العدد الحاليالعدد رقم 43ثقافات

علم الترجمة وتكامل الأدب

الترجمة هي نشاط مهم ومتجذر في الفن، تُفعِّل مشاعر الفضول البشري وتوفر القدرة على فك شفرات الصور الخيالية والتعبير عنها. لهذا العلم دور نشط في تشكيل المجتمعات ونشر وتبني الزخم الثقافي. إن الكلمات المُعرَّبة في الأدب العربي منذ العصر الجاهلي وحتى الفترة الكلاسيكية هي عبارات اصطيدت من خلال الترجمة. لقد استنار الأدب في فترة المُخضرمين وما بعدها بانعكاسات اللغات والثقافات الإقليمية.

تأثير الأدب الغربي، خاصة من خلال حركات الاستعمار، وجد صدى في مناطق قريبة من إفريقيا مثل مصر، مما أدى إلى تبني أفكار ومفاهيم جديدة مستمدة من الرياح الغربية. ترجمة الأعمال الأدبية الغربية وتأثيرها على الروح الإنسانية قد أدت في بعض الأحيان إلى ظهور أعمال جديدة متأثرة بها، لكن بمضمون وطني.

في عالمنا اليوم، زاد الإقبال على فن الترجمة، مما أدى إلى نمو جمهور المتابعين لهذا الفن وتخريج محترفين في هذا المجال. إن دور الترجمة في إغناء الحياة الثقافية والاجتماعية والعلمية والأدبية للأمم المختلفة لا يمكن إنكاره أو تجاهله. لقد لعبت الترجمة دورًا حضاريًّا وثقافيًّا وعلميًّا منذ بزوغ فجر التاريخ البشري، ولا تزال تقوم بدورها حتى وقتنا هذا وستستمر في أدائه ما بقي للبشر حياة على وجه الأرض.

إن الترجمة قدر مشترك بين كل الحضارات والأمم، ولا توجد أمة أو حضارة لم تأخذها عن غيرها. لقد حفظت الترجمة تراث الإنسانية كلها وزادت عليه ونقلته للأجيال التالية. كانت الترجمة دائمًا جسرًا للتواصل بين الشعوب والحضارات على مر التاريخ، تعزز التلاقي والتلاقح الحضاري، وترعى التقارب الثقافي بين الشعوب، تدحض الصدام وتدعم الحوار الثقافي بين أمم الأرض وتفتح النوافذ على الثقافات الأخرى.

تأثير الأدب الروسي على الأدب العالمي كان بفضل الترجمات. أعمال ليف تولستوي وفيودور دوستويفسكي وصلت إلى جمهور واسع وأسهمت في تطوير الفهم الأدبي بفضل الترجمات. وبالمثل، فإن ترجمة عبدالله بن المقفع لكتاب “كليلة ودمنة” أثرت بشكل كبير في العالم العربي وأصبحت جزءًا مهمًا من التراث الثقافي.

لعبت “منطق الطير” دورًا رئيسيًا في قصص وأدب الشعوب العالمية. هذا العمل لفريد الدين العطار وجد مكانه في ثقافات مختلفة بفضل الترجمات وأصبح رمزًا للرحلة الروحية. الأدب الفرنسي أيضًا له نصيب كبير من الترجمات المحبوبة، مثل “البؤساء” لفيكتور هوغو و”مدام بوفاري” لغوستاف فلوبير، التي وصلت إلى جمهور واسع بفضل الترجمات.

في تاريخ الرواية المصرية، نجد العديد من الكتّاب الذين أبدعوا في مجال الترجمة وساهموا في الأدب العالمي. نجيب محفوظ، أحد أبرز الشخصيات الأدبية في مصر، اكتسب شهرة دولية بفضل ترجمات أعماله.

الأدب التركي أيضًا شهد حركات ترجمة جلبت تأثيرات من الأدب العالمي في فترات معينة. فترة التنظيمات والسنوات الأولى للجمهورية كانت مهمة لترجمة الأدب الغربي إلى التركية وتأثير هذه الأعمال على الأدب التركي. نماذج مثل نامق كمال وأحمد مدحت أفندي وغيرهم من الكتاب الذين استلهموا من الغرب وساهموا في الأدب التركي من خلال ترجماتهم.

