الأخلاق بديل لقيم التقنيةالباب: مقالات الكتاب
عبد الحكيم برنوص المغرب |
ترجمة: عبد الحكيم برنوص
تكاد تكون فجأتنا شديدة، عندما نسمع المفكر ـ الخارج لتوه من عباءة الراهب يقرر أن: المدرسة بقدر ما تُعلّم بقدر ما تُعمي وتزرع الجهل والتزييف، وأن الطب لا يلبث ينشر المرض ولا يداوي أحدًا، وأن النمو الاقتصادي المتضخم لن يسد حاجيات المجتمعات والأفواه الفاغرة، وأن سائق السيارة بالكاد يصل قبل الراجل ... هي أفكار نشرها إيفان إليتش ( 1926 - 2002) التي لم ينتبه إليها أحد في حينها. واليوم وأمام هذا التضخم الصناعي الهائل وما يستتبعه من كوارث وأزمات، تكون حاجتنا ماسة إلى إعادة قراءة أفكار هذا النمساوي الأصل، الذي ليس ماركسيًّا ولا يساريًّا، واختار أن يعيش بورمه (حقيقة ومجازًا) لعشرين سنة رافضًا كل عرض علاجي، إلى حين وفاته. (المترجم)
أعني بالمجتمع التواؤمي نقيض المجتمع القائم على الصناعة المفرطة في الإنتاجية، ففي داخل المجتمعات الصناعية تحدد قيمة الفرد، إما نسبة إلى غيره من الأفراد الآخرين، أو إلى الوسط الذي يعيش فيه، أو نسبة إلى البنية العميقة لأدوات الإنتاج التي يستعملها. وهي أدوات الإنتاج التي لا يمكن أن تحيد عن الثنائية التالية: أدوات متحكمة أو أدوات متوائمة.
إن الانتقال من نمط إنتاج الأداة المسيطرة إلى نمط إنتاج الأداة المتوائمة، هو انتقال من هاجس النقص إلى تلقائية العطاء، بدخول الفرد إلى دورة الإنتاج الصناعي، فإنه يخضع لا إراديًّا لعلاقة انعكاس شرطي، وتتكون لديه استجابات نمطية إزاء ما يتلقاه من مستعملين آخرين لا يعرفهم، أو من وسط مصطنع لن يتعرف إليه أبدًا. في حين تبقى العلاقات التآزرية جديدة دائمًا، وهي نتاج الأفراد الذين يشاركون في بناء الحياة الاجتماعية.
الانتقال من نمط الإنتاجية إلى نمط المخالطة الاجتماعية، يعني استبدال قيمة أخلاقية بأخرى تقنية، أي المرور من قيمة مادية إلى أخرى متحققة. التواؤمية هي تحقيق لحرية الفرد داخل علاقات إنتاج، في مجتمع يمتلك أدوات إنتاج أساس. عندما يكبح مجتمع ما، هذه العلاقات التشاركية بين أفراده، يصبح فريسة سهلة للنقص والعوز، لأن أي تضخم في الإنتاج لن يستطيع تلبية الاحتياجات الهائلة والمتنوعة لأفراده.
ينقسم العالم اليوم إلى قسمين: الذين لا يملكون إلا القليل، في مقابل الذين يملكون كل شيء، من جهة: الذين تطردهم السيارات خارج الطريق، وفي الجهة أخرى أولئك الذين يتواجدون خلف مقود السيارة، في هذه المجتمعات، يزداد الفقراء حرمانًا، في حين يزداد الأغنياء جشعًا. إن المجتمعات التي تسير متناغمة وفق إيقاع أفرادها، لا يمكن مقارنتها بأي وجه من الأوجه مع مجتمعات الماضي الشديدة القسوة، كما تستعصي على المقارنة كذلك مع المجتمعات التي بتنا نراها في زمننا الحاضر. وها نحن اليوم ندخل عصر الإنسان ـ الآلة، العصر الذي أتاح للإنسان إمكانيات غير محدودة، لكنه في الوقت نفسه، قيد حريته وجعلها محصورة داخل دائرة لا يتجاوزها إلا بالقدر الذي تسمح به هذه الأدوات العصرية.
في عقول الناس المحاصرين داخل هذا النوع من المجتمعات، لا مكان للقفزة النوعية التي تتبع اقتصادًا متوازنًا وقارًا يعيش فيه الناس بتناغم مع العالم الذي يحتضنهم، ولا وجود في تفكيرهم للاستعداد للعيش داخل مجتمع متحرر من ضغط الوقت والتدخلات التي أضحت تمارسها الآلات والأدوات في حياتهم، ففي ظل هذا الواقع أصبح الإنسان ـ الآلة عاجزًا على العثور على السعادة التي لا تبعد عنه إلا قيد أنملة، وفي ظل تفقير مقصود لا يستطيع الإنسان أن ينتشي بلذة الحياة. نقيض هذا، يمكن للإنسان العيش في مجتمع، يستطيع فيه كل فرد أن يعرف ماذا يعني العيش داخل مجتمع فقير ربما، لكنه سيكون حتمًا مجتمعًا غنيًّا و مليئًا بالمفاجآت.
بعض الأدوات أصبح لها دور تدميري في الحياة، بغض النظر عن الأيادي التي تتحكم فيها، مثل شبكة الطرق السيارة، ووسائل الاتصال المتشابكة التي تستعمل المدى الواسع لموجات البث، أو المناجم المكشوفة أو حتى المدرسة. تكرس الأداة المدمرة (المؤسسات) التنميط والاستغلال والتبعية والعجز، وتخفي عن الفقراء حظهم من التواؤم، حتى تحرم الأغنياء من نصيبهم من هذا التواؤم هم الآخرين.
وجد الإنسان المعاصر صعوبة في فهم النمو مرادفًا لخفض استهلاك الطاقة، وليس الزيادة فيها، بالنسبة إليه فإن التقنية الحديثة، لا محيد لها عن التدخل في السيرورة المادية والروحية والاجتماعية. إذا أردنا فهم هذه الأدواتية فهمًا معقولاً، فإنه ينبغي علينا التخلص من وهم الربط بين التقدم و بين الاستهلاك المفرط للطاقات الممكنة.
في الحضارات القديمة كانت توزع مصادر الطاقة بين الأفراد بشكل عادل، حيث يتمتع كل فرد ـ بالنظر إلى بنيته الجسدية ـ بكل الطاقة التي تلزمه خلال حياته كلها، لإحداث التغيير اللازم في محيطه، ما دام أن مصدر هذه الطاقة يبقى هو الجسد، مع مراعاة الشرط الوحيد، بأن يكون في صحة جيدة.
المصدر:
إيفان إيليتش ، التواؤمية 1973، مجلة le seuilL le Point ، شتنبر أكتوبر 2015 ، ص 77
تغريد
اكتب تعليقك