العدد الحاليالعدد رقم 43ثقافات

نقد الإبداع العربي.. بعقل الآخر

هو حديث عن نقد النقد للعقل الآخر على ما بنا ولدينا. فعلى فترة من الزمان ساد النقد لدى العوالم الأوروبية أدبيًا وفكريًا على الآداب العربية في ماضيها وحاضرها بأن العرب لم يجيدوا الخلق مما لديهم وليس لدى غيرهم، وبأن ابداعهم لم يكن يعدو كونه على الأغلب (ردود أفعال) على ما وفد إليهم دون الانطلاق من مواقف وقضايا أصيلة.

لقد كان من قبيل الظاهرة المتكررة في المحافل أن الغرب المعاصر ينظر إلى الابداع العربي من منظور منهاجه الجديد الذي تبين له أنه الحق وهو (من أسفل إلى أعلى) بعد أن كان فيما سبق وعقب الثورة الصناعية (من أعلى إلى أسفل) وهذا يعني أن الحكم المعرفي والفلسفي والنقدي والقيمي على أي أطروحة أو عمل ينبغي أن يكون من باطن المعاناة الوجودية والثقافية المحلية التي خرجت منها هذه الأطروحة وليس إطلاق هذه الأحكام إسنادًا إلى مراجع ومعايير فوقية نموذجية عامة ومطلق يشمل كل الحالات دون مراعاة للخصوصيات المجتمعية. لهذا صار المشهد الإبداعي العربي في منظور العقل الآخر الغربي وفق هذا الأساس الجديد لديهم (من أسفل إلى أعلى) إما أنه تقليد ونسخ، وإما أنه ردة فعل مقابلة. فالتقليد والنسخ هو أن تتغير الأثواب الشكلية للقضايا مع بقاء هيكلها وجوهرها ثابتًا على العموم. فلو أننا أخذنا الفلسفة العربية الإسلامية في عهود الخلافة الإسلامية الزاهرة، وسواء كانت في المشرق العربي أو في المغرب العربي أو في أرض الأندلس في عمق أوروبا، إنما كانت في حقيقة أمرها إبداعًا فلسفيًا توفيقيًا بين قيم الدين الإسلامي وتعاليم المعلمين الإغريق (لأفلاطون) و(أرسطوطاليس) وأصحاب الأفلاطونية المحدثة. وهذه الطريقة التوفيقية إنما تمثل نوعًا من ردة الفعل من مصادر ذات أصل مغاير وافد على الوعي العربي تناوله وأدخله إلى حيز بيئته المجتمعية ومجاله الثقافي والفكري. حتى دراسات التصوف الروحاني كمجال إسلامي عربي أصيل أظهره نقاد أوروبيين معاصرين أنه مأخوذ عن أصل هندي أو فارسي أو فينيقي بما انتقل إليهم عبر الوسيط الفلسفي الإغريقي القديم تحت مسمى (ثيوصوفيا) Theosophy والتي تحمل دلالة المحبة الإلهية وحكمتها. وحتى في ميدان الفكر العلمي برز الاقتباس من أفكار العلوم الغربية (باعتبار أن أفكار العلم شيء غير حقائق العلم) في أخريات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فكان على نحو ما فعل (شبلي شميل) في صياغته لنسخة عربية من النظرية التطورية، وكذلك بعض كتابات (زكي نجيب محمود).

ولو أننا أخذنا الإبداع الفني – الأدبي (لاسيما القصصي والروائي) لكان النقد قائمًا بالقول أن اعتمادها كان على مضامين وجودية أوروبية في الأساس. فلو كانت تعبيرًا عن نظم سياسية، فإن الأصول البنائية لهذه النظم هي غربية. وإن كانت وصفًا لمعاناة جماهيرية كان الجنوح فيها نحو القياس على الرمزية المتولدة عن صراعات دارت رحاها في الغرب الأوروبي والأمريكي أكثر الشيء وأسوة بها. ثم أن الأكثر بروزًا وتمثيلاً لهذا (الاغتراب) في الابداع الكتابي العربي الحديث –كما يمكن تسميته- كان في وصف موضوعات المعاناة الوجودية الذاتية أو الفردانية، فالأفكار حول المأساة الإنسانية في الإنتاج العربي الروائي كانت بنحو ما نسخًا للمعاناة الإنسانية الوجودية في الثقافات الغربية ولو لبست لدينا ثوبًا وعمامة عربية. فتلك التحولات الوجودية في مظاهر الحياة الاجتماعية الأوروبية وصيحات التمرد الناتجة عن أزمة ما بعد الحربين العالميتين والتي حركتها واشعلت جذوتها روايات (سارتر) و(كامو) وغيرهم نقلت بذاتها إلى بلاد العرب واحدثت نفس الأثر في تغيير المظاهر الشكلية والسلوكية المجتمعية ولكن دون توفر أصولها التي سببت المعاناة الوجودية للإنسان الأوروبي وأزمته النفسية.

