قراءة في كتاب: «الاستشراق وسحر حضارة الشرق» للدكتورة إيناس حسنيالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2016-05-19 01:23:59

د. محمد سيف الإسلام بوفـلاقـة

كلية الآداب - جامعة عنابة - الجزائر

حظي الخطاب الاستشراقي باهتمام واسع من لدن مختلف الباحثين والدارسين العرب، وذلك باعتباره ظاهرة ثقافية غربية، تتصل بجملة من الاهتمامات العلمية، التي تركز على دراسة الشرق الإسلامي والعربي، وتنكب على البحث في جميع ما يتعلق به من تاريخ، ودين، وأوضاع اجتماعية ومعيشية، ولغة، وأرض، وحضارة، فهو توجه يركز بشكل رئيسي على الحياة الحضارية للأمم الشرقية، ولا سيما منها حضارة الإسلام والعرب، وكما يرى الدكتور عمر فروخ فالاستشراق هو اهتمام علماء الغرب بعلوم المسلمين وتاريخهم ولغاتهم وآدابهم وعلومهم وعاداتهم ومعتقداتهم وأساطيرهم.

ومن يطلع على الكثير من الدراسات والأبحاث التي أنجزت عن الاستشراق وقضاياه في العقود الأخيرة في الوطن العربي، يجد أن هناك جانبًا من  جوانب الخطاب الاستشراقي، لقي صدودًا وإعراضًا كبيرًا من لدن الكثير من البحاثة العرب، وهو جانب تجليات الاستشراق في ميدان التصوير والرسم، ومن هذا المنطلق ندرك أهمية كتاب الباحثة المصرية الدكتورة إيناس حسني الموسوم بـ«الاستشراق وسحر حضارة الشرق»، فقد كرس المستشرقون فنهم لتصوير الشرق بكل ما فيه من طبيعة وعمران وبشر، وركزوا على الآثار والأزياء والعادات والتقاليد، ونمط الحياة الاجتماعية والطقوس الدينية، حينما أتوا رفقة بعثات دبلوماسية أو علمية أو آثارية وعسكرية، كما تذكر المؤلفة من خلال مقدمة الكتاب، وكما ترى فإن أكثر ما يلفت الانتباه في اللوحات الاستشراقية ذلك الميل إلى تصوير الحياة الشعبية بما فيها من مبالغات في موضوع الجواري والعبيد والسحرة والمشعوذين، وهذا يدل على افتتانهم بالشرق.

وتشير المؤلفة إلى أن الدراسات المتعلقة بالفنون الشرقية وإبداعات الفنانين المتأثرة بالشرق أصبحت جزءًا من مظلة هذا النشاط وفرعًا من تخصصاته، ولذلك تعد ظاهرة الاستشراق في الفن ذات ضرورة للبحث والنقد، حيث إنها قديمة في رحلتها، متنوعة في أشكالها فعالة التأثير في نتاجها الفني، واستدعت ضرورة البحث، وكشف النقاب عن الكثير من الجوانب السيكولوجية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي انعكست بنسب متفاوتة على شكل  و مضمون العمل الفني.

وتذكر الدكتورة إيناس حسني أن أهمية دراستها تتجلى في  كشفها النقاب عن منهج الرؤية الفنية والعلمية لدى الدول المستشرقة، كما أن المدة الزمنية التي تركز عليها دراستها تكتسي أهمية بالغة، فهي حقبة القرن التاسع عشر، والتي تمثل مرحلة الدراسة الفنية الاستشراقية بشكل دقيق ومتخصص، وهي المدة التي عرفت ظهور مدرسة الاستشراق بخصائصها ومقوماتها الفنية، كما أن هذه المدرسة واكبت مدة حساسة من التاريخ القومي الذي يمثل نهضة مصر، وقضايا التراث الفني المفقود سواء ذلك الذي زخرت به متاحف ومكتبات أوروبا، أو الذي اندثر بفعل تحديث مصر وتغيير ملامحها الشكلية، الذي تجلى في أعمال المصورين المستشرقين.

