أنت وذاتك: الهُوِيَّةُ المفقودةالباب: مقالات الكتاب
أ. د. عبد الرحمن بن سليمان النملة عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية |
تخيل أنك قابلت شخصًا يماثلك تمامًا، ليس في الشكل فقط، ولكن أيضًا، في التصرفات، والصفات النفسية، من حيث سماته الشخصية، وخصائصه العقلية والانفعالية العاطفية. وجدت فيه ذاتك، وخاطبته قائلاً، دائمًا ما أوقع الملامة على نفسي، وأبحث جاهدًا عن أعذار لإساءات الآخرين، أهكذا ينظر إليّ الآخرون؟ يستمر الحوار وتتصل المحادثة، وتتشعب إلى شؤون وشجون، وموضوعات شتى، ثم تنظر حولك، فتكتشف أن هذا الشخص، هو أنت. كنت تتحدث إلى ذاتك.
الذات هي أقرب ما يكون للإنسان، وعندما يفكر الشخص فإنه يتحدث إلى ذاته، والذات مستمع جيد ومتفهم، وما يدور بين الفرد وذاته، هو حوار داخلي خاص وشخصي، كلاهما يفهم الآخر مباشرة. والهواجس والتفكير ليسا إلا حوارًا داخليًا، بلغة خاصة، صامتة، أو همسًا، تشبه اللغة المنطوقة في جوانب، وتختلف عنها في جوانب، واختلافها يكون في صياغتها (قالبها)، فهي مختصرة، وسريعة جدًا. سيل من الأحاديث، والمشاعر والهواجس، تتم بلحظة، أو أجزاء من اللحظة، لكنها واضحة، ومفهومة لكلا الطرفين؛ الفرد وذاته. حميمية العلاقة بين الفرد وذاته، لا تضاهيها أي علاقة حميمية أخرى، فهما لصيقان ببعضهما، وحوارهما مستمر، متواصل، لا ينتهي، يتوقف فقط أثناء النوم، ليتحول إلى أحلام.
ويستخدم مصطلح "الذات" ومصطلح "النفس" على نحو متبادل، ولا مشاحة في ذلك، إلا أن الرصد العلمي المنهجي، يتعامل معهما على أنهما مفهومان مختلفان. فالنفس هي النشاط والمحرك لأوجه السلوك الإنساني، المعرفية، كالتعلم والتدريب، واكتساب الخبرات، والعقلية، كالإدراك، والتفكير والتذكر، والانفعالية من مشاعر وأحاسيس. أما الذات، فهي فكرة الإنسان عن نفسه، والتي تكونت من خلال تجاربه، ومعايشته للمواقف والظواهر التي شكلت ادراكه، ومشاعره، وأفكاره. ونظرة الإنسان إلى نفسه وفكرته عنها، تتميز بأنها متفردة، وثابتة، ولكنها قد تتغير، فالفرد قد يرى نفسه بصورة ايجابية أحيانًا، وقد يراها بصورة سلبية في أحيان أخرى، ذلك بحسب العوامل الاجتماعية والثقافية، والنمو من مرحلة عمرية إلى أخرى، وكذلك نظرة الآخرين له. وعلى ذلك، فإن الذات تمثل الهُوية، لأن الهوية تعبر عن مفهوم الشخص وتعبيره عن فرديته، وعلاقته مع الآخرين، كالهوية الدينية، أو الثقافية، أو العرقية، أو النوع (ذكر أو أنثى)، أو غيرها.
وعلى عمق ورسوخ العلاقة بين الإنسان وذاته، إلا أنهما قد ينفصلان! فيحدث ما يسمى باضطراب الهوية الانشقاقي أو التفارُقي. واضطراب الهوية الانشقاقي (Dissociative identity disorder)، كان يسمى باضطراب الشخصية المتعددة (تعدد الشخصيات)، بحيث تعمل اثنتان أو أكثر من الشخصيات (الهويَّات) بالتناوب، للهيمنة على تفكير الإنسان وذكرياته، ومشاعره وانفعالاته، وتمتد للسيطرة على أفعاله. ويصنف اضطراب الهوية الانشقاقي من ضمن الأمراض العقلية (الذهانية)، ويعتبر واحدًا من عدة اضطرابات فصامية. وحسب الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5) الصادر من الجمعية الأمريكية للطب النفسي، فإن العنصر الأساس في هذا التشخيص هو وجود شخصيتين، أو هويتين، على الأقل، متمايزتين ومنفصلتين داخل شخص واحد، إلا أن هناك شخصية واحدة فقط تظهر في كل مرة. ولكل شخصية ذكرياتها ومشاعرها، وأفعالها، وتفضيلاتها في الحياة. والإنسان غير مدرك لوجود أكثر من شخصية داخله، بل تسيطر عليه احدى الشخصيات، ويتصرف وفقًا لخصائصها. ونتيجةً لذلك، لا يمكن للشخص أن يسترجع المعلومات التي يتذكرها عادة بسهولة، مثل الأحداث والمواقف اليومية، أو الذكريات الشخصية، أو الأحداث المؤلمة. انه انفصال عن الهوية، وعن الواقع، واغتراب عن الذات، وعدم إدراك للزمن، وفقدان للتواصل بين الأفكار والذكريات، والأحوال المحيطة والأفعال. ثقوب وثغرات في الذاكرة تحول دون استرجاع وتذكر حتى الأحداث الشخصية الخاصة من فترات عمرية ماضية في حياة الشخص، كالطفولة مثلاً. بمعنى اضطراب وتشوش في ذاكرة السيرة الذاتية (Autobiographical Memory)، التي تحمل في طياتها قصة حياة الإنسان.