فهكذا كان الأمر جله في الابداع الروائي العربي حتى الأواسط والأخريات المبكرة للقرن العشرين معتمدًا على معيار (من أعلى إلى أسفل) فيما وراء الظواهر إلا بعض الاستثناءات التي قدمها (نجيب محفوظ) في أعماله الروائية وأيضًا (الطيب صالح) كمثال لمحاولات الغوص في عمق التكوين والوجدان الثقافي الاجتماعي لشعوبهم.

ولكن يمكن القول، أن هذه الحجة النقدية التي واجه النقاد الأوروبيون بها أحوال الابداع العربي أيقظت، وبنحو تلقائي، لنمط أو سلوك مستحدث في الابداع الروائي العربي تم به كسر تلك الحجة، وأصبح هو طريقة الابداع العربي ذو الأصالة والمميز بأدواته الثقافية في راهننا المعاصر قاده نخبة من الكتاب. فعلى سبيل المثال البسيط لا الحصر، وسواء اتفقنا مع أولئك الكتاب أو اختلفنا، تجسدت مع الكاتبة السورية (نجاح ابراهيم) قسوة العمق الوجودي الذاتي والمخصوص في معاناة الحروب بالمجتمعات العربية وبحسب التكوين الوجداني الصرف للإنسان العربي تحت ظلال هذه المعاناة بنحو ما في روايتها (الهوتة) وفلسفيًا كذلك في (مجنون بغداد) وأخريات غيرها. وعلى صعيد آخر، نهج الكاتب السوداني (بركة ساكن) طريقة سبر غور الجماعات المتمددة بطرق حياتها الخاصة والمغلقة في قاع المدن بما استهدفته كتابات السوداني (بركة ساكن) مثلما في روايته (الجنقو، مسامير الأرض). ونجد تعيين ملامح الكتابة للمستقبل على الجذور التكوينية للثقافة المحلية في روايات وأقاصيص السودانية (آن الصافي) كما في (فلك الغواية) و(خبز الغجر) و(أقاصيص 8) وغيرها. ثم في بعد آخر متقدم هناك الأعمال التي كشفت العناصر المؤسسة لطريقة الحياة العربية ولتصير هي العوامل الثابتة المؤلفة لبنية الوجدان منذ عهد الأسطورة القديمة وحتى تعقيدات الحضارة المعاصرة مهما تقادمت الأزمان واختلفت الأماكن والشخصيات والأدوار بما حققته رواية (تل) للكاتبة السعودية (آمنة أبو خمسين). بل حتى تلك الأعمال الكاشفة بنحو مهم جدًا عن أنماط قراءة وفهم العقول الأخرى ليس بطريقة اقتحامنا لحيز الآخر وإنما بطريقة تقديم عقلنا نحن له فتعبر إليه قيمنا ويتم التبادل الثقافي ليعبر هذا الآخر أيضًا إلينا بسلام باحتفاظنا بكامل هويتنا واحتفاظه بكامل هويته كما تدل على ذلك أعمال الكاتبة السعودية (رجاء البوعلي) في أقاصيص (عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي). ومثال آخر على نفس الطريق قدمه الكاتب السعودي (حسن السنونة) الذي طرق، بمجموعة أقاصيصه (نساء قريتي لا يدخلن الجنة) وغيرها، على الرمزية الثقافية للعقلية المحلية ليفصح عن وهم الخلاص الزائف في مجتمعاتنا العربية. وهناك الكثير من الكتاب الواعدين الذين جمعوا بين الثقافة التاريخية التراثية والفكر الفلسفي والوعي الصادق بأحوال الواقع في شرق العرب ومغربهم.

وفي هذا العصر، بعد أن زالت كثير من أجزاء الجدار العازل بين الإبداع الأدبي والفكري من جانب، ومن جانب آخر وأزمة الإنسان العربي في معاناته الصارخة جراء مآسي الحروب والنزاعات والمظالم. فيبدو أن هناك من تمردوا ويتمردون على الاغتراب الواقع بين الشكل العربي والمضمون، وبين الذات العربية ومجتمعاتها. فهو تمرد واجب حميد.

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

أ.د. وائل أحمد خليل الكردي

أستاذ الفلسفة بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا - الأكاديمية العربية في الدنمارك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى