العدد الحاليالعدد رقم 43ثقافات

المثقّف، الثّورة والكتلة التاريخية المهدورة

1) المثقّف: جدلية السلطة والمجتمع

يقسّم علماء الاجتماع الواقع المعيش إلى حقول أو ساحات متعدّدة وهي السّاحة الدّينيّة والسّاحة السّياسيّة والسّاحة الاقتصاديّة والسّاحة الثّقافيّة وهذا التّقسيم هو إجرائي لأنّ هذه السّاحات التي تشكّل كليّة الفضاء الاجتماعي والتّاريخي منفتحة على بعضها البعض وهي في علاقة وصل وفصل. واهتمامنا سينصب على السّاحة الثّقافية بما هي نتاج العقل من أفكار وتصوّرات ولما يبدعه الخيال من نشاطات فنيّة كالشّعر والأدب والمسرح والسّينما…

كثيرًا ما شهدت السّاحة الثّقافيّة تنافسًا شديدًا بين أنماط من المثقّفين من مشارب فكريّة مختلفة وذلك بغرض السّيطرة على هذه السّاحة والهيمنة على الأملاك الرّمزيّة للمجتمع وإدارتها.

يعرف قاموس علم الاجتماع صدر سنة 1969 المفكّرين والانتلجنسيا بأنّهم “أعضاء المجتمع الذين ينذرون أنفسهم لتطويره أفكار أصيلة وينهمكون في مساع فكريّة وخلاّقة”(1).

فالانتلجنسيا هذه العبارة ذات الأصل البولندي تعني الفئات المثقّفة الأكثر قدرة على التّأثير في المجتمع وتتميّز هذه الفئات بصفات متعدّدة لا يجمعها تعريف واحد من أهمّها: التّعليم الرّفيع المستوى والتّعامل بعمق مع الأفكار المجرّدة وتوليدها والتّوليف بينها والحياد الاجتماعي والإبداع…

إلاّ أنّ التّعريف الذي ذكره القاموس يبدو أنّه ضيق مجال الفعل أمام الانتلجنسيا إذ غفل عن جوانب هامّة تميّز هذه الفئة مثل اتّخاذ مواقف انتقاديّة تجاه الأفكار.

أمّا أرنست جلنر فيعتبر الانتلجنسيا طبقة منفصلة عن معتقدات وقيم مجتمعها بفضل تعليمها الممتاز(2) ويضيف الأستاذ جلنر إلى الجانب الفكري الذي ورد في التّعريف السّابق، صفة الوقوف بعيدًا عن معتقدات المجتمع وقيمه فهي انتلجنسيا محايدة لا منتمية. لقد أثارت أفكار جلنر جدلاً واسعًا ولاسيّما اعتباره المثقّفين طبقة وفكرة حياديّتها وعدم انتمائها وسنعود لمناقشة ذلك وإيراد الرّدود على ذلك لاحقًا.

إنّ استقراءنا للتّاريخ العربي الإسلامي القريب منه والبعيد يكشف عن وجود فئة من المثقّفين هيمنت بحضورها على السّاحة الثّقافيّة وهي ممّن يطلق عليهم وعّاظ السّلاطين، تسخر معرفتها وإمكانيّاتها العلميّة لخدمة السّلطة المسيطرة وتقديم المشورة لها وتأطّير إيديولوجيّتها أو سياستها وترسخ مفاهيمها وتشرف على تنفيذ خططها وتحاول إضفاء الشّرعيّة على نظامها وتسعى هذه الفئة بكلّ جهودها وبشتّى الطّرق إلى المحافظة على النّظام القائم مهما كان نوعه لأنّ مكانتها الاجتماعيّة ومكاسبها الاقتصاديّة وامتيازاتها مرتبطة بالنّظام السّياسي المنخرطة فيه(3).

أمّا عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو فيؤكد على صفتي الإبداع والحياد اللّتين ينبغي أن يتحلّى بهما المثقّف، فهو ينظر إلى المفكّر الذي ينتمي إلى الانتلجنسيا على أنّه مفكّر مستقلّ وغير متحيّز لأيّ مطالب غير تلك المطالب الجوهريّة لمشروعه الإبداعي(4).