وهناك صورتان لاضطراب الهوية الانشقاقي، تتفاوتان في درجة العمق والشدة؛ الأولى، يكون فيها هذا الاضطراب غير مسيطر، أو مستحوذ على الشخص بصورة كاملة، مما يجعل الاضطراب غير واضح للآخرين، ومن أعراضها، أن يشعر الفرد بتغير مفاجئ في شعوره الذاتي، وقد يحس بأنه يراقب كلامه، وعواطفه، وأفعاله. والصورة الثانية تظهر عندما تحدث مشاعر الانفصال عن الذات أو الأشيَاء المُحيطَة بها بشكل دوري أو مستمر، بحيث يشعر الشخص بالانفصال عن جسمه، أو عن عملياته العقلية، ويبدو كمراقب خارجي لحياته، وهي تمثل نمط اضطراب الهوية الانشقاقي عندما يكون مستحوذًا ومسيطرًا على الشخص.
ويؤثر اضطراب الهوية الانشقاقي على (1.5%) من البشر حول العالم، وحسب التاريخ النفسي المرضي للمصابين باضطراب الهوية الانشقاقي، فإن أعراضه تبدأ في مرحلة الطفولة من (5-10) سنوات، متمثلة في تغيرات ملحوظة في سلوك الطفل، مثل كثرة النسيان، ورؤية الكوابيس الليلية، والإصرار على مناداته باسم غير اسمه، واظهار العدوان على النفس، والآخرين من حوله، وتحطيم الأشياء، كذلك الشكوى من أعراض جسمية، مثل طنين أو ألم في الأذن، دون وجود مسببات عضوية. وإذا تم التدخل المبكر والعلاج، فإن هذه الأعراض تختفي، أما إذا لم يتم، فإنها قد تمر بفترة كمون لسنوات، لا يُلاحظ على الشخص فيها أية أعراض، ولكنها تعاود الظهور بشكل واضح، في سنوات العمر اللاحقة، والغالب في العقد الثالث من العمر، وحسب الأبحاث في هذا المجال، تعتبر النساء أكثر عرضة لاضطراب الهوية الانشقاقي من الرجال. وما ذُكر من أعراض أعلاه، تعتبر هي الشائعة، ولكن قد تتطور في مراحل العمر اللاحقة، إلى أعراض متطرفة وخطيرة، مثل الميول الانتحارية، وإيذاء الذات، والاضطرابات الجنسية.
وتجمع الدراسات والبحوث، والملاحظات الاكلينيكية، على أن أسباب اضطراب الهوية الانشقاقي، تعود لمرحلة الطفولة. فالصدمات التي يتعرض لها بعض الأطفال، تحول دون دمج خبراتهم وتجاربهم التي يتعلمونها، في هوية واحدة متماسكة. فقد يتعرض بعض الأطفال لسوء المعاملة والاستغلال، خصوصًا، الاستغلال الجنسي (Sexual abuse)، مما يشكل صدمة قوية، يعمل العقل على انكارها بالهروب من الواقع، وتمثُل (تقمص) شخصية وهوية أخرى.
إن التعايش مع اضطراب الهوية الانشقاقي يمثل معاناة كبيرة وعميقة، تتجلى فيها صور الشعور بالإحباط، والخوف، والعزلة، ومما يزيد المشقة، أن الكثير من المصابين بهذا الاضطراب قد لا يتم تشخيصهم لسنوات، مما يطيل المعاناة ويجعلها أشد وطأةً. وحسب طبيعة هذا المرض، في بعض الحالات، لا يوجد تعاون أو تواصل بين الشخصيات التي تتلبس المريض، لذا قد يجد نفسه وقد استيقظ من النوم في مكان غير مألوف بالنسبة له، ولا يعرف عنه شيئًا، ولا يتذكر كيف انتهى به المطاف فيه. ومن جانب آخر، وفي الحالات الأقل حدةً من اضطراب الهوية الانشقاقي، يستطيع الفرد المصاب بهذا الاضطراب، التعايش معه، وأداء مهامه اليومية، مع محاولته جاهدًا إخفاء ما قد يظهر من تغير في سلوكه.