كما تؤكد المؤلفة على أن هذه الفترة «تميزت بغزارة إنتاج المصورين المستشرقين وتنوع أجناسهم وكثرة عددهم مما أعطى لشكل ظاهرة الاستشراق في ظل النهضة الأوروبية العلمية هذا الطابع المميز الجدير بالدراسة، خصوصًا أنه يتعلق بحقبة مهمة للتاريخ الفني تعد بدايات الفن الأوروبي الحديث والمصري المعاصر، ولقد أولى المصورون المستشرقون الفرنسيون والإنجليز قدرًا كبيرًا من الاهتمام بالشرق، وتميزوا به عن سائر المستشرقين الذين تعددت أجناسهم في ذلك الوقت» (ص:35).

وترى المؤلفة أنه برغم تعدد أغراض وأهداف الاستشراق الاستعمارية منها والدينية، إلا أنها لم تكن خالية أبدًا من الفائدة العلمية، حيث إن المستشرقين قاموا بجمع المخطوطات العربية والإسلامية وفهرستها، وحققوا العديد منها بأعلى المقاييس العلمية المتعارف عليها آنذاك ونشرها نشرًا علميًّا خالصًا، وترجموا الآلاف من هذا التراث إلى اللغات العالمية، إضافة إلى توجيههم إلى الأخذ بالمناهج الحديثة في البحث والدراسة، وعرّفوا الآخرين بالحضارة والتراث العربي،كما قدموا الكثير من المنافع التي لا يمكن صرف النظر عنها.

وتصف الدكتورة إيناس حسني دراستها هذه بأنها تقوم على محورين، «أحدهما فني ذو محور رأسي، يتتبع خلالها تطور الشكل الفني في التصوير من حيث أسلوب التعبير وطريقة الأداء بامتداد ظاهرة الاستشراق، أما المحور الآخر فيناقش الجوانب المؤثرة والمرتبطة بالنتاج الفني، وهي تتعلق بالجانب السياسي والاجتماعي والبيئي والعلمي وعلم الآثار، ومن خلال هذين المحورين تحقق هذه الدراسة أهم أهدافها في تأكيد أهمية مصادر الرؤية الفنية في البيئة بشكل عام ومقوماتها الحضارية مما كان له من قيمة إبداعية في تصوير المستشرقين». ولتسليط الأضواء على هذين المحورين قسمت دراستها إلى ثلاثة أبواب وسبعة فصول.

مفهوم الاستشراق ودوافعه وأثره على فن التصوير

ينقسم الباب الأول من الكتاب إلى فصلين.

في الفصل الأول من الكتاب توقفت الدكتورة إيناس حسني مع مفهوم الاستشراق، فرجعت إلى مصادر مختلفة، وذكرت في البدء المعنى اللغوي، ثم انتقلت إلى المعنى الاصطلاحي، إذ يرى البعض أن المقصود بالشرق ليس الشرق الجغرافي، وإنما الشرق المقترن بمعنى الشروق والضياء والنور والهداية.

كما عرضت المؤلفة مجموعة من الآراء المعاصرة في مفهوم الاستشراق، من أبرزها رأي المستشرقة آنا ماري شيمل التي ترى أن الاستشراق علم له أصوله وقواعده ومناهجه، وقد تعاملت معه على هذا الأساس، وبالنسبة للمفهوم العام للاستشراق فيمكن تعريفه - كما ترى المؤلفة – بأنه «أسلوب من الفكر قائم على تمييز وجودي (أنطولوجي)، ومعرفي (ابستمولوجي) بين الشرق والغرب، ويستخدم دراسات أكاديمية يقوم بها علماء من الغرب للإسلام والمسلمين من شتى الجوانب: عقيدة وشريعة وثقافة وحضارة وتاريخ ونظم وثروات وإمكانات، سواء كانت لغة هذه الشعوب العربية أم غير العربية، كالتركية والفارسية والأوردية، وغيرها من اللغات، لأهداف متنوعة ومقاصد مختلفة» (ص:41).