إنّ إعتبار الانتلجنسيا طبقة منفصلة يجعل هذا المفهوم عسير التّطبيق على واقع الانتلجنسيا العربيّة لأنّ هذه الطّبقة في معناها السّوسيولوجي يستحيل ايجادها في الوطن العربي ولا تكون حتّى مجرّد فئة واحدة مثقّفة ومنسجمة لأسباب متعدّدة لعلّ من أهمّها تخلّف الواقع العربي على مختلف المستويات وخصوصًا التّربية النّقديّة والانتقاديّة التي كان من الممكن أن تكون عاملاً فكريًّا هامًّا يربط بينها ويوحّد نظرتها.

لقد عالج عالم الاجتماع الألماني كارل مانهايم (1893-1947) موضوع الانتلجنسيا بعمق سوسيولوجي فنفى عن هذه الفئة صفة الطّبقة يقول: “في كلّ مجتمع توجد جماعات اجتماعيّة مهمّتها الخاصّة تقديم تفسير للعالم لذلك المجتمع ونحن ندعو هؤلاء بالانتلجنسيا(5) والانتلجنسيا ليست طبقة بأيّ حال من الأحوال(6) ولا تستطيع تشكيل جماعة ايديولوجيّة في حدّ ذاتها ويجب عليها أن تبقي التّقييم لنفسها ولكلّ الجماعات الأخرى(7) وهي غير مرتبطة اجتماعيًّا ومهمّتها الرّئيسيّة “السّعي المستمرّ للتّقييم والتّشخيص والتّكهّن واكتشاف الاختيارات عند ظهورها وفهم مختلف وجهات النّظر وتحديدها بدلاً من رفضها أو تمثّلها”(8) تحتوي أفكار مانهايم على رؤى مهمّة تتساوق والحالة الثّوريّة التي نعيشها اليوم وسنحاول الاستفادة منها في تحديد ملامح المثقّف الذي تقتضيه مرحلة الارتدادات والارتجاجات التي تعقب الثّورات عمومًا.

إنّ المثقّف في المطلق معارض لكلّ أشكال السّلطات وأصنافها لأنّه يمتلك دوما رؤية مغايرة للسّائد ولما هو مطروح قد تكون رؤيتة طوباويّة ولكنّه يظل دومًا في قطيعة مع الشّيء المعتاد ولا يعني ذلك البتّة تجاهله للحراك الاجتماعي والسّياسي لمجتمعه بل إنّ انخراطه في هذا الحراك يكون بعين النّاقد فهو لا ينشد التّغيير من أجل التّغيير وإنّما هو يبحث عن التّأسيس من خلال رؤيته لما هو أفضل ولذلك فهو يتوجّس خيفة من السّلط جميعها ولاسيّما السّلطة السّياسيّة هذا التّوجّس قد يصبح حالة مرضيّة عندما يصبح رهابًا ففي تعاملهم مع مختلف السّلط القائمة يعمد المثقّفون إلى تجنّب الوقوع في شراكها ويخشون من أن يحسبوا عليها إنّهم بما يمتلكونه من رأسمال رمزي عرضة للإغراء وأيّ إغراء ذاك الذي تضعه السّلطة- بما لها من إمكانيّات ضخمة – بين يدي المثقّف؟ لقد وقع الكثير من المثقّفين في سحر السّلطة وأخطبوطها فكانوا واجهة وظّفتها الأنظمة الاستبداديّة لتلميع صورتها القبيحة ففقدوا بذلك ألقهم ومنزلتهم وتآكل رصيدهم الرّمزي أمام شعوبهم.

2) الحالة الثورية واضمحلال المثقف العضوي 

إن كلّ إنسان مثقّف في نظر “جرامشي” (1891-1937) يملك رؤية للعالم وفلسفة خاصّة به وبهذا فهو يساهم في الثّقافة السّائدة ولذلك فالمثقّفون حسب جرامشي يمارسون دورًا حيويًّا ومهمًّا في تكوين الإيديولوجيّات وبنائها كما يساهمون في بناء التّماسك الاجتماعي ومن هنا فهم شريحة اجتماعيّة تمثّل كافّة الفئات والطّبقات الموجودة في المجتمع وهم لسان حالها النّاطق باسمها ويمثّلون مصالحها المتّفقة والمتعارضة ويعبّرون عنها ويؤكّد جرامشي على أنّ المثقّفين هم منظّمو الزّعامة الاجتماعيّة يستطيعون أن يتوسّطوا عالم الثّقافة وعالم الإنتاج وأن يقدّموا أفكارًا تتقبّلها جماهير الشّعب بطريقة تلقائيّة على أنّها أفكار مشروعة لأنّها تعبّر عمّا هو أكبر بكثير من مصالح الجماعة المسيطرة. يتدرّج جرامشي(9) في بلورة رؤيته للمثقّف من الاتّساع إلى التّضييق فمن اعتباره أنّ المثقّفين يمثّلون كافّة الفئات والطّبقات إلى تقسيمهم إلى صنفين متمايزين الصّنف الأوّل أطلق عليه اسم المثقّف التّقليدي والصّنف الثّاني المثقّف العضوي ليكيل للثّاني المديح والثّناء في حين يعتبر جماعة الصّنف الأوّل تقليديين لأنّهم تاريخيًّا ينتسبون إلى حقبة تسبق ولادة الطّبقة في معناها الماركسي على عكس المثقّف العضوي فهو مرتبط ارتباطًا وثيقًا بنمط إنتاج فالمثقّف العضوي هو المثقّف المرتبط بطبقة معيّنة حيث يقوم بتنظيم وظيفتها الاقتصاديّة وهو أيضًا من حملة وظيفة الهيمنة التي يمارسها في المجتمع المدني يحدّد تحقيق قبول الطّبقات الأخرى لها واجتماعها حولها. وذلك من خلال عمله في مختلف الهيئات الثّقافيّة والإعلاميّة كالمدارس والجامعات وأجهزة النّشر وغيرها وفي هذا كلّه تبرز وظيفة العضويّين باعتبارهم العروة الوثقى بين البنية الفوقيّة والبنية التّحتيّة وإذا كان المثقّفون التّقليديون يقعون بين الطبقات ويعملون على ربط الماضي بالحاضر كعمليّة مستمرّة فإنّ مثقّفي النّموذج العضوي يقدّمون أفكارًا تضع حدًّا فاصلاً بين الماضي والحاضر(10).

لقد شاع مفهوم المثقّف العضوي في فضاء الثّقافة العربيّة حتّى صار “أقنوما” مقدّسًا على حدّ عبارة خالد الحروب(11) على امتداد عقود من الزّمن منذ الخمسينيّات والستينيّات وجزءًا غير يسير من سبعينيّات القرن الماضي وارتبط بقضايا التّحرّر من الاستعمار والثّورة على الطّبقات المحتكرة للسّلطة والثّروة. ترقى مفهوم المثقّف العضوي أو المثقّف الملتزم ليدحض أي مفهوم آخر أو فهم آخر لدور المثقّف ومكانته وتناسلت من مفهوم المثقف الملتزم مفاهيم أخرى مثل الأدب الملتزم أو الفنّ الملتزم واحتقر مفهوم الأدب من أجل الأدب أو الفنّ من أجل الفنّ في خضمّ تلك الفوضى المفاهيميّة وعلوّ نبرة الخطابات الثّوريّة(12).

لقد كان لمفهوم “المثقّف العضوي” آثاره التّدميريّة على الذّات الفرديّة والجماعيّة، لقد استنزف جهودًا كبيرة لنخب انصبّ اهتمامها في الدّفاع عن طبقة اجتماعيّة بعينها وارتبط عضويًّا بها و”تعامى” عن بقيّة مكوّنات المجتمع تلك الرؤية الأحاديّة والتي خيل إليها أنّها تمتلك آليّات التّحليل الكلياني للمجتمع في صيرورته التّاريخيّة إنّما كانت تعمل على تهميش قطاعات من المجتمع وتقصيها بل تكرّس عطالتها بدعوى انتمائها إلى ما قبل تشكّل الطّبقة أو أنّها تنتمي إلى كتلة تاريخيّة تجاوزها الزّمن، لقد هيمنت اليوطوبيا على الواقع وأكمل العمى الايديولوجي وطأته على كافّة مناحي المجتمع لقد انهمك المثقّف العضوي في دفاعه الشّرس عن الجماعة التي قد تكون الشّعب أو الطبقة أو الحزب ضدّ كلّ الآخرين وتقمّص دور شاعر القبيلة أو دور الدّاعية المروج لإيديولوجيا بعينها يرى فيها الحلّ السّحريّ لكلّ معضلات العالم والوجود وقد يكون هذا الدّاعية قوميّا أو ماركسيًّا أو ليبراليًّا أو إسلاميًّا ويرى خالد حروب أنّ سبب تحوّل المثقّف العضويّ إلى شاعر قبيلته يبرّر سيّئاتها ولا يقبل المساس بها هو ضمور النّقد عنده ويعلن تبعًا لذلك موت المثقّف العضويّ وذلك بسبب توقّف نبض النّقد في جسده وشرايينه فأيّ فكر يختفي فيه النّقد يتحوّل إلى جثّة متحلّلة لا روح فيها(13).

3) الحالة الثّورية والكتلة التاريخية المهدورة

اختلف المراقبون حول ما حصل في تونس هل هو ثورة أم انتفاضة، إلاّ أنّ الثّابت أنّ ما حدث مثّل زلزالاً أطاح بالنّظام السّياسيّ لكنّ ارتداداته وتموّجاته ما زالت مستمرّة لقد كان للثّورة أبعادها الاقتصاديّة والحضاريّة والثّقافيّة فقد زاوجت الثّورة من خلال الشّعارات التي رفعت الحريّة التّشغيل الكرامة الوطنيّة العدالة الاجتماعية… بين ماهي مطالب ماديّة وماهي مطالب ثقافيّة عكست ما بلغه الشّعب التّونسي من نضج حضاري ووعي سياسي إنّ الثّورة التّونسيّة بعفويّتها حيث كانت خالية من كلّ إيدولوجيا ومن كلّ حزب سياسيّ ومن كلّ الشخصيّات الكارزماتيّة التي تقود تحرّكاتها. إلا أنه بعد عشر سنوات من الثورة، انكشف فشل الوهج الثوري في جعل النخب التونسية تلتقي حول مجموعة من المهام التي من شأنها أن تعطي للثورة سمتها، من ذلك بناء كتلة تاريخية تقوم على أنقاض كتلة أخرى صنيعة الاستبداد وتعمل على تفكيكها وإخراجها من الفعل التاريخي، هذا في مستوى إحداث القطيعة مع كل ما يمت بصلة لتلك الحقبة المظلمة، أما التأسيس فكان يعني بناء مسار ثوري يضع معالم لانتقال ديمقراطي سريع وناجع، تشترك في صياغته كل العائلات السياسية والفكرية المؤمنة بالثورة وبمبادئها. لقد طرح غرامشي مفهوم “الكتلة التاريخية” في سياق ثقافي وإيديولوجي وأخلاقي محدد وذلك بغرض بناء “الهيمنة المضادة” وهذا يقتضي بعيدًا عن التوظيف السياسي للمفهوم وعن التصنيف والاصطفاف الذي يهدف إلى الإقصاء وإلى احتكار المعاني الحافة للمفهوم، تحقيق الهيمنة الثقافية المضادة التي تتطلب بروز مجموعة من المثقفين وقد تخلصوا من أعباء الإيديولوجيا، بوصلتهم حدث الثورة وما يقتضيه من عمل على حمايته والدفاع عن كل ما أنجزه وما هفا إلى تحقيقه. وهذا ما فشلت النخب في الالتقاء حوله مما أضر بالمسار الثوري أيما ضرر. لقد اصطفت النخب وراء الأحزاب السياسية وغلبت مصالحها الإيديولوجية على مصلحة الوطن الجامع، كانت النخب صدى للخلافات السياسية التي مزقت المشهد الحزبي والبرلماني. إن ممارسة الهيمنة المضادة تخفي صراعًا اجتماعيًا ذا خلفية فكرية ينبغي أن يخاض ضد الفاشية والشعبوية اللتان تعملان على نسف المنجز الثوري وتشويهه أو السطو عليه وتحويل وجهته. (انظر، علاء الكلامي، الكتلة التاريخية، ماهيتها، سياقها، …، موقع الآداب، بتاريخ (04 – 04 – 2016). لقد أتاحت الثّورة للنّخب جميعها الدّخول في عمليّة تطهير نفسي لا شعوري من كلّ أدران الاستبداد ومخلّفاته وهي عمليّة صعبة لأنّها تقتضي القطيعة والتّأسيس. إنّ من شأن عمليّة التّطهير هذه أن تساهم في ولادة مثقّف جديد. إنّ المثقّف العضوي النّاقد هو مثقّف عضوي ليس بمعنى الانتماء إلى طبقة والوعي بمقتضيات ذلك الانتماء واستحقاقاته بل هو عضويّ بانتمائه للثّورة وتمثّل قيمها والانحياز إلى مبادئها فذلك هو الاسمنت الذي يشد مختلف مكوّنات المجتمع إلى الثّورة وليس هو الرّابط بين البنية الفوقيّة والبنية التّحتيّة فنحن بحاجة إلى مثقّف عضوي لا ينتمي إلى إيدولوجيا بعينها ولا إلى طبقة مخصوصة وإنّما هو يدافع عن مجموعة من القيم النّبيلة التي جاءت بها الثّورة ومازالت تنتظر من نخبتها المثقّفة العمل على تجسيدها على أرض الواقع. هذه القيم التي التقى حولها الشّعب بمختلف شرائحه ووجدت حولها إجماعًا واسعًا، إلا أن النخب خانت الأمانة التي أودعتها إياها الشرائح الاجتماعية المختلفة.

إنّ الحديث عن أنماط من التّجانس الثّقافي في معناه الفلسفي والانتربولوجي أمر غير عملياني سوسيولوجيا إذ هو يغطّي تواجدًا حقيقيًّا لأنماط مختلفة من الثّقافة قد تتناقض في المضمون والوظيفة في المجتمع الواحد. هذا المفهوم حول اختلاف الأنماط الثّقافيّة في المجتمع الواحد(14) تكرّسه طبيعة الثّورة لأنّها تتيح لأصناف ثقافيّة متعدّدة أن تعبّر عن نفسها بعد أن ظلّت تعاني الإقصاء وتكتوي بنار التّنميط. لقد قدّمت الثّورة آفاقا رحبة من الحريّة تسمح للمثقّفين أن يكسّروا الأغلال، فينطلق الفعل الثّقافي والإبداعي وقد تخلّص من كلّ ما يرتهنه سواء لحنين ماضوي مريض أو لطوباويّة تزيد في عزلتهم عن واقعهم.

إنّ الثّورة وهي تزعزع عروش الاستبداد وتخلخل السّائد وما استشرى فيه من فساد. تظلّ تبحث عن توازنها دون أن يفقد المجتمع حالته الثّوريّة. لأنّ هذه الحالة هي الضّامن لاستكمال أهداف الثّورة يظلّ ذلك الوهج يملأ وعينا ويحصّننا من الارتكاس ومن عودة أعداء الثّورة ورموز الثّورة المضادّة إلى السّاحة من جديد فالعودة إلى الشّيء المعتاد الذي نخره الفساد من خلال الإيهام بأنّ الماضي أفضل من الحاضر وأنّ المستقبل يعتريه الغموض والفوضى، هذه الأوهام هي الأشدّ خطورة على الثّورة من كلّ الأخطار الأخرى لاسيّما وأنّ مجتمعنا مازال يعاني هشاشة نفسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وأمنيّة.

إلاّ أنّ الخشية وهو ما أثبتته التّجارب أنّ المفكّرين الثّوريّين الذين عملوا على تحقيق تصوّراتهم داخل المجتمع ومن أجله بفضل انخراطهم في الثّورة قد يتحوّلون إلى مبرّرين رسميّين للسّلطة إثر انتصار هذه الثّورات وهذا ما أكّد عليه كلّ من “بيتر برجر وت لكمن”(15) وحتّى لا تنزلق نخبنا هذا المنزلق الخطير عليها أن تشعل في نفوسها دومًا جذوة الموقف الانتقادي لكم نحن بحاجة اليوم إلى نقد يثمّن المكتسب والمنجز ويبني عليهما وأولى هذه المكتسبات الحريّة المسؤولة التي تظلّ ديدننا حتّى لا يتحوّل النّقد إلى انتقاد تحرّكه خلفيّات إيديولوجيّة يوقعنا في نوع من العدميّة تزرع بذور الشكّ وتشيّع اليأس والإحباط.

إنّ ثمار الثّورة لم تينع بعد ولم يحن أوان قطافها فنحن بصدد تهيئة الأرض للزّرع ودسّ البذور الجيّدة في التّربة المباركة والمعمدة بدماء الشّهداء وحتّى يكون الحصاد وفيرًا وفي مستوى التّضحيات الجسام التي قدّمها شهداء الثّورة وجرحاها وعامّة الشّعب الذين اكتووا بنار الاستبداد على امتداد عقود والذين صبروا على شظف العيش والحرمان والاستعباد…

لابدّ أن يضطلع المثقّفون بدور الحاضن لهذه المرحلة الدّقيقة التي تمرّ بها الثّورة والرّاعي لها ويعملون على إنضاج ظروف حمل الثّورة وولادتها ممّا يجعل المولود سليمًا معافى من كلّ التّشوّهات وفي مستوى انتظارت الشّعب التّونسي.

إنّ النّقد الذي هو أحد وجود ممارسة الحريّة في أرقى ارتجاليّتها سيكون الآليّة التي بمقتضاها ستتمخّض الثّورة على بناء نظام مدني ديمقراطي صلب لا تزعزعه الرّياح العاتية وعلى ترسيخ لقيم الحريّة والعدالة والشّغل والكرامة الوطنية.

إنّ المثقّف النّقدي هو ذاك الرّجل الذي يتحلّى بروح مستقلّة حجّة الاستكشاف والتّحرّي وذات نزعة نقدية واحتجاجيّة باسم حقوق الرّوح والفكر فقط(16).

فمن المهامّ الملقاة اليوم على عاتق المثقّف بعد حدوث ثورات الرّبيع العربي ثم انحسارها  أن لا يكتفي بالتعريّة العلميّة للشّروط والظّروف التي أتاحت اندلاع الثّورات بل عليه أن يشتغل من أجل الخروج من ذلك حتّى يتمكّن لاحقًا من بلورة رؤية جديدة للعمل التّاريخي فالثّورة وهي تستكمل ما طرحته على نفسها من مهامّ عليها أن تعمل من خلال نخبتها على تغيير العقليّات وطرق التّفكير البائدة التي مازالت تعاني من تسرّبات الماضي وأن ترتقي بها إلى مستوى الانتظارات التي تروم تحقيقها أنّ الوضعيّات الاجتماعيّة التي يسودها التّوتّر و الاستياء تمثّل البيئة المناسبة لظهور النّخب المثقّفة المنخرطة في هموم المجموعة وهي تخلق الجوّ المناسب للانتقاد الاجتماعي وتشكّل حافزًا له فالمثقّفون ذوو الفكر النّقدي الحرّ يتميّزون عن أولئك المثقّفين سواء المرتبطون بالسّلطة أو باستراتيجيات الوصول إلى السّلطة أي منخرطون في ايديولوجيّات(17) تعمل من أجل الوصول إلى السّلطة هم وحدهم القادرون على حسم المصير التّاريخي لمجتمعاتهم ولاسيّما تلك التي تعيش تحوّلات عميقة فلا معرفة بدون تضامن على حدّ عبارة إدوارد سعيد.

 

الهوامش:

1 – د. أحمد سالم الأحمر “المثقف العربي … واقعه ودوره” ضمن مجلّة الوحدة الرّباط: عدد 66/آذار (مارس) 1990 ص65

– 2Gellener Ernest، contemporary thought and politics، London Routledge a kegan paul ، 1974 p73

3 – د. أحمد سالم الأحمر “المثقف العربي … واقعه ودوره”…….. ص62

4 – Bourdieu pierre «intellectuel field and creative project» in MFD young ED knowledge and social control London collier- Macmillan 1971 p162 -165

5 – Mannheim، karl essays on the sociology culture ،London Routledge and kegan paul 1956 p 10

-6  IBid p 104

-7IBid p 170

-8IBid p 111

9 – أنطونيو غرامشي: قضايا المادية التاريخية (ترجمة فواز الطرابلسي) دار الطليعة بيروت 1971 ص 126-132

10 – خالد كاظم أبو دوح: مفهوم المثقف العضوي في الفكر الغرامشي نشر بموقع “الحوار المتمدن” العدد 1847 في مارس 2007

11 – خالد الحروب: موت المثقف العضوي بقاء المثقف الناقد نشر بموقع “الأوان” الأحد 25 تموز (يوليو) 2010

12 – نفس المرجع

13 – نفس المرجع

14 – الطاهر لبيب سوسيولوجيا الثقافة دار علي الحامي صفاقس، تونس ط 5 د.ت ص 24

– 15 berger P and luckman ،T the social construction of reality new york، anchor books 1699 p 127 .

16 – محمد أركون “بعض مهام المثقف العربي اليوم” ضمن مجلة الوحدة “الرباط” العدد 64 / مارس (آذار) 1990 ترجمة هاشم صالح ص 12

17 – انظر مقالنا: الثقافة في مرحلة ما بعد الثورة نشر بالموقع الالكتروني “الأوان” بتاريخ 27 أيلول (سبتمبر) 2012.

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

د. رمضان بن رمضان

باحث في الحضارة العربية الإسلامية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى