصَ الزمنِ تكونُ مشابهةً لذلك أيضًا. حيث تقعُ الأحداثُ عادة ًفي أوقاتِ انتقال زمني بين فترتين (= بين العصورِ الوسطى وعصرِ النهضةِ مثلاً) أو قد تجمعُ بين زمنين مختلفين كليًا، فنرى اختلافًا صارخًا في أدبِ الرعبِ بينَ ما هو حديثٌ جداً وما هو قديم.
2 ـ السرد (Narrative)
السرد هو عملية كتابة سلسلة من الأحداث حقيقية أو خيالية بترتيب متناسق محدد. في النقد الأدبي يستعمل مصطلح تقنية السرد للتعبير عن طريقة الهيكلة والعرض الذي يستعملها الكاتب لقصته. في أدب الرعب يستعمل الكاتب طريقة سردية معقدة نوعًا ما لأنه عادة ما يتم استعمال حبكات متداخلة وعادة ما يظهر أن الأحداث غير مترابطة كما يلحظ القفز من زمن لآخر ومن حدث لآخر بشكل مربك غير مرتب، حيث لن تستطيع فهم ما يحدث حقا إلا ببذل جهد وتركيز.
سادسًا: أدب الرعب القوطي في الهندسة والفن:
بقي أن نشير في الأخير إلى تداعيات أدب الرعب القوطي خارج مجال الأدب الذي تشكل فيه من ذلك مجال المعمار ومجال الفن التشكيلي خاصة، فخلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كان امتداد حركة أدب الرعب القوطي قد تخطى حدود الأدب ليجتاح الهندسة أيضًا. ويعتبر ويليام كانت (william kent) من أهم وأشهر المصممين في ذلك الوقت. وهو الذي ساعد الكثير من ملّاك الأراضي الأثرياء في تصميم وبناء مناظر ومباني دقيقة وتشمل هذه التصاميم: الأبراج، القلاع والكنائس المبنية بطريقة توحي أنها تنتمي للقرون الوسطى.
إضافة إلى ذلك، ظهرت مجموعة من الفنانين في ذلك الوقت وضمت الفنان الإسباني فرانسيسكو دي قويا (francisco de Goya) والشاعر والنحات الانجليزي ويليام بلايك (wiliam Blake) اللذان قدما أعمالًا وتحفًا بصرية تجسد القوطية. في مجال الفن وتعتبر لوحة «غياب السبب يخلق وحوشا» (the sleep of reason produces monsters) للرسام دي قويا أحد أهم أو ربما اللوحة الوحيدة المؤرخة للمذهب القوطي.
وهكذا انتشر هذا النمط من الكتابات الأدبية إلى أن غدا صفحة من صفحات الأدب العالمي.
عدد التحميلات: 0