
(فيليب آرثر لاركن) يقطع عشب الحياة بلطافة
ترجمة: سوران محمد
تقديم:
بما أن مجلة فكر تأتي بكل جديد وتلتفت إلى الأسماء الجديدة في عالم الفن والأدب والفكر، كما تحيط بالجوانب المنسية في عالم الإبداع خارجًا، فقلت لنفسي فلم لا أترجم عن فليب آرثر لارکن؟ ربما يكون أحد هؤلاء الشعراء الجدد على أبواب المجلة وغير معروف نسبيًا عند قراءنا، لذا قمت بإعداد وترجمة نبذة عن هذا الشاعر وأعماله الشعرية وسنواكب الركب للإتيان بكل جديد وخدمة ذائقة القارئ الشغوف بالأدب العالمي.
نبذة عن حياته:
فيليب آرثر لاركن (بالإنجليزية: Philip Arthur Larkin) هو شاعر وروائي بريطاني. فائز بوسام رفقاء الشرف، سي بي إي، فريزل (FRSL). ولد في 9 من أغسطس 1922م- ديسمبر 1985م. أولى كتبه في الشعر، سفينة الشمال (The North Ship)، والذي نشر في عام 1945، نُشر بعده روايتان هما، جيل (Jill) (1946) وفتاة في الشتاء A Girl in Winter) 1947)، ولكنه ظهر بقوة على الساحة في عام 1955م عندما قام بنشر المجموعة الثانية من قصائده، شبه مخدوع، تبعها أعراس العطلة المسيحية (The Whitsun Weddings) (1964) والنوافذ العالية (High Windows) (1974). قدم لاركن إسهامات كبيرة في الديلي تليغراف (The Daily Telegraph) كناقد لموسيقى الجاز منذ عام 1961 وحتى عام 1971، وقد تم جمع كل مقالاته تحت عنوان كل ما هو عن الجاز: تسجيلات 1961–71 (1985)، وقام بتحرير كتاب أوكسفورد آيات القرن العشرين الإنجليزية (1973م). وتلقى لاركن العديد من الأوسمة، من ضمنها ميدالية الملكة الذهبية للشعر (Queen’s Gold Medal for Poetry). كما عُرض عليه منصب شاعر البلاط (poet laureate) في عام 1984م، بعد وفاة جون بيدجمان (John Betjeman) ولكنه رفض.
تخرج لاركن من أوكسفورد في عام 1943م بدرجة أول في مادتي اللغة الإنجليزية واللغة والأدب، ثم أصبح بعدها أمين مكتبة. وتُعد الثلاثين عامًا التي عمل فيها كأمين مكتبة بالجامعة في مكتبة برينمور جونز (Brynmor Jones Library) في جامعة هال هي الفترة التي أنتج فيها لاركن الجزء الأكبر من أعماله التي تم نشرها. وتتميز قصائده بما يسميه أندرو موشن (Andrew Motion) دقة إنجليزية حول المشاعر الحزينة، والأماكن، والعلاقات، وما يصفه دونالد دافي (Donald Davie) كمشاهدات منخفضة وتوقعات متضائلة. ولقبه إيريك هامبورجر «أكثر القلوب حزنًا بأسواق ما بعد الحرب» ويقول لاركن إن الحرمان بالنسبة إليه كورود النرجس بالنسبة إلى وردزروث. متأثرًا بدبليو إتش إيدن (W. H. Auden)، ودبليو بي ييتس (W. B. Yeats)، وتوماس هاردي (Thomas Hardy)، خرجت قصائد لاركن متميزةً ببنية رصينة ولكنها أيضًا تتمتع بسلاسة أبياتها الشعرية. وصفت جين هارتلي الزوجة السابقة لموزع كتب لاركن جورج هارتلي (مجلة مافيل) كتاباته بالخليط اللاذع من الحماسة والسخط ولكن الأديب كيت توما يقول في كتاباته عن لاركن إن هناك جوانب أخرى كثيرة بجانب شهرتها بأطروحات النظرة التشاؤمية القاسية.
