
الشـعـر والوجـود
تتطور اللغة كنظام للتواصل بتطور الفكر، لكنها أيضًا كمعبر عنه تنتج عوالم ولا تكتفي بتوصيف محيطها الطبيعي والاجتماعي، وبذلك فهي منتجة للمعنى ومتأثرة به، لا تستغني عنه ولا يستغني، وهي بمجرد ما تأهل العقل لتجاوز الحسي ومعانقة المجرد، اضطرت تركيبيًا وأسلوبيًا لأن تساير هذا المستجد، فتفاوتت تمثلات البشر واختلفت، مشيدة ثقافة بها تأثرت وفيها أيضًا أثرت، وليس معنى ذلك أنها مجرد أداة أو وسيط بين الكائن وذاته، وبينه وغيره، فهي ما جعل من الوجود وجودًا مدركًا ومتخيلاً في الوقت نفسه، فهي بما هي عليه، منظم للمعاني قد يخرق نظام القول والكتابة، بإضافة أو تعديل أو حتى تجاوز، سرعان ما يخلق قواعد القبول به، وقد كان الشعر مدخلاً فارضًا للتغيير وحاتًا عليه، بما يتملكه الشاعر من قدرة على توليد التراكيب واللعب بها للكشف عن البعد الجمالي بجهده هذا، المطلوب في كل اللغات، وبذلك يزدهر الشعر بازدهار الحضارات، ويتراجع بتراجعها أو يخفت ضوؤه كلما تراجعت ثقافة الحضارة أو عاشت انحسارًا، عطل الخيال واستبعد الجمال التعبيري، الذي به تنتعش اللغة وتجدد ذاتها، فتتجدد معها قدرات وتلتحم بها جماعات، هي ما تتأهل به الملكات وتشحذ لتواصل سيرها بالثقافة ومعها صوب الآمال البشرية، التي تخيب إن اعتلت اللغة الشعرية أو تعطل فعلها، وبذلك فالشعر أول ما يتراجع عندما تتراجع الحضارة، كتعبير عن جمود في الإحساس وتحجر يصيب العواطف، فيتأثر العقل ويتخذ وجهة نفعية في التفكير، وربما تجبر ظانًا أنه وحده سيد كل تقدم وتطور، وبذلك تصير الطبيعة فاقدة لكل ما يهبها معنى، ويلحق ذلك مجمل العلاقات البشرية، وتغدو الأخلاق قيما للضعفاء والذين لا قدرة لهم على مواجهة الحياة والطبيعة، وتحتجب الرموز فلا شيء له قيمة إلا النافع والمجدي في معترك حياة لا ترحم ولا تدر، وهو ما يسمح للكائن بأن يحفظ كينونته بالحاجات الملحة والمحققة لرفاهيته المادية، التي تخلو من كل تخيل أو إبداع لقيم أخلاقية وجمالية، فما الذي يضيفه الشعر للحياة والوجود وحتى العقل نفسه؟؟
1 – اللغة حررها الشعر:
تكلم الناس بداية للتعبير عن الحاجات وتبادلها، وبذلك فقد بدأت بالأسماء وإن سبقتها الأفعال الجسدية، وقبل أن تبدأ المجردات، كان الخيال سباقًا لبناء عوالم محايثة للحياة ثم مفارقة لها كما فعلت الأساطير، التي صورت عالم ما بعد الموت وما قبل الحياة، فكانت الأساطير شعرية لتجد لنفسها قداسة التصديق، فالمبهر بدأ باللغة، والحسر نفسه، فكلما عم الغموض وطلاسم القول تعددت الدلالات وفي تلاشيها يبحث الناس عن كاشف أسرارها، فكان الكلم من الأسرار القديمة التي تقدست، فحفظت بدل الكتابة لتظل روحية بنطقها بدل رسمها على أشياء مادية تفقدها روحانيتها وقداستها، من هنا انبعثت النظرة للوجود على غير ما تدركه الحواس، بل إن الكلمات ما فتئت تتجاوز كونها كعلامات لتصير رموزًا لما يتخيل ولا يدرك حسيًا، سواء كان عوالم أو معاني، ولذلك قيل أن الإنسان حيوان ناطق، فترادف النطق مع العقل والفكر، فلا شيء يدل على الفكر والتأمل إلا الكلام، واللغة كانت أول لعبة بها يتمايز الناس عن بعضهم ويتفوقون بعد أن تراجع التفوق الجسدي بتطور الحضارات وظهور مميزات جديدة يفتخر بها الكائن الناطق بدل الاندفاعات الجسدية الوحشية، فقد تسامر الناس ورددوا أهازيج للفرحة كما بكوا من فقدوا باللغة، فأدركوا اتساعها للحزن والفرح، والمدح والقدح، وتعجبوا من تأثيراتها وقدراتها على تحريك العواطف وأحيانًا حتى الاندفاعات