 وانتقلت المؤلفة إلى بحث الكلمة من أوجه مختلفة، فحددت المفهوم الجغرافي للاستشراق، والمفهوم الفلسفي، وعرضت مجموعة من الرؤى المقدمة من قبل بعض الفلاسفة المعاصرين، وفي الأخير توقفت مع المفهوم الفني، فأكدت على أن الدارس حينما ينظر إلى نشاط الاستشراق في الفن، لا بد من  مراعاة الفرق بين معنيين، الأول منهما يقصد به (الفنون الشرقية)، وهي التي من إنتاج فناني الشرق أنفسهم، أو نتاج حضارتهم الشرقية المتعاقبة على مر العصور، أما المعنى الثاني: فيقصد به (الفن الاستشراقي) أو (الاستشراق في الفن) الذي يختص به المستشرقون أو المستعربون سواء بإنتاجهم الفني أو بدراستهم المتعلقة بذلك الإنتاج المرتبط في الوقت نفسه بالفنون الشرقية، كدراسات تاريخ الفن أو علم الجمال وعلم الآثار.

وفيما يتعلق بأهمية تصوير المستشرقين في القرن التاسع عشر، فقد لمست الباحثة تلك الأهمية من عدة جوانب، من جانب الأهمية الفنية، كون ذلك الإنتاج شمل فنونًا متنوعة مثل التصوير الزيتي، والرسم، والحفر، وتمثلت الأهمية العلمية في أن الكثير من المجلدات الضخمة التي أخرجها بعض المصورين المستشرقين، ارتبطت بطابع التحقيق العلمي في موضوعات شرقية كثيرة من بينها علم الآثار، وعلم المصريات، ولما كانت هذه العلوم وظفت العمل الفني لتأكيد دلالة البحث العلمي، فقد أصبحت مرجعًا مهمًّا للدراسات الاستشراقية العالمية، وتظهر أهميتها التاريخية والقومية في أن الأعمال الاستشراقية تعد تسجيلاً أمينًا لحقبة تاريخية، في وقت لم تكن آلة التصوير قد استخدمت، مما أسبغ على تلك الأعمال قيمة وثائقية فريدة تتصل في جانب كبير منها بعلم الوثائق التاريخية، كما أن نشاط الاستشراق الفني قد ارتبط بالفنون الشرقية، والتراث الموروث الذي ذهب إلى أوروبا.

في ختام هذا الفصل تتبعت المؤلفة علاقة دوافع الاستشراق بالاستشراق الفني، وحصرت هذه العلاقة في:

- الدافع الديني: حيث أوجزت الباحثة مظاهر حركة الاستشراق الدينية من حيث تأثيرها على الاستشراق الفني من خلال هذه النقاط:

«1 - أدت حركة الاستشراق الديني، المتمثلة في نشاط الرهبان والدعوة للتبشير في الشرق على امتداد الحقبة التي تلت الحروب الصليبية، إلى انتقال المخطوطات المسيحية وفنونها إلى أوروبا، كما ساهمت حركة الحجاج المسيحيين في الشرق في التبادل التجاري لفنون المصنوعات الشرقية.

2 - تطلبت مراكز الاستشراق الديني من خلال كراسي اللغات الشرقية التي أنشأتها الكنيسة الاهتمام بتغذية هذه المراكز من حيث تشجيع شراء المخطوطات الشرقية وإعداد الدراسات عن فنون الشرق وأسفار الرحالة، حيث غدت مرجعًا مهمًّا لفناني أوروبا.

3 - اهتم المصورون في القرن التاسع عشر بدراسة المخطوطات الشرقية وشرائها، وقد بدا ذلك واضحًا على سبيل المثال في تجوال المصور الفرنسي (بريس دافين) في بلاد الشام وفلسطين قبل زيارته مصر، كما اهتم بذلك أيضًا إدوارد لين، حينما ألف كتابه الكبير (المصريون المحدثون عاداتهم وشمائلهم)» (ص:63).

أما الدافع الاستعماري فقد ارتبط بالدافع الديني بهدف تحقيق الأطماع الأوروبية، وقد تبدى للباحثة أن أهمية الدافع الاستعماري ظهرت بصورة عامة في أنه شكل تفاعلاً بين هذين المجتمعين من خلال حدثين عسكريين مهمين، وظفا الاستشراق لخدمة أهدافهما التوسعية الأوروبية في الشرق العربي، وهما:

«1 - الحروب الصليبية التي استمرت لقرنين من الزمان، اندمج خلالها المجتمع الشرقي والغربي، وتأثرت أوروبا بمعالم الحضارة العربية وفنونها إثر ذلك خلال العصور الوسطى.

