
القوة الناعمة: من منظور علم النفس السياسي
يحظى علم النفس السياسي Political Psychology باهتمام واسع في تفسير الأحداث السياسية وفهم العلاقات بين الأفراد والمواقف التي تتأثر بالمعتقدات والدوافع المختلفة، كما يهتم بدراسة تشكيل سلوك الفرد، ومعالجة المعلومات، واستراتيجيات التعلم المتصلة بالسياسة، فضلاً عن وضع قوانين عامة لسلوك الافراد، وطرق تفكيرها، وكيفية اتخاذ القرارات مما يساعد في تفسير سلوكهم، والتنبؤ به لتفسير الأحداث السياسية المتنوعة. اجمالاً يجمع علم النفس السياسي بين ثلاثة ميادين أساسية – كل منها يؤثر على الآخر- وهي: السياسة، وعلم النفس، والثقافة.
ومن منظور علم النفس السياسي سنجد أن مفهوم القوة الناعمة Soft Power يعد من المفاهيم الحديثة نسبيًا التي يلزم علينا وضعها تحت مجهر البحث النفسي السياسي لفمها بشكل أكثر تفصيلاً، واستثمار مكاسبها للارتقاء بمجتمعنا عالميًا.
وقد بزغ مفهوم القوة الناعمة في عام (1990م) في مقال جوزيف ناي Joseph Nye؛ أستاذ العلوم السياسية الأمريكي، المنشور في مجلة السياسة الخارجية بعنوان «القوة الناعمة»، وتتلخص الفكرة الأساسية لهذا المفهوم على وجود وجه آخر خفي للقوة غير القوة المادية، قوامه: الجاذبية المستمدة من ثقافة الدولة وقيمها ومصداقيتها المتولدة عن ممارساتها المتسقة مع هذه القيم، مما يحتم علينا ضرورة الاهتمام بشكل متسق بالقوة الناعمة شأنها شأن القوى العسكرية والاقتصادية التي حظيت بمكانة محورية في أدبيات العلاقات الدولية والسياسة الخارجية منذ عقود مضت (معوض، 2019).
ومن زاوية أكثر قربًا سنجد أن مثلث القوة الناعمة يتمثل في ثلاثة أنماط قوامها:
(1) مشاعر الجاذبية: كجذب الآخرين بطريقة سلبية أو إيجابية حيال أي نماذج أو كيانات، بحيث تقوم القوة الناعمة على استخدام عوامل الجذب المتنوعة سواء الثقافية أو النفسية أو الاجتماعية أو كلاهم معًا، بعيدًا عن الأساليب التقليدية التي تقوم على التهديد العسكري أو الضغط الاقتصادي؛ لكي يرغب الاخرون في فعل ما ترغب فيه دون الحاجة إلى اللجوء لاستخدام القوة المفرطة.
(2) معتقدات الإقناع: التي تستخدم للتأثَير في معتقدات الآخرين وردود أفعالهم بعيدًا عن التهديد أو اللجوء إلى القوة المادية، لذا يرى فريق من الباحثون أهمية القوة الناعمة باعتبارها الجيل الرابع من حروب المستقبل، من خلال الدبلوماسية العامة والاتصالات الإستراتيجية، من خلال مهارات الاقناع.
(3) الاجراءات: وتتلخص في تحديد أولويات الدول الأخرى بما يخدم أو يتفق مع أولويات الدولة التي تمارس القوة الناعمة.
وتقوم القوة الناعمة على مقومات أساسية لها أبعادها النفسية – الاجتماعية والتي تتمثل في القدرة على تشكيل تصورات ومفاهيم الآخرين وتوجيه سلوكياتهم، والقدرة على تشكيل جدول الأعمال السياسي للآخرين سواء الأعداء أو المنافسين، فضلاً عن القدرة على تقديم نموذج جاذب سياسيًا وقيميًا (حسن، 2019).، وبذلك تتصف القوة الناعمة بإستراتيجيات التواصل، والقدرة على الاقناع وسرد الوقائع، كما يقال: الفائز اليوم هو من تفوز روايته للأحداث.