الحماسية وتأجيجها للعواطف، كما عبدوا بها لدفع الشرور وجلب الخيرات للأفراد والجماعات، فمهر بها السحرة قبل الشعراء وكانت لهم نبراسًا للحقائق الغائبة أو المغيبة، وكانت تلك العمليات مجددة لعوالم وحافظة لأخرى، فحفظت في الذاكرة وتوارثها اللاحقون عن السابقين، وأضاف غيرهم بالشرح ثم التأويل ما يناسب حياتهم ومتطلباتها الجديدة، فانبعث الشعراء على أنقاض السحرة كاشفين عن عوالمهم التي ربطوها بالحياة أو تعالوا عليها، فغدا الشاعر سلطانا للغة إلى أن خافه الناس واحتفوا به كأنه مبعوث خرافي له قدرة كشف القادم ودفع أضراره، لكأنه المنذر والمبشر، فشيد بلغته الملاحم وسطر أمجادًا للأجداد وقولهم ما عجزوا على قوله، فلم يشكك أحد فيما سمعه، ولم يطالبه أحد بالبرهان على ما قال، حتى صارت صور الشعراء أكثر حقيقة مما يحكى ويقال ممن عايشوا السابقين، لكن الشعراء لما صنعوا شعرهم ولغاتهم، لم يكونوا على قلب رجل واحد، بل اختاروا لأشعارهم أغراضًا، بها عرفوا وعرف بهم شعرهم، فتخاصموا باللغة التي هي أشعارهم، فتفننوا في النظم وتنافسوا لكسب قلوب الناس أو الجماعات وربما السلط، فمنهم من يمتعون ومنهم من يهجون وآخرون اختاروا لكل مقام قولاً، فعددوا ما نسجوا طلبًا للمجد أو الحياة أو الثورة، حسب انتماءاتهم وحضاراتهم وميولاتهم، ولأنهم سادة الكلمة، خافتهم السلط بكل أشكالها، فدمجت بعضهم فيها بديلاً للسحرة والكهنة فيما بعد، أو دعمتهم بهم ليكونوا لها عونًا وتأمن شرورهم تفاديًا لتمردات محبيهم ومصدقيهم من الناس، ومع ذلك، حتى الديانات اعتبرت البدء كلمة، وإن تراجعت على ذلك، بحكم خوف رجالات الوحي على وحيهم من الشعر والشعراء، فقد تصالحوا مع بعضهم وسجنوا أو قتلوا البعض الآخر.
2 – الشعر محرقة الابتذال:
عندما تنحط اللغات بفعل غلبة التواصل وتبسيطه للغة، يجد الشعر والشاعر نفسه في مواجهة البساطة والمباشرة في التعبير، فيسمو بالمعاني مطالبًا عشاق الكلمة بملاحقتها كرموز تتجاوز المعتاد وتثور عليه، وهنا يجد الشعر نفسه في مواجهة أصناف أدبية وخطابية، تحاول تقريب المعاني بما شاع وتكرر، مثل الخطابة والوعظ، وأحيانًا يواجه حتى أصناف من الحكي حتى بعد أن صار روايات، تمتع بالحكايات الخارقة، هي أقرب إلى الحكايات الشعبية التي تنتشر في مراحل الانحطاط الحضاري والأدبي، فتستحضر ما تراكم شفاهيًا حول شخوص تتخذ لنفسها لبوسات عقدية أو خرافية، تلهي عن الوعي بالمجتمع فتحلق بالذهن خارج العالم المأزوم هربًا من الأسئلة الحارقة، التي تدفع للتفكير في المصير ورهانات الإنسان وهو يصطدم بما يهدد وعيه ووجوده وسعادته، فالشعر ينتصر باللغة على اللغة عندما تبتذل أو تنحط، ويخلق ترابطًا بالفلسفة دون أن يصرح بذلك، وقد يعود للأسطورة، كاشفًا عما سيء فهمه فيها، فيحررها مما اعتقلت به حتى بدت خرافات، وهي تعبير عن الإنساني واحتفاء به لدرجة أنها ألهته أو ربطته بالآلهة وأحيانًا انتصرت له على الآلهة، أو فضحت تخاذلها وكرهها له، وهو ما تم الانتباه له مع دراسات اختصت بالأساطير، فكشفت عن دلالاتها الخفية، بل حتى عن استفادة الديانات منها وتوظيفها لعوالمها الرمزية فجعلتها حقائق سامية، لتهمش الوجود وتعتبره مجرد ظلال لحقائق في عالم آخر، لا يطاله لا الحس ولا حتى العقل نفسه، هذه معارك الشعر، وقد خاض معتركات المواجهة في قضايا أخرى، فناب عن الساسة كما فعل في حالات مع الفلاسفة، ودعم اللغويين وثار على النحويين وحماة البلاغة عندما ضاقت بمعاني الشعر واجتراحاته، بل واجه حتى الفقهاء عندما استعار من عالم المتصوفة لغتهم فأحسن توظيفها في رفض الوساطات بين الله والبشر، ولذلك لجأ إليه المتصوفة وهم يعبرون عن عوالمهم، فيخفون بعضها بجمالية الغموض مسلمين مفاتيح البوح بها للقادمين ممن يدركون سمو المعاني على بعض العصور التي انغلقت أو غابت فيها الحرية ولم تتسع لأقوالهم فرمزنوا المعاني واستأمنوا عليها الزمن والتاريخ لتكشف في عصر غير عصرهم، فقد اختاروا العبارة بدل الإشارة للتعبير عما اعتقدوه حقيقة تتجاوز الحرفي وحتى التأويلي لتصل بوصالها حيث البرزخ لغة غير منطوقة ولا مستصاغة بالمنطوق البشري، لذلك تبدو عباراتهم لا يحتملها إلا الشعر بقدرته على خرق عوالم للوصول إلى أخرى تخيلاً لا توصيفًا أو لنقل تبسيطًا. فالشعر لا يوجد إلا حيث احتراق المعتاد والمبتذل والمبسط، رغم أن هناك أشعار متحت من المعتاد سخرية أو مباشرة وعطفًا على واقع، لم يتملكه الشعر فاحتوى هو نمطًا من الشعر أراده أهل العادة فكان لهم إلى حين.
3 – الشعر معرفة مفارقة:
ليس الشعر فلسفة وإن تضمنها، ففيه بعض منها أو ما استعصى فيها على الظهور بلغة صارمة بمنطقها، وهو إذ يعبر عما هو فلسفي يغير العبارة لتصير شذرة مختلفة عن الشذرات الفلسفية، هنا تكمن صعوبة استحضار المعرفي في الشعر بدون أن يصير غيره، فهو مسار قابل للتنوع مع حفظ جوهر له، مختلف حوله، اللهم في كونه لغة، واللغة في عرف الوجودية وجود لا يقبل الثبات، فهو يتحرك برؤية ليست حاضرة في كل الشعر وليست في الوقت نفسه شرطًا له، فالشاعر يخلق رهاناته ولا ينجح فيها جميعًا، وبذلك فشعره نقص دائم، ولا يتم من خارج تجربته حتى داخل التيار الواحد، وهو إذ يبصمه بخصوصية لغوية تعبيرية أو تصور حول الوجود، لا يتملكه إلا بما يضيف إليه، والإضافات لا تحسم إبداعيته، لأنه يسعى هو نفسه لتجاوزها حتى لا يتعثر بها أو يعيق المسار بتوقفاته فيصطدم بها اللاحقون، وينجرف معهم حيث يسيرون مكررًا لتجاربهم، وقد عاش الشعر العربي محصورًا ببنية تعريفية، جعلته منه كلامًا مقفى ذو دلالة، فعملت الحدود على اختزاله في القول ناسجة إيقاعات خارجية ضامنة للتغني، فكسرها شعراء وثاروا عليها منسابين مع بلاغتهم الكلامية والحماسية، فنتج عن ذلك محاولة تسييجه بما عرف بأغراض الشعر، وكان مرة ثانية هذا التحديد خارجيًا، إذ رسمت له غايات سميت وفرضت على الشعر تصنيف نفسه وإن تداخلت الأصناف عرف بالصنف الغالب فيه، من مدح أو ذم أو رثاء وغزل، فكان اجتهاد اللغويين البحث عن خاصية شعرية ثابتة في اللغة العربية، تؤهلها دون غيرها لتملك شجاعة مكسرة للتوافقات، بحكم أن القول الشعري حجة بلاغية، يقبل منه ما لا يقبل من غيره، فصار حجة ومعيارًا للبلاغة والبيان اللساني، ثبت ذلك من خلال الجرجاني وابن جني وغيرهما، وفي خضم هذا الصراع انتصر التقليد بمبرر قداسة اللغة وعدم اعتبارها محكومة بمواضعات تقبل بها لغات أخرى، ما عدا لغة القرآن المقدسة، ورغم قساوة المواجهات، تطور الشعر العربي ووجد منتصرين لحريته، المكسرين لجبروت البلاغة وحراسها من الخطباء والوعاظ والفارضين على الشعر مراعاة المقام بإخضاع المقال له، أي القول الشعري، فنشطت كل أشكال التمرد واقتحمت منطق العروض والإيقاع بما تملكت من وسائل، ونسجت تحالفات مع رجال الفكر وعلماء الكلام وحتى الفلاسفة لنزع القداسة عن اللغة العربية بغية تحريرها من التقاليد القولية التي تبحث لكل خطاب عن غاية كاشفة عن نية القائل والغرض من قوله، ولما اشتد التدافع وتجاوز الفكر والمحاورة، إلى عنف، عدد الشاعر دلالاته وفتحها في اتجاهات شتى من خلال ما اعتبر غموضًا جماليًا، غارقًا في تخيلات تجاوزت المعتاد وكسرت ثوابته، وهو ما نبه إليه لويس أرجون، محددًا أن الجمل لها تاريخ، خارجه ينفلت المعنى، مما يعني أن وحدة النص فرضية انسجامية بمثابة منهج يشد المنفلت إلى وحدة ليسهل على العقل أو الخيال الإمساك بها والتمكن من فك رموزها، فأية معرفة يقدم الشعر، وحول ماذا، الذات أم العالم أم الواقع المعاش أم الوجود؟؟