2 - الحملة الفرنسية على الشرق العربي، وكانت ذات تأثير بالغ في اتساع مجال الاستشراق وتفاعل حركة الاستشراق الفني في مصر بصورة فعالة، تأثر بها الفن الأوروبي، وأثمرت ظهور مدرسة (الأورينتاليزم)، التي تعني فن تصوير المستشرقين» (ص:64). ويعد الباعث العلمي للاستشراق، من أهم دوافعه من حيث إيجابية منهجه وفاعلية تأثيره وكثرة إنتاجه.

المؤثرات الشرقية المبكرة في التصوير الأوروبي

كرست المؤلفة الفصل الثاني من الباب الأول للكتاب للحديث عن العوامل المؤثرة في الاستشراق الفني المبكر، إذ ترى المؤلفة أن ظهور دور الفن الإسلامي في الاستشراق الفني كان خلال مدة امتداد الحضارة الإسلامية في حوض البحر الأبيض المتوسط وإسبانيا، وقد ازداد نشاط الاستشراق المكثف على مصر خلال القرن التاسع عشر بصورة مباشرة، وتذهب الباحثة إلى أن الاستشراق الفني قد شكل من خلال الأندلس ميدانًا فسيحًا، نظرًا لما احتوته من فن عربي وإسلامي سواء فيما يتعلق بالفنون الكبرى التي تمثل فن العمارة، وكذلك الفنون الصغرى التي تمثل منتجات ومصنوعات الفنون التطبيقية، إضافة إلى فن تصوير المخطوطات.

وترجع أهمية الأندلس في ميدان الاستشراق الفني المبكر- كما ترى المؤلفة- إلى عاملين:

 «أ. عامل زمني: حيث إنها مثلت التواجد الحضاري الإسلامي مدة زمنية طويلة من(711 - 1492م)، وهي مدة كافية للتأثير الفني، فضلاً عن أنها تميزت خلال تلك الحقبة بالاستقلال السياسي، الذي تحقق في ظله اندماج العرب والمسيحيين واليهود بصورة متفاعلة أثرت على النتاج الفني المشترك بين الشرق والغرب، ويعلق المؤرخون أن هذا التأثير لم ينقطع بفعل من حملوا تيار الحضارة العربية فيما بعد. أي بعد جلاء العرب عن إسبانيا، وما زالت حتى الآن تحتفظ بطابعها العربي الإسلامي، سواء في شكلها الفني أو تراثها الأدبي الموروث عن العرب والمسلمين». 

«ب. عامل جغرافي: ويتمثل في ارتباط أوروبا الوثيق بإسبانيا بحكم موقعها الجغرافي، فمنذ العصور الوسطى سهل هذا الموقع المتاخم للإمبراطورية الرومانية المسيحية في الغرب من وصول المستعربين إلى شمالها. كذلك ساعدت هجرة طوائف اليهود من قشتالة إلى أوروبا على نقل تلك المؤثرات الفنية الشرقية معهم، هذا بجانب حركة الحجاج المسيحيين، الذين توافدوا على أماكنها المقدسة»، ويضاف إلى ذلك حركة الرحلات والبعثات بين الشرق والغرب، التي كان لها أثر عميق في نمو النشاط الاستشراقي ووصول مؤثراته الفنية الشرقية إلى الفن الأوروبي.

في مبحث مستقل تعرضت الدكتورة إيناس حسني إلى المؤثرات الفنية الشرقية في الفن المسيحي البيزنطي، وقد وصفتها بأنها «المؤثرات الفنية التي توارثها المصورون الأوروبيون عن الفن البيزنطي، والتي ارتبط الكثير منها بالشرق، بفعل ميلاد الديانة المسيحية في فلسطين وامتداد الإمبراطورية الرومانية فيما بعد في الشرق، وقد انتقلت هذه المؤثرات بما احتوته من عناصر الفن الآسيوي والهيلينستي إلى الفنون الأوروبية خلال العصور الوسطى، وعرفت بما يسمى بـ(الاصطلاحات التشكيلية)».

في المبحثين الأخيرين ناقشت المؤلفة موضوع «دور الحضارة الإسلامية في الفن الأوروبي»، و«ملامح المؤثرات الفنية الإسلامية في التصوير الأوروبي»، فلا يختلف اثنان في أن ملامح الحضارة العربية الإسلامية في شكلها الفني قد انعكست على الفنون الأوروبية، وهذا ما تجلى في فن المخطوطات المسيحية المصورة، ومدرسة تصوير البندقية التي تأسست في القرن الخامس عشر، كما ظهرت في بعض لوحات المصورين الأوروبيين في عصر النهضة، وتجلت في حقبة ما بعد عصر النهضة حتى القرن التاسع عشر.

أثر البيئة العربية والعمارة القديمة في أعمال المصورين المستشرقين

في الباب الثاني من الكتاب، الذي ينقسم إلى فصلين، تحدثت المؤلفة عن أثر البيئة على أعمال المصورين المستشرقين، فتوقفت مع المدرسة الفرنسية ممثلة في المصور جان ليوم جيروم (1824-1904م) فقد كان واحدًا من أنجح فناني مجموعة المستشرقين، وقد عُرف بكثرة ترحاله في الشرق الأدنى، وقد استمر شغفه بالرحلات الطويلة حتى قارب الثمانين من عمره، ورسوماته ذات صبغة تاريخية وأسطورية، وتشير المؤلفة إلى أنه على الرغم من كثرة أسفاره إلى العديد من بلدان العالم، إلا أن القاهرة ومصر عمومًا ظلت هي معشوقته الأثيرة، وتذهب إلى أن أهمية إنتاجه الفني يكمن في أنه يمثل خصائص (مدرسة الاستشراق) في القرن التاسع عشر من حيث اتجاهاتها الفنية، التي تميزت بالتسجيل الواقعي للشكل في إطار الدراسة الفنية الأكاديمية، وقد اتسم تأثير إنتاجه على الحركة الفنية الأوروبية آنذاك بالقوة، وانعكس على أعمال كثير من المصورين الذين ساروا على نهجه، كما تميز كذلك في فن التصوير الاستشراقي بالغزارة، وقدم حصيلة وافرة من المراحل التخطيطية، واللوحات الزيتية الفريدة.

أما المصور جون فريدريك لويس الذي ينتمي إلى المدرسة الإنجليزية، فقد تفاعل كغيره من المستشرقين مع الحياة المصرية، وتميز بقدرة التكيف، وتؤكد المؤلفة على أن أهميته لا ترجع لما أنتجه من حصيلة وافرة من التخطيطات الأولية واللوحات المتنوعة الأساليب فحسب، بل لما حققه من تأكيد كيان التصوير الاستشراقي وتأثيره في الحركة الفنية الأوروبية.

ويُعد المصور دافيد روبرتس من أبرز المصورين المستشرقين الذين ينتمون إلى المدرسة الإنجليزية في(الاستشراق)، وقد كان صاحب إنتاج غزير اتسم بالروعة والإتقان تناول في أكثره موضوعات العمارة الإسلامية والآثار الفرعونية المصرية، والمدة التي قضاها بالشرق هي التي جعلته أكثر التصاقًا بواقعه، ومكنته من أن ينتج فنًّا نكتشف من خلاله عبق الشرق الذي جعل من (دافيد روبرتس) أسيرًا له على حد تعبير المؤلفة.

وأهمية إنتاجه تكمن في كونه أحد الفنانين الكلاسيكيين، ونظرًا لأنه مستشرق فني وعلمي، وقد قدم خلال هذا الإنتاج تسجيلاً شاملاً لرحلته في الشرق، كما سجل يومياته وملاحظاته عن طابع الحياة الشرقية، وقد اتسم إنتاجه الفني بالتنوع في الرسم، والتصوير، والصورة المحفورة (الحفر)، وقد أخرج مؤلفًا ضخمًا عن زيارته إلى مصر والشرق الأدنى وسمه بـ« الأراضي المقدسة ومصر والنوبة»، وهو ينقسم إلى ثلاثة مجلدات، وقد أحاط في هذا الكتاب إحاطة شاملة بالطابع الفني والاجتماعي لمدينة القاهرة.

وقد قدم باسكال كوست مجموعة من الدراسات الفنية الوافية حينما صور العمارة الإسلامية، وتؤكد المؤلفة على أن تفرد شخصيته في المعالجة التشكيلية لهذه الموضوعات أدى إلى إضافة جديدة كانت من أهم الترجمات للمنهج الفني الكلاسيكي، حيث ظهرت دقته في النقل والتقليد المثالي الذي انعكس من عقليته الهندسية، وقد التزم التسجيل الواقعي للشكل المعماري، ووظف صياغته الفنية لخدمة الغرض العلمي، والتزم بالقواعد الفنية القائمة على الخط الأكاديمي، والذي اتفق مع غايته العلمية في المنظور والظل والنور والألوان المحلية التي تتميز بها واقعية الشكل وخصائصه المكانية.

وقد لاحظت الدكتورة إيناس حسني أنه كان  يبحث دائمًا عن سر جمال الفن الإسلامي، فتتعدد وتختلف زاوية التقاطه المنظر أو إعداده التصميم حسبما يبدو الشكل المراد دراسته في أجمل هيئة، وبالرغم من صعوبة الدراسة الفنية المعقدة للمقرنصات الإسلامية التي تجمل أعلى المدخل، فإنه يتفانى في إبرازها مستخدمًا الانعكاسات الضوئية وظلالها، حتى يشعرنا بأبعاد النحت الزخرفي الغائر والبارز.

الشرق وديلاكروا وفنانو الطليعة

يشتمل الباب الثالث من الكتاب على ثلاثة فصول، في الفصل الأول منه قدمت المؤلفة بحثًا وافيًا عن ديلاكروا، وتتبعت مسيرته بدقة، وذكرت أنه كان منذ بداية اشتغاله بالرسم مفتونًا بجموح ووحشية الحيوانات، ولطالما أثارت اهتمامه بشكل خاص الخيول وصراعاتها الدامية فيما بينها. وهو أمر رآه رأي العين في أثناء زيارته إلى شمال إفريقيا، حيث رسم العديد من اللوحات من وحي إقامته في المغرب صوّر فيها عدة مظاهر تجسد صراع الحيوانات بين بعضها البعض، وصراعها مع الإنسان، وقد ألهمت رسوماته عن الحيوانات والخيل خصوصًا، عددًا من الرسامين مثل الفنان الإنجليزي(جورج ستبس)، الذي رسم الخيل في عدد من لوحاته، ويرجع اهتمام ديلاكروا بالشرق إلى ما قبل زيارته إلى الشمال الإفريقي بمدة طويلة، إذ اشترك مع معظم معاصريه في الاهتمام بالشرق الذي أعادته الحملة الفرنسية إلى بؤرة الاهتمام، ولا سيما بعد نشر (فيفان دينون) كتابه عن مصر، كما ظهر كذلك كتاب (وصف مصر) الذي تميز بلوحاته الفريدة عن آثار مصر الفرعونية والإسلامية.

في الفصل الثاني تطرقت الدكتورة إيناس حسني إلى علاقة ديلاكروا بشمال إفريقيا، إذ كانت رحلته القصيرة إلى المغرب والجزائر من أشهر الأحداث الفنية في تاريخ فن القرن التاسع عشر، إذ لفتت نظر الفنانين الفرنسيين، وللمرة الأولى كانت الرحلة إلى شمال إفريقيا تعادل في الأهمية الرحلة التقليدية إلى إيطاليا. كما أنها ألهمت الفنانين بعض الصور التي تعد من أكثر اللوحات متعة وإثارة على الإطلاق.

وفي الفصل الأخير من الكتاب بينت المؤلفة رمزية ديلاكروا عند التأثيريين، فرأت أن ديلاكروا لم يكن رمزًا للفنان الثائر فقط، بل إنه نقل أفكاره عن اللون إلى الجيل الأصغر، حيث نقل إلى التأثيريين ما أخذه عن كونستابل، كما أضعف سيطرة آنجر على الجيل، بتركيزه على اللون وليس الخط، وتجنب الإعداد المتناهي في الدقة للفراغ والخطوط الخارجية الدقيقة المحكمة التي كانت معتادة في ذلك الوقت، من خلال استخدامه للضوء، وبذلك فقد مهّد ديلاكروا الطريق لتجارب التأثيريين.


عدد القراء: 6943

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-