ويعرف العامة شخصية لاركن كشخصية إنجليزية صارمة تميل إلى الانعزالية وتكره الشهرة ولا وقت لديه لمظاهر الحياة الأدبية. كما يذكر عن فيليب لاركن علاقته الوطيدة مع والدته إيفا لاركن، فعبر بناءها لعلاقة متوازنة معه أثرت في بناء أسلوبه الشعري، ومن جانبه كان يكتب لها المراسلات بشكل يومي، والتي نشرت لاحقًا في مجلد ضخم، ويقضي معها ساعات بعد الظهيرة خلال أيام الجمعة، وقد استمرت مراسلات الشاعر لأمه حتى عند عجزها عن القراءة، واكتفى حينها ببعث الصور حتى وفاتها.
أسلوبه الشعري:
صحيفة التايمز البريطانية البارزة التي تأسست عام 1785، صوتت له كأفضل شاعر بريطاني بعد الحرب العالمية الثانية.
يُدخلنا لاركن عالمًا أكثر ثراءً لجوانب الحوادثِ، أقرب إلى الحياة اليوميّة، وأكثر أصالةً وإمتاعًا. قصائد «الأقلُّ انخداعًا» مبنيّةٌ على الحبِّ والهرب منه عبر الاصطدام بالموت. هي نوع من مراوغةٍ في بساطة المشاعر وتعقّدها في آن معًا. بناء لاركن يوظِّفُ الوقتَ كعنصر بناءٍ وهدمٍ، يأخد الوقت معه في النصِّ حتّى يُنهيه ثم يعود وإياه جسدًا تظهرُ عليه آثارُ الترهُّل وحُفر الزمن.
ولاركن، كما يراه طاهري، يقف بمفرده، بعيدًا عن يسارية (و. أودن) من ناحية، كما أنه بعيد عن مسيحية (ت.س. إليوت) من ناحية أخرى. أما فاضل السلطاني فكتب في مقدمة كتابه: «إن أعمال لاركن تشكل قصيدة واحدة متطاولة تتناول قضايا كبرى من نوع الجنس والعزلة والذات والانتماء واللايقين والقلق والتردد. إنه لا منتمٍ بالمعنى الوجودي لهذه الكلمة، على نحو ما فصله (كولن ولسون) في كتابه المشهور (اللامنتمي). إن شعره ونثره ورسائله الشخصية تكشف عن أنه شخصية واحدة متسقة، وهو ليس بالعدمي ولا المتشائم خلافا لما يظنه الكثيرون».
لم يكن لاركن يحس بالفشل نتيجة إحساسه المبكر بعدم تقدير الجمهور لإنتاجه الأدبي المبكر فحسب، وإنما كان يشعر بالفشل في علاقته بالنساء، والإحباط، في شعره، هو سمة العمر كله: حاضره، مستقبله وماضيه، وهو يلمح بذلك إلى وعيه بمشاكله السيكولوجية نتيجة لقراءاته لفرويد وغيره.
ويرى السلطاني أنه نتيجة غياب هذا المنظور، نُظر إلى لاركن باعتباره شاعرًا متناقضًا، أو غامضًا. وهما فرضيتان لا تصمدان أمام البحث، إذ أن هناك، خلف التناقض الظاهري، وحدة فكرية تنظم كل قصائد الشاعر منذ الثلاثينيات وحتى الثمانينيات فيما يخص الحياة والفن، والذات والآخر، والعزلة والانتماء، والقلق والوجود، وحرية الاختيار، والحب والجنس. وهي الموضوعات الكبرى التي شغلت الإنسانية خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وما تزال تشغلها لحد الآن.
يكمن مبدأ لاركن الشعري في قسوته على الحياة، فمثلما قست عليه قسا عليها، فتعادلا بهدف لكل منهما، فلا هي كسرته دون أن يكسرها ويشفي غليله، وهذا ما يجعل للإنسان جدارًا سيكولوجيا صلبًا يحول بينه وبين اليأس أو الانتحار، فظل ينعم باللامبالاة كما يقول في قصيدته «وصول»: «الآن في اللامبالاة اتركيني استرخي: وجوه مستديرة كالعملات المعدنية تسقط في أسفل الذكريات، واتركي هذه البيوت في فوضويتها تنعم بأسرارها وحياتها السيئة لنفسها، فجهلي هذا- هو نوع من البراءة».
نماذج من قصائده:
1
العشب المقطوع
العشب المقطوع يرقد هشًا:
قصير التنفس
السيقان المقصوصة تتزفر.
طويل، طويل الموت
*
يموت في الساعات البيضاء
من حزيران ذي الأوراق الصغيرة
لأزهار الكستناء،
وتحوطاتها المتناثرة كالثلج،
*
الليلك الأبيض المنحني،
ممرات ممحوة بأزهار السفناري*،
وتلك السحابة العالية
تتحرك بوتيرة الصيف.
***
* السفناري أو الجزر الشائع، نوع نباتي يتبع جنس الجزر من الفصيلة الخيمية.
التحليل:
«العشب المقطوع» لفيليب لاركن يلتقط الطبيعة الزائلة للحياة من خلال استعارة العشب المقطوع. تنقل لغة القصيدة البسيطة وصورها شعورًا بالخسارة والزوال. تبدأ القصيدة بصورة العشب المقطوع هشًا، مما يشير إلى الضعف والوفاة. يرمز التنفس القصير للسيقان المقصوصة إلى قِصر الحياة، بينما يمثل الموت الطويل حتمية وفاتنا.
الأسطر التالية تصور جمال الطبيعة ووفرتها على النقيض من الموت الوشيك للعشب. تثير ساعات حزيران البيضاء، مع أزهار الكستناء والليلك الشبيه بالثلج، شعورًا بالشباب والحيوية. ترمز الممرات الضائعة أزهار السفناري والسحابة المرتفعة التي تتحرك بوتيرة الصيف إلى سرعة مرور الوقت والمسيرة التي لا يمكن إيقافها نحو النهاية.
تعكس قصيدة لاركن الانشغال الحداثي بموضوعات الموت والفناء. تشترك في أوجه تشابه موضوعية مع أعمال أخرى للشاعر، مثل «حفلات الزفاف في عيد العنصرة» و«أوباد». ومع ذلك، تتميز «العشب المقطوع» باستكشافها الموجزة والبسيطة لهذه الموضوعات. يخلق الاقتصاد في اللغة والصور في القصيدة تأملًا قويًا لا يُنسى حول هشاشة الوجود البشري وزواله.
2
لا طريق
منذ أن اتفقنا على هجر الطريق بيننا
لم نمشي عليه،
رفعنا بوابة حديقتنا بالطوب، وزرعنا الأشجار لتحجبنا عن البعض،
وأطلقنا العنان لكل عوامل التآكل في الزمن،
الصمت، والفراغ، والغرباء – إهمالنا
لم يكن له تأثير كبير.
*
لقد تتناثر الأوراق دون أن تُكنس، ربما؛ تطول الأعشاب دون أن تُقص؛
لا تغيير آخر.
مازال الطريق واضح للغاية، والعشب قد نمت قليلاً،
هذه الليلة السير على هذا الطريق لن يبدوغريبًا،
سيكون مسموحًا به على أي حال. ولفترة أطول قليلاً،
وسيكون الوقت أقوى.
*
أرسم عالمًا لن يمر فيه مثل هذا الطريق
منك إليّ؛
أن أشاهد هذا العالم يشرق مثل شمس باردة،
مكافأة الآخرين هي حريتي.
عدم المنع هو تحقيق إرادتي.
رغبتي في ذلك هي مرضي.
***
التحليل:
تستكشف القصيدة الوجود المتبقي لعلاقة عاطفية سابقة على الرغم من الانفصال الجسدي. لقد تم التخلي عن الطريق بين المتحدثين وإهماله، ولكن «الأوراق تتناثر دون أن تُكنس» و«العشب يطول دون أن يُقص»، مما يشير إلى أن الصلة لا تُنسى بسهولة. إن الزمن، الذي يوصف بأنه قوة «أقوى»، سوف يمحو الطريق في النهاية، تاركًا عالمًا بدون أي أثر للرابطة بينهما. يقبل المتحدث هذا المحو الحتمي، وينظر إليه باعتباره «حرية» و«تحقيقًا لإرادة». أسلوب القصيدة بسيط وحواري، يعكس الطبيعة الدنيوية للانفصال، ومع ذلك فإنه يلتقط المشاعر المتبقية والشوق غير المنطوق الذي لا يزال قائمًا.