4 – نموذجية التطور:
منذ هرقليطس ودمقريطس انتبه الفكر اليوناني إلى عنصر الحركة كمقوم للوجود من خلال اعتبار الثبات ظاهري بل وجه لحركة دائمة هي العنصر المتحكم في كل الظواهر، لكن الحركة توجت وجودها الحداثي مع جدلية هيجل، في الدولة ممتدة للفنون نفسها، مرورًا بالكلاسيكي التجسيدي إلى المجرد فالعقلي من خلال صراعات ينتصر فيها اللاحق على السابق، من هنا غزت فكرة التطور كل المجالات، خصوصًا بعد فتوحات العلوم التجريبية والفيزياء والكيمياء، لتنضاف إليها العلوم الإنسانية التي مرحلت المجتمعات البشرية فانبثقت عنها بحوث تاريخ الأفكار وعلومها من سوسيولوجيا وسيكولوجيا وحتى علوم اللسان، التي رغم إقرارها بالسكوني المحكوم بالقواعد، فهناك حركة محدثة للتغيرات من خلال اللغة وحتى كل أشكال التواصل الأخرى، فميزت بين العلامات والرموز، كتعبير عن انتقال العقل من الملموس إلى المجرد، وطبعًا لم يتثن الشعر نفسه من هذا التطور، بل انخرط فيه خالقا بذلك أفقا جديدا للقول، بل إنه انتصر للكتابة على منطق الشفاهي الإيقاعي كتعبير عن البعد الغنائي في القول الشعري الذي عاشته كل الحضارات كمرحلة من تطورها الضروري، فلا يمكن القبول بالتطور في العلم والمعرفة والفلسفة وحرمان الشعر من هذا الانتقال إلى حداثة صارت ضرورة تاريخية، بدأت بتنويع الإيقاعات والتمرد على نظام القصيد، فظهرت قصيدة النثر أو الشعر الحر، بما هو رهان على الكتابة وترميز الحكاية وهي تستحضر الأسطوري أو ترفض مخرجاته الوجودية مذكرة بمعاني جديدة لها، أو نافية لها، بل إنها فلسفت الكتابة الشعرية بالبحث لها عن رؤيا ناظمة للمعنى أو خارقة له بما يحتمله أو يتجاوزه أحيانًا، فتعددت التجارب وتصارعت في محاولة جديدة لتعريف الشعر خارج القواعد المتعارف عليها تاريخيًا، أي تاريخ العربية وقولها الشعري باستحضار تجارب أمم أخرى وإن لم يكن لها سبق شعري على العربية التي كان الناطقون بها أهل شعر لا نعرف بالضبط تاريخ بدايته، أي ما قبل الإسلام وحتى ما عرف بالشعر الجاهلي بحكم غياب الكتابة التي تعتبر اكتشافًا قديمًا لم تصل إليه كل الشعوب والحضارات وإن تعلمت من بعضها من خلال استعمال الحروف مع الحفاظ على لغتها المنطوقة التي بتحولها إلى كتابة بحروف الآخرين، اكتسبت مهارات جديدة واكتشفت عوالم أخرى اغتنت بها تأويلاً لصورها أو تجديدًا وحتى تحريفًا وتزويرًا، وقد كان لرجالات الدين دور لا يمكن إنكاره، خصوصًا الديانات القديمة وكهنتها الذين اعتبروا اللغة سرًا به تخفي الآلهة أسرارها عن غير المعتقدين بها، خصوصًا الديانات الخاصة بجماعات محددة احتكرت آلهتها لنفسها في مواجهة آلهة أخرى. فهل تصح المفاضلة في الشعر بين قديمه وحديثه، وهل حداثته زمنية أم فنية وما هي الخصائص الجمالية لهذه الحداثة؟؟
5 – من الكلام المنظوم إلى الكلام المخيل:
يقول أدونيس في الثابت والمتحول: لا يمكن وضع تعريف للشعر نهائي وثابت، فهو حركة من الإبداع مستمرة، يجيء من أفق لا ينتهي ويتجه نحو أفق لا ينتهي.