الترجمة تتجاوز الحواجز اللغوية، مما يتيح تبادل الأفكار والمعارف. تاريخيًا، كانت الترجمة جسرًا بين الثقافات والشعوب، تهدف إلى التفاهم والتعارف. من خلال ترجمة الأعمال الثقافية والفنية، يتعرف الأفراد على تقاليد وحضارات الشعوب الأخرى، مما يعزز التفاهم المتبادل ويقوي العلاقات الدولية. كما تساعد الترجمة في الحفاظ على الهوية الثقافية وتسهيل التواصل السياحي والدبلوماسي، مما يسهم في بناء روابط ودية بين الأمم.

العالم المعاصر وضع الدول النامية أمام تحدٍ بالغ، وخيار بين الحياة من خلال مواكبة التطور العلمي المتواصل، أو الموت بين الركام. وحدها الترجمة هي القادرة على بناء الجسور التي يمكن من خلالها عبور الإنجازات البشرية. على سبيل المثال، اليابان وكوريا الجنوبية حققتا تقدمًا كبيرًا في المجالات التكنولوجية والاقتصادية بفضل ترجمة الابتكارات العلمية بسرعة إلى لغاتهما.

ويمكن تلخيص مساهمات ترجمة الرواية في الأدب على النحو التالي: ليست ترجمة الرواية مجرد نقل عمل أدبي من لغة إلى أخرى، بل هي أيضًا وسيلة لالتقاء الثقافات والأفكار المختلفة وتبادلها. على سبيل المثال، في الغرب، أدت الترجمات إلى تعزيز الثروة الإيمانية والثقافية. أصبح كات ستيفنز (يوسف إسلام) مسلمًا بعد قراءة ترجمة إنجليزية للقرآن الكريم. يوضح هذا الأمر مدى تأثير الترجمة على العوالم الفكرية والعاطفية للأفراد.

وقد تسببت كلمات كونفوشيوس التالية، التي ترجمت إلى لغات أخرى، في إثارة الحركات الثقافية والفكرية والعاطفية:

  • “ما دمت مستمرًا في المحاولة، فلا يهم مدى بطئك.”
  • “رؤية الحق وعدم فعله هو نقص في الشجاعة.”
  • “من لا يعرف ما يبحث عنه، لن يفهم ما يجده.”
  • “الناس المتعلمون يتخذون العدل مبدأ ويطبقونه بانتظام؛ يؤسسونه بتواضع وينفذونه بإخلاص.”
  • “افعل الخير دون أن تسعى لأي مصلحة شخصية، فقط من أجل فعل الخير.”
  • “بدلاً من شتم الظلام، أشعل شمعة.”

الترجمة هي قدرة الحداثة التي تخاطب كل العصور. عدم الاستفادة من الترجمة والتهاون في الأنشطة التي تُعزز علم الترجمة يعني الحرمان من المعرفة التقنية للعصر. لا يمكن نسيان أن الترجمة تشكل مرجعًا مهمًا في حماية المستقبل والاستقلال.

في يومنا هذا، تُخَطَّط السياسات الانتشارية والتنموية لكلٍّ من الشرق والغرب والشمال والجنوب بناءً على الترجمة. كل دول أوروبا، بل حتى الصين واليابان وكوريا، تقوم بسرعةٍ بترجمة الابتكارات العلمية إلى لغاتها. لهذا السبب، يجب علينا إحياء حركة الترجمة لمواكبة العصر الجديد.

في الدول الإسلامية، يمكن أن تسهم حركات الترجمة في إصلاح التعليم المتعثر بسبب الاضطرابات. ترجمة المواد التعليمية والمنشورات العلمية يمكن أن تساعد في سد الفجوة المعرفية ودعم تعليم الأجيال الشابة. كما أن ترجمة الأعمال الثقافية والفنية يمكن أن تدعم تطور الفن والأدب في هذه المجتمعات.

ومع ذلك، فإن محركات الترجمة لا تمتلك القدرة على التفكير والشعور مثل الإنسان، وبالتالي قد لا تعكس الجوهر الكامل للنصوص. لذلك، فإن دور الإنسان في الترجمة يظل حيويًا. الترجمة ليست مجرد تحويل لغوي، بل هي أيضًا نقل ثقافي وفني. يمكن تطوير هذه الأفكار من خلال التعاون بين علم الترجمة والتخصصات الأخرى لتحقيق نتائج أكثر فعالية.

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

د. عايشة كاش

كلية الشريعة، قسم اللغة العربية والبلاغة جامعة هاتاي مصطفى كمال هاتاي - تركيا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى