العدد الحاليالعدد رقم 43مراجعات

مدرسة باريس في حياة المعنى.. من المحايثة إلى الانفتاح

الكتاب: حياة المعنى: التدبير السيمائي لمعنى الحياة

المؤلف: محمد الداهي

الناشر: المركز الثقافي للكتاب

تاريخ النشر: 2024

عدد الصفحات: 391 صفحة

الناظر إلى (حياة المعنى: التدبير السيمائي لمعنى الحياة، للناقد محمد الداهي) سيتلمس حجم الاستبصار النقدي في تتبع تفاصيل التحول السيميائي/السيميوطيقي، من الصيغة الانغلاقية إلى الوظيفة الانفتاحيّة، ومن الدلالة إلى المعنى، ومن النظرية إلى العلوم الإنسانية، في سياق التحولات التي تفرضها راهنيّة الاشتغال على المسار التوليدي من العمق في اتجاه السطح، لاستكشاف الكمون الإنساني عبر تيمات قرينة (التلفظ، والأهواء، والأشياء، والثقافة، والقيم..) بصبغتها العابرة للتجريد، والمتنزّلة في مدارات الوجود الإنساني بمشاغله واختلافه وعلائقه مع المحيط والآخرين. وفي سياق إبداء الأطر المرجعية والتصور ومقاصد العمل نثير الآتي:

أولاً- مناصات العمل: إطلالة عامة

يَتَهَيكل العمل بعنوان كبير موسوم بـ «حياة المعنى»، بعنوان فرعيٍّ يؤطِّر حيّز الاشتغال، معنون بـ «التدبير السّيميائي لمعنى الحياة»، فإذا كان العنوان الأول يفرد للمعنى حياته، فإنّه مؤشّر دالّ باعتبار المعنى يستقي كينونته من الوجود، والرّغبة في الوصول إلى المعنى يستلزم نهج جملة من السّبل والطرق بغية تخليقه، ومن ثم، فالمسالك والآليات الموظفة تستعير لفظة الحياة، وهذا التكوّن يتطلّب سيرورة تتشارك مع الحياة في عنصر التحقّق؛ ويأتي العنوان المرفق، فيما تجترحه السّيميائيات/السّيميوطيقا من ممكنات، في محاولة ترجمة الحياة، أي، ترصّد الحياة الإنسانيّة وفق ذلك المدخل القادر على توليد المعنى من التجربة البشريّة، والتي تتأصّل بالسّيميائيّات، هذه الأخيرة التي أفرد لها الناقد فصلًا تأصيليًا للاسم والمعنى والقاعدة اللسانية المؤصلة مع (فرديناند دو سوسور ولويس يلمسليف ووإميل بنفنيست)، مؤطّرًا تكوّن السيميائيات وأصنافها الأساسية بين التواصلية والثقافية والدلالية ومرتكزات مدرسة باريس.

انتظم الخطاب النقدي بمهاد المرتكز النقدي، أي، تعيين مدرسة باريس الفرنسية بمفاهيمها وأطرها المرجعية مفتتحًا عبر مكونيها (الدلالي/ التركيبي) في المدرج الخوارزمي. أي، شروط دلالية (توليدية/ مركّبة/ عامة)، بدلالة قاعدية تنطوي على مفاهيم من قبيل (الـمَعْنمُ/ المعانم النووية/ النواة المقومية/ المنعم السياقي)؛ وشروط تركيبية (في سياق الثنائيات)، ودلالة سردية (محفل تحيين القيم/ القيم الوصفية/ القيم الجيهيّة/ البرنامج السردي). إلى جانب العلاقات المزدوجة ونتائجها بين الخوارزمي العميق والملموس السطحي. ومنه إبداء تحولاتها في مسارات التوليد باعتبارها -المدرسة- مرجعًا وقاعدة تأسيسية، وارتياد التجربة مسارًا مغايرًا يتجاوز المقولات البنيوية، لاسيما مع الذين ينشطون خارج باريس، وافتراع مسارات عبر-تلفظية، وعبر-ثقافية، مؤمنة بالعلم الإنساني، والسياق النصي. ومن ثمّ، اختراق مواضيع قمينة بسياسة الأدب، أي، المشاريع والقضايا الشاغلة للباحث السيميائي (العمل/ الأهواء/ التلفظ/ الأشياء/ التطويع/ الثقافة)..

العمل في حدّة ينطوي على دقّة متناهية سواء في التتبع العلمي للمتغيرات المتعلقة بالسيميائيات/ السيميوطيقا، أو في اقتراح مداخل نظرية في مشاريع الحياة تنطوي عليها الفصول بشكل مركّز، ويكتسي العمل أهمية كبرى باعتباره استثناءً في الثقافة العربيّة، تجعل الدرس السّيميائي/السيميوطيقي العربي، قادرا على مسايرة التّخصّص بالدرس والتحليل.

ثانيًا- مدرسة باريس: من الانغلاق إلى الانفتاح

انكفاء العمل يتبدّى في رسم أفق واعد للاشتغال، خصوصا، أنه يتدرجّ في مواكبة تحول السيميائيات من موضعين متبلورين في الآتي:

أ- داخل باريس:

تقعدت المواكبة بإحاطة المدرسة السيميائية المنبع، والمقصد رهين الملهم (غريماص)  رمز مدرسة باريس السيميائية المعنية بنظرية الدلالة إلى جانب أسماء (راستييه/ كوكي/ شابرول/ فونتاني/ كورتيس/ ميشيل أريفي/ آن إينو/ جون بوتيتو) تُضمُّ إليه، لاسيما، في الجانب المتعلق بالسيميائيات الحكائية، قرينة المرحلة البنيوية الناشدة للانغلاق إبان الستينيات، والاعتناء بالمقولات الأساسية للحكاية والجنس السردي المرهون بالقصّة، لأن الإنتاج الأدبي يراهن على ثلاثية مركزية أهمها: الخطاب والقصة والنص، والمكونين الأولّيين، يعدان مجرّدان، السابق يقترن بالبويطيقا، واللّاحق بالسيميوطيقا، ويتفقان على المرحلة الأولى للبنيوية، التي شهدت أوجها إبان الستينات من القرن الماضي، مع (جيرار جنيت، وغريماص..) تواليًا.

يعد غريماص مستندًا في التأصيل للسيميائيات على المرجع اللساني في إنتاج الدلالة بأدواتها المنهجية وشروط توليد المعنى، بمفاهيم مستشربة من (يلمسليف) مع العلامة مهيكل النظرية السيميائية الأولى بعمدية التركيب والجدولة مطوّرا لمفاهيم (دو سوسير) باعتبار اللسان متعدد المواضيع بين الشكلي والدلالي والاجتماعي والتواصلي، و(بروب) مع مورفولوجية الحكاية في مدار تعديل المقترحات الأساسية ومواصلة النظر فيها ضمن مستويين: مستوى دوائر الحدث في الرسم البياني العاملي ومستوى التسلسل التعاقبي للوظائف في ضوء الانتقال من مضمون أولي إلى مضمون نهائي معاكس للأول بغاية التوصل إلى بنية أساسية للدلالة في المربع السيميائي/العلامي. وفي فترة لاحقة بعد الاستفادة من الإرث النقدي اللّساني، انخرط الناقد في تخليق مصطلحية أتبعها بمعجم رفقة تلميذه (جوزيف كورتيس)، وهي التي كانت موئل الاشتغال من قبل الباحث محمد الداهي، إذ تتواتر المصطلحات والمفاهيم والمرتكزات من قبيل: القيمة والاختلاف، اللغة الواصفة، المربع السيميائي أو التمثل البصري، نظرية العوامل.. إلخ، مراهنة على في حدّها على عنصر العلاقات.

يحضر المسار التوليدي باعتباره جانبًا ضامنًا للسيرورة النقدية مع مدرسة باريس، خصوصًا، أنه ممكن لقياس درجات العلمية في التخطيط والتشبيك، وموئلاً هامًا للتحقّق من درجات علمية النقد، وفق الجدولة والتركيب، وعبر بُناه (السيما-سردية/ الخطابية/ النصية)، وهو المعطى الحقيقي القائم على تحويل مسار السيميائيات، من حدود الصرامة والانغلاق والتركيب الخوارزمي المعياري بشكل يرتكز على المجرّد والمقولة، نحو تجديد صيغ الاشتغال على المعاني السياقية، وذلك عبر تحويل النقد من الدلالة إلى المعنى، ومن القصة إلى النص، ومن العمق إلى السطح، ومن بنيات عموديّة لسانية إلى بنيات توليديّة تداولية. وكلّ ذلك وفق اشتراطات هامّة، قمينة التوليد (من العمق إلى السطح) والتركيب (من وحدات صغرى إلى مجموعات دالة) والتعميم في سياق (وحدة المعنى).