وبذلك فمصدره ليس محددًا، بل إنه رافق الأساطير وأحيانًا عبر عنها، وحتى في الفلسفة ما قبل أرسطو، أي قبل هيمنة العقل، كان القول الفلسفي شاعريًا في لغته، بل وكان على حد تعبير هايدجر ملازمًا للوجود ومتأملاً له خارج سلطة الميتافيزيقا التي نسجت قواعد المنطق لتؤسس بصرامة لغة تقنية أو شبه تقنية، محتفية بسلطة الموجود ومحاصرة لما اعتبرته وجودًا نهائيًا، ليس العالم المحسوس إلا ظلالاً له، أما في التجربة العربية، فقد ركزت على الشكلي كنظام للقول الإيقاعي الدال تمييزًا له على النثر، وإن كان الشعر مشتق من شعور الشاعر وإدراكه لما غفل الناس عنه في حديثهم اليومي باللغة التواصلية المكررة لما درج الناس عليه واعتادوه في أقوالهم، لكن الفلاسفة المسلمين أضافوا له التخيل الذي لا ينشد التصديق كما يريده العقل ويسعى له ومعه آليات العرفان الصوفي، فالتخيل لا يشترط فيه الصدق كمعيار جمالي، بل يجاور المحتمل والممكن كمعرفة تحاول رصد اتجاه الوجود بما هو ممكن التحقق تخيلاً لا واقعًا، وبذلك يكون الشعر رغم الاختلاف في تعريفه، يتحقق بشاعرية الشاعر وإدراكه لما غاب أو احتجب، أو تغييره لزاوية النظر ليدرك في الأشياء ما احتجب منه أو غاب عن أذهان القراء من عوالم ممحاة أو ملغاة بفعل عوامل يتجاهلها الشاعر حتى وهو يواجهها، حتى لا يختلق لشعره غايات خارجية غريبة عن الشعر أو مغيبة لطبيعته، وبذلك، فحداثة الشعر ليست زمنية ولا معرفية بالمعنى العقلاني، بل هي إدراك لما لم يسم بعد، لحالة تراوغ اللغة لتقولها ما هو مضمر فيها أو منفي وربما منسي، وهذه الحالات وجدت قبل الحداثة وحتى ما قبل الفلسفة وقد تكون سابقة حتى على الأسطورة، كما أن الكتابة ليست شرطًا للحداثة الشعرية، فكثير مما قيل شفاهيًا ظل في شفاهيته مخزنًا في الذاكرة وكتب فيما بعد محتفظًا على مكانه رغم صعوبة استمراره في الذاكرة بدون أن تمسه تغيرات وتحويرات من الصعب إثبات حدوثها أو عدمها تاريخيا، رغم وجود إمكانات مع تطور اللسانيان والفيلولوجيا على ضبط روح الشفاهية حتى فيما كتب، وهنا ندرك لماذا لم يستثن هايدجر القول المقدس من تعبيره عن الوجود بما يشابه الشعري في بدايته، قبل أن يحاول عزله والتبرؤ منه لاحقًا، أما عن الجمالية، فإن حداثتها صعبة الحسم لأنها مرتبطة بالزمن، تارة تبدو تاريخية وأخرى متعالية على المتحول التاريخي، بدون أن تصير جوهرًا ميتافيزيقا خالدا ومستمرًا في اتجاه ما، إنها وليدة تذوق وذائقة فيها الكوني ولكن الزمني حاضر أيضًا، بما يمتح من الذاتي كشاعر، له ثقافته وحسه ولغته ورؤيته ورؤاه أيضا، سواء أدرك ذلك أو لم يدركه، لكنه حتمًا حاضر فيه وبه وهو يكتب ما هو شعري أو ما سوف يصير شعرا، إنه باللغة يعيد خلق العالم ويرمم المتلاشي ليهبه معنى آخر غير الذي كان له، فلا معنى لشعر يحاكي الملموس أو يكرر القول بإعادة ترتيبه أو يكتفي بحصر إيقاعاته لتصير موسيقى بدون تخيل ممكنات أخرى تكشف عن الخفي حتى في الظلم والعشق والحياة والموت، لينتبه العالم إلى المهمل باسم العقل فيجدد الكائن علاقته بالوجود وحتى بذاته باعتباره موجودًا لا كائنًا يفنى في اليومي ويستسلم لفتوحات العلم وإغراءاته التي تحولت هي الأخرى بغموض محتواها إلى ما يشبه عوالم الشعراء في قولهم حول اللا منتهي واللا محدد في التجربة البشرية وهي تصنع رهانها الوجودي في اللغة وبها.