وعند الوقوف على عوامل الجاذبية سنجدها تتكون من ثلاثة عناصر أساسية قوامها:
- الثقافة: فهي تعتبر عنصر جذب كبير لدولة ما، وهي مجموعة القيم والممارسات لدولة ما من قبيل الأدب والفنون والتعليم، وعندما ترتبط ثقافة دولة ما بقيم عالمية ومصالح مشتركة يزيد ذلك من إمكانية تحقيق النتائج المرغوبة بقوة الجاذبية والاقتناع.
- السياسات الحكومية للدولة: قد تعزز القوة الناعمة لهذه الدولة أو تقوضها، فالسياسات الداخلية والخارجية التي تقوم على عدم مراعاة مصالح الآخرين تقوض أسس القيم الناعمة والعكس بالعكس.. ومن هنا تنشأ القوة الناعمة من الجاذبية الثقافية لبلد ما والمُثل السياسية التي يحملها والسياسات التي ينتهجها في الواقع وعندما نجعل الآخرين يعجبون بالمثل التي نؤمن بها ونجعلهم يريدون ما نريد فإننا لن نضطر إلى الإنفاق كثيرًا على موارد السياسات التقليدية (العصا والجزرة (أي على عوامل الإرغام العسكري والإغراء الاقتصادي (حسن، 2019).
- القيم: وتتمثل في منظومة القيم السلوكية التي تدافع عنها حكومة ما بأشكال متعددة سواء بسلوكها الداخلي كقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان أوفي المؤسسات الدولية بالعمل مع الآخرين أو في السياسات الخارجية بتشجيع السلام وحقوق الانسان، تؤثر بشكل كبير على صياغة تفضيلات الآخرين. (ناي،2007)
أنواع القوة الناعمة:
تختلف أنواع القوة الناعمة بحسب اختلاف الأهداف وذلك كالتالي:
- القوة الناعمة لتحسين بيئة الأمن الخارجية وإيجاد صورة جذابة للدولة، وهذا النوع من القوة الناعمة يحتوي على مزيج من الموارد الناعمة مثل الشعارات القومية والخطط، والسياسات، والدبلوماسية الشعبية لإنشاء صورة جاذبة للدولة؛ لتسهيل دخولها إلى المجتمع الدولي، مثل نموذج الصين واليابان.
- القوة الناعمة للحصول على دعم الآخرين لتحقيق سياسات أمنية وخارجية، وهو نوع مهم جدًا لتحقيق قيادة مؤثرة في تحويل الأحداث والتفاعلات الجماعية ما بين الدول وهو نوع هام في حفظ تكلفة استخدام القوة الصلبة في ظل سياسة توزيع العبء على أكثر من دولة في إطار تحالف دولي، مثال الحصول على موافقة دولية لفرض عقوبات على دولة معينة.
- القوة الناعمة للتحكم في طريقة تفكير الدول الأخرى وتفضيلاتهم، ويهدف هذا النوع لتغيير التفضيلات والسلوك للآخرين، في ظل نشر الثقافات والقيم والخطابات وجوائز عالمية كجائزة نوبل على سبيل المثال.
- القوة الناعمة لتحقيق تجميع أو مجتمع دولي: مثل تكوين عدد كبير من الكيانات الاقتصادية أو السياسية وذلك للحصول على ولاء تلك الكيانات في إطار القوة الناعمة ومثال ذلك: الاتحاد الأوروبي وقدرته على تكوين مجتمع دستوري ومؤسسات ونماذج متشابهة وسياسة موحدة أو كيان دول مجلس التعاون الخليجي.
- القوة الناعمة لتدعيم القيادة والحصول على دعم داخلي للحكومة، وذلك في إطار شعارات القومية وإيجاد بطل قومي والمشاركة في المسابقات العالمية، وظهور القيادة في مؤتمرات وندوات عالمية لزيادة شعبية رئيس الحكومة، وهو يركز على الشعب في داخل دولة معينة، ومع ذلك فبدون وجود البعد الدولي فلا وجود لهذا النوع من القوة الناعمة على الاطلاق. (عبد الحي،2014)، ويمكننا في الجدول التالي تلخيص ما سبق حيال القوة الناعمة ومقارنتها بالقوة التقليدية وفقاً للنحو التالي (الجدول 1).
في ظل هذا العالم المتغير والمتسارع أصبح لا يمكن لأي دولة تحقيق النجاح دون التأكد من استثمار القوة الناعمة لديها لتكون أكثر جاذبية، واستغلال القوة الناعمة أو استحداثها واصطناعها هو أهم ما يمكن أن تقوم به دولة تمتلك رؤى إستراتيجية حول مستقبلها، مقدرة المخاطر التي قد تمر من خلالها وتستبق الأزمات قبل حدوثها بأرض صلبة.
وفي سبيل تحقيق تقدم في ممارسات القوة الناعمة هنالك عددًا من المتطلبات لزيادة فعالية القوة الناعمة وهي على النحو التالي:
1 – القدرة على الجذب: Attractions
الجذب هو العامل الأساس التي تعمل من خلالها القوة الناعمة في النظام العالمي، حري بالذكر بأنه يوجد فرق بين الجذب كقوة (Force) والجذب كفعل (Action) أو النتائج المرغوب فيها، حيث أصبح التركيز على مصالح وتفضيلات الفاعلين في النظام الدولي بحيث يكون الانجذاب لقيم دولة ما وسياستها وقيمها في مصلحة وتفضيلات الدولة الهدف، وآلية الجذب هذه ترتبط بالقدرة على الاقناع الذي يفترض تغيير تفضيلات الفواعل الدولية بعد تدخل الدولة بأدوات القوة الناعمة، الامر الذي يجعل التحليل النهائي قائماً على السلوك والمخرجات بدلاً من التركيز على المصالح والتفضيلات، وعند انجذاب الدولة المستهدفة إلى قيم ومثل الدولة القائمة بممارسة القوة الناعمة يصبح الاقناع أمرًا سهلاً؛ للحصول على المخرجات المرغوبة.
2 – وجود مصادر للقوة الصلبة بجانب مصادر القوة الناعمة:
من المسلم به أن نجاح الدولة في الحصول على المخرجات المستهدفة؛ لتحقيق أهداف سياستها الخارجية يتأثر بدرجة كبيرة بعناصر قوتها المادية، فقد توجد دول ذات ثقافات وحضارات، ولكنها تفتقد قوة الجذب وذلك لعدم قدرتها على مواجهة التحديات، لذلك امتلاك موارد القوة الصلبة لا يمكن أن ينفصل عن عملية الجذب والاقناع.
3 – تسويق الأفكار (Marketplace of ideas):
الدول ذات القوة الناعمة تسوق أفكارها عبر الوسائط المتنوعة كما تسوق منتجاتها في الأسواق الاقتصادية، فإن تسويق الأفكار والقيم والثقافات من أهم ممارسة القوة الناعمة المؤثرة.
4 – تعديل الاتجاهات (Attitude change):
من أجل التأثير على هدف معين، فإن الدولة صاحبة الرسالة لا بد وأن تحدث تغييرات في تفضيلات واتجاهات الفاعلين المستهدفين من تلك الرسالة، ويحدث التغيير في اتجاهات الآخرين اعتمادًا على عوامل ثلاثة وهي: مصدر الرسالة، محتوى الرسالة، مستقبل الرسالة. ويحدث الاقناع والتأثير عندما تتوافر مصداقية مصدر الرسالة بجانب توافر الثقة في ذلك المصدر وقدرته على حفظ مصالح وتفضيلات الأطراف المستهدفة، كذلك توافر الخبرة والقدرة على الجذب والاقناع بجانب المصداقية والثقة من أهم عوامل نجاح عملية التغيير، وكما أن محتوى الرسالة يتصف بمصداقية المحتوى والتكرار لمحتوى الرسالة، في حين يكون المستقبل لديه الاستعداد للاستماع والتواصل.
5 – الارتباط بين الاتجاهات ومخرجات السياسة الخارجية:
يتطلب وجود قوة ناعمة فعالة تحسين وتحقيق مخرجات مطلوبة للسياسة الخارجية للدول القائمة بهذه العملية الاتصالية مع غيرها من الدول، وأن تكون تلك العملية الاتصالية موجهة للشعوب ولصناعي القرار في السياسة الخارجية لتلك الدول المستهدفة، وهي تختلف من دولة لأخرى فهناك دول تكون للنخبة فقط فيها الدور المؤثر في عملية صنع القرار، ودول أخرى يكون للمواطنين التأثير الأكبر (عبدالحي، 2014).