ويمكن علاج اضطراب الهوية الانشقاقي من خلال آليات علاجية مختلفة، أهمها العلاج النفسي، بالتركيز على العلاج السلوكي- المعرفي 1(CBT)، وكذلك العلاج بالتحليل النفسي، أيضًا يتم العلاج بالأدوية، ذلك وفقًا لظروف كل حالة، وتاريخها المرضي. ويعمل المعالجون عادةً على محاولة دمج الشخصيات في شخصية واحدة، أو على الأقل إيجاد تناغم وتعاون بين الشخصيات، ليكون أداء المريض طبيعيًا قدر المستطاع. ومن أهم الإجراءات وفنيات العلاج النفسي المستخدمة للوصول إلى ذلك، أن تكون العلاقة العلاجية بين الشخص المصاب باضطراب الهوية الانشقاقي وبين المعالج، جيدة وتتسم بالثقة والتعاون. وأن يتم محاولة توفير الظروف الملائمة لاستقرار المشاعر الهائجة لدى المربض، وحمايته من إيذاء ذاته. كذلك الغوص عميقًا في الذكريات الصادمة والمؤلمة، وتشجيع ودعم المريض لمواجهتها بصورة مقننة، بهدف ازالتها تدريجيًا، أو تحييد تأثيرها بالعمل على تغيير وجهة نظر المريض حولها. يتوازى مع ذلك، التعاون بين المريض والمعالج، لتوفير أرضية مناسبة لعلاقات تفاوضية بين الهويَّات المختلفة، بهدف دمجها في ذات موحدة. وفي الوقت الذي ينتقل فيه إحساس المريض من امتلاك هويات متعددة، إلى ذاته الموحدة، ويحدث الاندماج النهائي، عندها يبدأ، بإذن الله التماثل للشفاء.
الهوامش:
- العلاج السلوكي المعرفي (Cognitive behavioural therapy) هو علاج بالكلام والحوار، والاقناع يمكن أن يساعد الفرد في إدارة مشاكله عن طريق تغيير طريقة تفكيره وتصرفاته.
أهم المراجع:
- النملة، عبدالرحمن بن سليمان (2020م). العمر والنوع والمستوى التعليمي، وعلاقتهم بذاكرة السيرة الذاتية لدى مجموعة من الأفراد السعوديين. مجلة التربية، العدد (187)، الجزء الخامس. جامعة الأزهر، جمهورية مصر العربية.
- Al-Namlah, Abdulrahman S.; Meins, Elizabeth; Fernyhough, Charles (2012). Self-Regulatory Private Speech Relates to Children's Recall and Organization of Autobiographical Memories. Early Childhood Research Quarterly, Vol. 27 n3 p 441- 446.
- American Psychiatric Association (2013). The Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders, Fifth Edition (DSM-5).
- Cintron, G., Salloum, A., Blaire-Andrews, Z., & Storch, E. A. (2017). Parents' description of young children's dissociative reactions after trauma [Abstract]. Journal of Trauma & Dissociation. Retrieved 26 April 2023 from:
https://www.tandfonline.com/doi/abs/10.1080/15299732.2017.1387886?af=R&journalCode=wjtd20
- Cleveland Clinic (2012). Dissociative Identity Disorder (multiple personality disorder). Myclevelandclinic.org. Retrieved 25 April 2023 from:
- International Society for the Study of Trauma and Dissociation (2011). Guidelines for treating dissociative identity disorder in adults, third revision: summary version. Journal of Trauma & Dissociation, 12, 188 - 212.
- Muller, R. T. (2013). Understanding Dissociative Identity Disorder in Children. Retrieved 25 April 2023 from:
- NHS (2022). Overview - Cognitive behavioural therapy (CBT). Retrieved 25 April 2023 from: https://www.nhs.uk/mental-health/talking-therapies-medicine-treatments/talking-therapies-and-counselling/cognitive-behavioural-therapy-cbt/overview/
- Spiegel, D., Loewenstein, R.J., Lewis-Fernandez, R., Sar, V., Simeon, D., Vermetten, E., et al (2011). Dissociative Disorders in DSM-5. Depression and Anxiety, 28, 824-852. DOI 10.1002/da.20874
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- الأمن الفكري: مستويات التفكير واتجاهات التطبيق
- الدِيـن والتَـدَيُّن: نظـرة سيـكولوجيـة
- الإفصاح عن الذات
- التوكيدية Assertiveness
- ثقافة المجتمع والسلوك الإبداعي
- ذاكرة السيرة الذاتية الشخصية Autobiographical Memory
- تقدير الذات Self-Esteem
- الأبعاد الاجتماعية والنفسية للمعاملة الحسنة
- الاغتراب .. أزمة الإنسان المعاصر
- وجهة الضبط Locus Of Control
- الاندفاع والتروي Impulsive and Reflective
- نوستالجيا Nostalgia
- الاستثارات النفسية الفائقة Psycho-overexcitability
- الكفاءة الاجتماعية: قراءة للمستقبل Social competence: Reading of the future
- التفكير السلبي: غموض الرؤية Negative Thinking: Unclear Vision
- الحياء... لباس التقوى
- الذكاء الثقافي: التعايش مع الآخر
- الإيجابية الاجتماعية والإيثار Prosocial Behavior & Altruism
- المناعة النفسية: خط الوقاية الخفي
- أنت وذاتك: الهُوِيَّةُ المفقودة
- سيكولوجية العقل: نشوء البنية الفكرية
- سيكولوجية العقل: (2) معالجة المعلومات
اكتب تعليقك