6 – من الوصف إلى الكشف:
فحداثة الشعر، ثورة على الوصف الذي يحاول على حد تعبير أرسطو، محاكاة موجود ما في قيمه أو حتى مظاهره، فمهما صدق التوصيف وتكثفت الاستعارات، فهي تبحث عن شيء توافقه أو حتى تفارقه، لتكون غيره المناقض له، أما حداثة الشعر فهي خلق يتجاوز حتى الكشف، إلا إن كان استكشافًا لحدود عالم، تجاوزه خوض في مجهول لإعادة صياغته أو حتى خلقه، إنه إبداع قد يمضي إلى ما يتجاوز العقل، ليخوض مغامرة تتماهى اللغة مع وجود سرعان ما ينفلت منها لتلاحق الغامض فيه بغموضها، من هنا يكون الشاعر بمثابة وسيط بين عالمين، حيث يعيد تركيب الخفي ليظهره على غير هيئته، ولذلك قيل إن اللغة وجود، فلا وجود خارجها أو بعدها ولا حتى قبلها، لكنها لغة الشعر، تلك المختلفة في انفلاتها وحضورها وغموضها وانقشاع نارها التي تحدث اضطرابًا في الأبصار المحدقة فيها مطولاً أو غير المعتاد على قبسها النوراني المنبعث من عمق ذات ليست ككل الذوات برؤاها وعمق ما تجنح إليها غبطة ومعرفة، لكنها الذات التي حاول الشعراء الانطلاق منها كما فعل ديكارت ليدرك الوجود من خلال الموجود، أي وجود الإنسان حتى يتمثل غيره والممتد خارجه، رغم أنه أكد أن الإنسان يستطيع أن يشك في وجود الشمس والأرض إلا في كونه يفكر، فهذه حقيقة أو صفة لروح لا يمكن إدراكها إلا بصفة جوهرية فيها وملازمة لها وهي التفكير أو الفكر، وبذلك جعل الميتافيزيقا جذور الفلسفة العميقة والضاربة في عمقها وهي بمثابة ذات وحقيقة تم تحريرها من نظام المثل الأفلاطوني كأساس للمعرفة وإن كانت الذات موجودة في فكر أفلاطون، لكن معرفتها مشروطة بتخلصها من الحسي الذي لم يلغه ديكارت، لكنه اعتبره خادعًا، وهنا بقيت الأنساق الفلسفية العقلية حذرة من الشعر والتخيل لأنها تعتبر جذوره حسية ولا يمكنها أن تثق فيه ليتعرف على حقيقة الوجود، التي لطالما اختزلت في كلي متعالي أو مخلوق له سابق فاض عليه وانتظم في مقولات الوجود بالقوة والوجود بالفعل، على حد تعبير الفلاسفة المسلمين، لكن هذا الوجود رغم ما يعتريه من غموض، يتمثل في ضرورة كليته، كحكم، وكيف يكون صادقًا إن كانت الإحاطة به غير تامة وإن تم تصوره ذهنيًا قيل إنه تخيل، والتخيل إيهام بصورة لا ضمانة لمطابقتها للحقيقة، فالوجود كما حدده الشيرازي مستغني عن كل حد، وهو ملتقى الأحكام كما نبه إلى ذلك كانط، وبذلك يستعصي الوصف لللا محدود فهل يتم اكتشافه بدون وصف أم يختزل في الموجود البشري، كما قيل في تصوف ابن عربي، تحسب نفسك جرمًا صغيرًا وفيك اختفى العالم الأعظم، إنها معادلة تختل فيها ترابطات المعاني وتتضارب المفاهيم، بما يدفع الشعر لاختلاق عالمه بدون أن يدافع عن صدقه أو يتمسك بحقيقته، فهو يحاول لم شتات المعاني بلغته وصوره ليمتع بها ويعرف سبل الاهتداء إليها بما لم يعتده الناس ولا حتى الفلاسفة وبعض المتصوفة، فهل يقدر الشعر الحديث بهذه الحداثة أن ينجز هذه المهمة ويتمها إن كانت قد بدأت في مرحلة ما من مراحل تطوره؟؟؟