ومع الإيمان بأهمية تحقيق إطار علمي لفهم القوة الناعمة سوف نحاول فيما يلي الوقوف على أهم مقومات القوة الناعمة في المملكة العربية السعودية ومن تلك المقومات المتنوعة: الموقع حيث تقع المملكة في مكانة جيو-سياسية تمنحها قدرًا عاليًا من التأثير في عدة فضاءات سياسية إسلامية وعالمية، فعلى صعيد الريادة في العالم الاسلامي تمتلك المملكة تأثيرًا ثقافيًا هائلًا بحيازتها الجغرافية لمكة المكرمة والمدينة المنورة، كما يعد ما تحتويه من آثار إسلامية أقوى أداة ناعمة في يدها ولا يمكن أن ينافسها فيها أحد كونها حاضنة لقبلة المسلمين، ويحج إليها ويعتمر ملايين المسلمين سنويًّا، وهي مركز قوة الأغلبيّة في العالم الإسلامي. وعلى المستوى العالمي تعتبر المملكة فاعلاً رئيسيًا في حقل الطاقة مما يجعل تأثيرها شديدًا على الاقتصاد العالمي حيث عملت في أوقات مختلفة على حماية المجتمع الدولي من تذبذب أسعار النفط من خلال قدرتها على التأثير في منظمة أوبك. ويمكننا عرض تلك المقومات بشيء من التفصيل في (الجدول 2).
مما سبق يلزم علينا الموازنة بين القوتيين الصلبة “العسكرية والاقتصادية..” والناعمة “الجذب والاقناع”، وهذا ما يراه جوزيف ناي في مبدأ النجاح في العلاقات السياسية (الحويل،2020)، ومن المقترحات لتعزيز قوة السعودية الناعمة:
– إنشاء كيان (هيئة، مجلس) للقوة الناعمة يتكون من عدد من الجهات مثل وزارات (الخارجية، الإعلام، الثقافة، التعليم، الشؤون الإسلامية، السياحة) وهيئات (الترفيه، الرياضة) ومركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية وغيرها من الجهات سواءً في القطاع الحكومي أو الخاص بهدف رسم الإستراتيجية الوطنية للقوة الناعمة وأن يتولى المجلس الإشراف والتنسيق والتقييم والدعم لجميع الجهات ذات العلاقة لضمان عملها بشكل تكاملي وتجنبًا لأي ازدواجية أو تعارض في خطط وآليات تنفيذ الإستراتيجية.
– تفعيل الدبلوماسية الرقمية “القوة الناعمة الرقمية” بحرفية وكفاءة أكثر وباستخدام أدواتها المختلفة (وسائل التواصل الاجتماعي، الموقع الإلكتروني، برامج الرصد والتحليل).
– أهيل كفاءات سعودية والسعي لتعينهم في المنظمات الدولية ودعمهم لتسلم مناصب قياديّة فيها لتعزيز القوة الناعمة للمملكة والتأثير المرجو على سياسة تلك المنظمات بما يخدم مصالح المملكة.
– التوسع في برامج المنح للطلاب الأجانب خصوصًا من الدول الإسلامية والأقليات المسلمة للدراسة في الجامعات السعودية.
المراجع:
- حسن، علي محمد الحاج (2019) الحرب الناعمة الأسس النظرية والتطبيقية بيروت: المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية.
- الحويل فيصل، (2020)، حكايا القوة الناعمة. الرياض: تشكيل للنشر والتوزيع.
- عبدالحي، سماح عبدالصبور (2014) القوة الذكية في السياسة الخارجية. القاهرة: دار البشير للثقافة والعلوم.
- عبدالسلام، رفيق (2015)، الولايات المتحدة الأمريكية بين القوة الصلبة والقوة الناعمة، بيروت: مركز صناعة الفكر للدراسات والبحوث.
- معوض، جلال علي (2019). مفهوم القوة الناعمة وتحليل السياسة الخارجية، الإسكندرية: مركز الدراسات الإستراتيجية.
- ناي، جوزيف، (2007)، القوة الناعمة. ترجمة محمد البجيرمي. الرياض: مكتبة العبيكان الرياض.
عدد التحميلات: 0