***
3
دراسة عادات القراءة
عندما كنت أقرأ كتابًا
عالجت معظم الأشياء باستثناء المدرسة،
كان الأمر يستحق تضعيف عيني
لأعرف أنني ما زلت أستطيع أن أبقى هادئًا،
وأوجه الضربة اليمنى القديمة
إلى كلاب قذرة ضعف حجمي.
لاحقًا، مع نظارتي السميكة،
كان الشر مجرد مزحة بالنسبة لي:
أنا وعباءتي وأنيابي
قضينا أوقاتًا ممتعة في الظلام.
لا أقرأ كثيرًا الآن: المتأنق
الذي يخيب أمل الفتاة قبل
وصول البطل، الرجل
الذي يكون أصفر اللون ويحتفظ بالمتجر
يبدو مألوفًا للغاية. اغضب:
الكتب كومة من الهراء.
***
التحليل:
«دراسة عادات القراءة» هي قصيدة صريحة وساخرة عن خيبة الأمل التي يشعر بها المرء في مرحلة البلوغ وفقدان المثالية الشبابية. تبدأ القصيدة بنظرة حنين إلى الوراء، إلى العادة الشبابية المتمثلة في الانغماس في الكتب كوسيلة للهروب من روتين المدرسة وتحديات الحياة. يتذكر المتحدث كيف وفرت له هذه العادة السلوی والشعور بالتمكين، مما سمح له بمواجهة الشدائد بثقة.
مع استمرار القصيدة، يتحول منظور المتحدث من الحماس الشبابي إلى خيبة الأمل البالغة. ويتأمل كيف أصبحت القراءة تجربة أقل إشباعًا وذات مغزى، حيث تبدو الشخصيات والمواقف التي يواجهها في الأدب الآن متوقعة ويشعر فعل القراءة نفسه وكأنه ملاحقة متعبة وخاوية.
تنتهي القصيدة بموقف رافض وعديمي تقريبًا تجاه الكتب والقراءة، حيث يعلن المتحدث أنه «سئم» من القصص والشخصيات المألوفة والمتكررة الموجودة في الأدب. ويختتم بالقول إنه يفضل «الانغماس في حالة من النشوة»، مما يشير إلى رغبته في الهروب إلى حالة من النشوة كوسيلة للتعامل مع خيبات الأمل في الحياة.
جدير بالذكر وبالمقارنة مع أعمال أخرى لفيليب لاركن، تشترك هذه القصيدة مع المؤلف في موضوعات خيبة الأمل والوحدة ومرور الوقت. كما تعكس تأثير حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، مع شعورها بالفراغ وفقدان الإيمان بالقيم والمؤسسات التقليدية.
***
4
الحديث على السرير
يجب أن يكون الحديث على السرير سهلاً،
الاستلقاء معًا هناك، يعود إلى ما هو أبعد من ذلك،
رمز لشخصين صادقين.
ومع ذلك، يمر المزيد والمزيد من الوقت بصمت.
في الخارج، اضطرابات الرياح غير المكتملة
تشتت السحب في السماء،
وتتراكم المدن المظلمة على الأفق.
لا شيء من هذا يهتم بنا. لا شيء يوضح السبب
على هذه المسافة الفريدة من العزلة
يصبح من الصعب أكثر فأكثر العثور على
كلمات صادقة ولطيفة في نفس الوقت،
أو ليست غير صادقة وليست قاسية.
***
التحليل:
تستكشف هذه القصيدة الانفصال الذي يمكن أن ينشأ في العلاقات الحميمة بمرور الوقت. في حين وجد المتحدثان ذات يوم العزاء في «التحدث معًا على السرير»، فقد أصبح من الصعب بشكل متزايد توصيل مشاعرهما الحقيقية. تشير مقارنة القصيدة بين حميمية الزوجين و«الاضطرابات غير المكتملة» للرياح و«المدن المظلمة» على الأفق إلى شعور بالتشرد وعدم الثبات. يعد موضوع الاغتراب هذا شائعًا في أعمال لاركن، والتي غالبًا ما تعكس خيبة الأمل والوحدة في الحياة الحديثة.
الهوامش:
1- poems selected by Martin Amis , ISBN Philip Larkin9780571258116
2- en,Wikipedia, Philip Larkin
– 3 Indepenedent Newspaper 2007
4 – Philip Larkin, collected poems, Edited and Introduction by Anthony Thwatite.
عدد التحميلات: 0