7 – الفلسفة والشعر:
لقد ارتبط الشعر بالفلسفة ما قبل سقراط، فقول هرقليطس (إنك لا تستطيع أن تستحم في النهر مرتين)، وقول بارمنيدس (الآلهة بالأسطورة، لا تفصح ولا تخفي، بل تلمح)، هي أقوال شعرية وليست فيها حدود منطقية صارمة، ولا يبرز فيها المجرد من خلال مفاهيم، وبذلك فهي تمتح من ملكة تفاعلت مع العالم باعتباره كلا، على غير الكل المجرد ميتافيزيقيا، بل حتى الآلهة، أي الأسطورة التي استمدت منها، تقدم تلميحات تحتاج لفكر يقظ بعاطفته وليس بعقله المنطقي تجريدا أو حتى تجريبًا عازلاً للمشاهد ومجربًا عليه، فالمعرفة التي أرادت الفلسفة تحقيقها بمفاهيم تسمو على الملموس، دشنت بعد سقراط ومن خلاله كما ورد على لسان أفلاطون، نفي وطرد من يحاكون صور الحقيقة ويدفعون للانفعال باللغة والتخيلات فيغفلون عن عالم العقل باستحضار انفعالات أجسادهم والاستمتاع بالمسموع تهيئات وإيقاعات، وهو ما لم يكن يحدث مع فلاسفة الطبيعة، هرقليطس وديمقريطس وبارمنيدس وحتى أنكساغوراس، فقد كتب بالشعر وتفلسفوا به وقبلهم الأساطير وهي تلامس عوالمها وتلمح للوجود بما يعتبر رموزًا لا خرافات كما أوهمت بذلك الفلسفة وهي تلغي طريقة ما للتفكير، لتشيد نسقها الخاص وكأنها أول ما فكر ولم يبدأ الفكر إلا معها، وهنا يكمن سر عودة الفلسفة المعاصرة للشعر، ربما لتنصفه وتنصت إليه كاشفة عن عوالمه التي كاد يطالها النسيان، فهايدجر، أدرك أن مسارات الفكر ليست لها بداية حصرية، بل إن بداياته أقدم مما رسخته الفلسفة اليونانية سواء في تاريخها أو تاريخ حضارات أخرى، ولذلك كانت الرومانسية الألمانية، سباقة لاعتبار الفن والشعر ليس وليد خطاطات منطقية وعمل متسق خال من كل أشكال الانفعالات والتفاعلات مع عواطف المبدع، في حزنه وبهجته وتعبيره على ذلك بما يشد الناس لماضيهم الشخصي أو المشترك، واعتبار الطبيعة ببعديها البشري والمجالي ناضحة بالدلالات وليست مجرد ممكنات مادية ينبغي السيطرة عليها وتملكها علمًا وحتى فنًا، ولذلك اعتبروا الخيال مصدر إبداع وليس محاكاة للطبيعي كما هو والواقعي ليصيرًا مرجعًا للعملية الإبداعية، فوجد الشاعر نفسه في سياق حداثة الشعر، مرغمًا على تنويع وسائل تعبيره عن الوجود، ليس من أجل إدراكه، بل تحريره من أنساق مسبقة أو وقائع ناجزة ومكتملة، بدون ادعاء لتملكه حقائق نهائية وتامة، بل فقط رسم اتجاهات متعددة تكسر الأحادية حتى في صيغتها الحديثة والمعاصرة، رغم أن العلوم نفسها، اضطرت للقبول بالاحتمالية كقاعدة علمية مستبعدة منطق الحتمية في الفزياء النيوتنية، فمع الكوانتا أي علوم الكم، صارت جزيئات المادة متحررة في حركتها من كل احتمال مسبق لدرجة أنها تماهت مع حركة الضوء بدون أن تتخذ شكلاً محددًا، فغدت عوالمها تقتضي التخيلات بديلاً للفرضيات، بل تأكدت الحاجة لتجارب افتراضية متخيلة وبناء عليها يتم اللجوء للمقارنات بدون أية قدرة على القياسات التجريبية والتخمينية.
8 – نحو آفاق شعرية عربية:
عاش العرب في بداية تاريخية ما قبل الإسلام، تجارب شعرية لم تدون كاملة، وانتاب دارسيها شك في نسبتها لتلك المرحلة، بناء على كون العربية كمنطوق، كانت آخر اللغات الشرقية تشكلاً وحتى كتابة، وبذلك تأثرت بالأكادية والفارسية وتفاعلت مع العبرية القديمة، ووجدت كلمات حتى في النص المقدس، وهذا لا يعيب اللغة، فهي بدورها امتدت بعض ألفاظها للغات أخرى حتى التي لها ارتباط باللاتينية، ولأن تاريخها الشفاهي له تأثير على الذهنية ورهانات الثقافة الشفاهية، فقد ارتبطت بلاغتها بالخطابة، وصارت شاعرية الشاعر تقاس بقدرته على الارتجال والحفظ، مما سمح للإيقاعات الصوتية أن تحتل مكانة عالية، فالعربي يتأثر بالمسموع أكثر من المقروء، وربما لم يستنفد هذه المتعة في مسار ثقافته، بحكم أن الكتابة تم الانتقال إليها ليس بفعل آلية حضارية طبيعية، بل بفعل دوافع أخرى خارجية دينية، فرضها منطق حفظ النص المقدس وتحقيق الإجماع حوله كمصحف، ومن هنا نفهم، لماذا كانت هناك حركات رافضة لتدوين النص القرآني كما ورد في صراعات العارفين لتاريخ الجزيرة وطبيعة بناها الذهنية والثقافية، وإن كان هذا الرفض، عاشته حضارات أخرى قديمة، وحقيقة الأمر، أن الإيقاعات الصوتية لها تأثير على ثقافة الشفاهي ولها فاعليتها التوجيهية في المجتمعات القبلية التي امتدت إلى ما بعد عصر التدوين، وما تزال الثقافة العربية التاريخية، تنبهر بالمرتجل وإن لم يكن شاعرًا، وتنفر مما يضعون أمامهم أوراقًا لقراءة أفكارهم أو أشعارهم أو حتى قصصهم وما يمكن قراءته في حضرة الجمهور وحتى الكثير من المثقفين، غير أن الشعر العربي في حداثته، يشترط شعرية الكتابة وتأملية الشاعر كما رآها فلاسفة نقد الميتافيزيقا مثل هايدجر، الذي اعتبر الشعر كوة منها ينبعث نور الوجود فيتلمس به الشاعر انكشاف الحقيقة، التي هي حقيقة الوجود عندما يتجلى للمنفتح شاعرًا كان أو فيلسوف، لأن اللغة تعبير عن هذا الوجود الذي يقيم فيه الشاعر وينشده ليس بمادة الشعر التي هي الصوت، بل المعاني وهي تتعدد لتقاوم المعتاد في اللغة الذي يحيل على الأشياء معتبرًا إياها أجزاء من الوجود في كليتها تصير ممثلة له، لكن الشاعر لا يعبر عنها قصدًا، لأنه ليس سيدًا للغته، بل هي التي تقول به بعد أن أنصت إليها في صمت، لذلك قال هولدرين (الشعر أكثر الأعمال نصيبًا من البراءة)، وبذلك يكون القول الشعري، قول للمسكوت عنه في تجليه، إذ يلقي الشاعر بقوله ولا يرفقه بفهمه أو أبعاد ما يقول، بل ينتظر وقع الصدى باحثًا عما خلف فيه هو نفسه من أثر فاندفع خلفه باحثًا عما لم يقله شعره أو احتجب عنه خلف الكلمات أو حتى بالكلمات نفسها، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الفلسفة التي حاولت قديمًا إقصاء الشعر في مرحلتها اليونانية بعد سقراط، عادت في المرحلة المعاصرة لتجاوره وتكشف منصفة له، عن مجاورته لها ضرورة كما كانت معه قبل سقراط وهما يسيران معًا لسبر عمق الوجود بما هو موجود، فإن تحققت هذه الغاية بالفعل الفلسفي أوروبيا، فهل بالإمكان فرض ذلك عربيا؟؟
فبأي وسائل يتم تحقيق ذلك وإن كانت إرهاصاته بدأت مبكرًا من خلال التصوف؟
هل بالعودة للغة التصوف أم فلسفة الشعر وشعرنة التأمل الفلسفي كما تجري حاليًا محاولات الاستعانة بالصور الأسطورية ولغتها التي عبرت عن الوجود قديما بلغتها وعوالمها التي لمحت بها لما فاض عن الحسي من معاني وتمثلات؟
قد يتحقق ذلك، لكن ليس قبل تجديد بلاغة اللغة وإخراجها من منطق المثال التكراري وآليات البديع ومحسناته والزج بها في مغامرات الكشف عن الخفي ومداعبة الغموض ليتجلى كما هو بعد اختفائه في أتون الأغراض القديمة، التي بدأت من نصرة القبيلة إلى التباهي والتفاخر، لتستقر مع الدفاع عن الإيديولوجيات لفضح واقع الغبن والقهر وبيانات الإدانة وإن كانت هذه الغايات محببة أو لها زمنها وتاريخها الخاص، وقد مرت منها حضارات وشعوب في قولها الأدبي الشعري قبل أن تنتقل لسواها بفعل نهاية شروطها، وبعد أن حققت تلك الشعوب والحضارات رفاهيتها أو أبدعت أقوالاً أخرى تدافع عن الحق والعدالة، كالسياسة ومقالاتها وبحوثها المنبهة وحتى الفاضحة لكل حيف، فعاد شعراؤها لقضايا أخرى، فنية خالصة أو إنسانية.
عدد التحميلات: 0