ب-خارج باريس:

ارتادت تجربة السيمائيات حسب الناقد الحواري محمد الناقد في رواية التعلم، آفاقا جديدة خارج الحيز الجغرافي الفرنسي، فإذا كانت مدرسة باريس بمثابة المهد والمنبع، فإن اجتهاداتها شهدت انتقالاً يتجاوز الموقع الفرنسي، وفق تحولات أبستيمولوجية موجّهة نحو أفق واسعٍ، بالتالي، مشابهة المسار الذي قطعته السرديات البويطيقية مع المسار الما بعديّ، ومن ثم، الانتقال من محطة إلى محطّة مغايرة وفق قناعة المسايرة، أي، انبعاث مرحلة جديد بعد مرحلة قديمة تسمى بالكلاسيكية، وفق الانعطافة التاريخية والإبدالات المشابهة، ولعلّ قرينة التشابه بين البويطيقا تتماثل مع الاتجاه السيميوطيقي، بمعنى، أن التجربة تستفيد بشكل كبير من مراحلة سابقة دون إحداث القطيعة.

إذا كانت البويطيقا قد انتقلت فعليا من الخطاب إلى النص، فإن علاقات المجاورة في بلاغة الرواية ظلت ثابتة، أي، أن الزمن السردي تحول إلى الزمن النصي، والسرد سار في مسالك النص والتفاعلات النصّية، والتبئير تعمق لاحقًا في  السوسيونصية بما هو ترهين للصوت السردي والأصوات المتفاعلة من منظور اجتماعي داخل الرواية، لتكون بنية الانتقال غير معزولة تتجاوز معطى القطيعة، وتنتصر إلى الاستتمام وتوطين العمل وفق أدوات ترتبط دائمًا بعمقها النقدي الذي يتجاوز الأيديولوجية، وفي السياق نفسه تسير السميوطيقا، من مقولاتها اللسانية في اتجاه تجلياتها عبر وساطة يضمنها مبدأ القصة، المرتبط في سياق التمثيل بالتلفظ، والانتقال من البنية إلى ما بعد البنية.

الما بعدية مرحلة جديدة جاءت مستفيدة من منجزات البنيوية، والانفتاح على العلوم الإنسانية والاجتماعية وغيرها من العلوم الجديدة، في دراسة الأدب والسرد بشكل أخص، ويكتسي طابع هذا الاهتمام، عند الناقد الحواري محمد الداهي طابعًا خاصًا، سيما أن رواية تعلمه انبنت على تقفي الممكنات العلمية من داخل العلم، أي، معاينة الانفتاح في دوائر تطوير المفاهيم السيميائية وعلى ضوئها، والوفاء للفكر النقدي الملتزم مع الخلفيات العلمية، من المقيد إلى الموسع في التلفظ مثلاً، ومن اللغوي إلى خارج-لغوي، ومن النظرية إلى العلوم الإنسانية.

إنّ التشكّل وتحقيق علم دارس للأدب شكّل انعطافة ابستيمولوجية في تخليص النقد من الصيغة اللّاعلمية، لكنّ الناقد الحواري لم يراهن نحو العودة إلى البدئيّة، بل انخرط في تتبع المعطى العلمي من زاوية الانفتاح، في تجاوز البنى نحو إمبراطورية جديدة منفتحة تعدّ إبدالاً حقيقيًا، ينقل التجربة من عالم منغلق في اتجاه عالم منفتح في ضوء المتغيرات والتحولات النقدية الكونيّة، لاسيما في الحيّز الأنجلوساكسونيّة.

مختتم

الناقد المغربي محمد الداهي، يتحرك بشكل دقيق على أرضية نقد السيميوطيقا، أو النقد الحواري، بجرأة كبيرة تحمّل فيها مسؤولية التأصيل للتخصص في البدء والاختصاص لاحقًا، ليس من موقع الناقد الذي تتعالى عليه الإبستيمات، بل من منظور العالم، بعيدا عن الاستهلاك السلبي، نظير تموقعه في جهة الفاعلية والتحاور والوجاهة، انطلاقًا من عنصر الخبرة والمتابعة والفهم الدقيق للمعطيات النّظرية في الحيّز السيميائي، والاستناد على المرجع الغربي، بوعي منسابٍ، وديناميّة تظهِر حجم اختباره للتّشعبات والمسارات، ولا يقتصر اهتمامه على التلقي المبني على الاستنساخ، لكنه ينطوي على قوة التفاعل والتحاور، مع ترهين الاشتغال وتبيئته وفق الفهم العربي، بالترجمة والإشراك والاقتراح، وبالتالي، فهو يمشي في المسار الذي ذهب فيه (طودروف) في رواية التعلّم، ويُنزّل للباحث العربي موضوعا شائكًا بالغ التعقيد بكثير من الحرص، والجمع بين ما تفرق.

 

المراجع:

1 – منذ نشر علم الدلالة البنيوي سنة 1966 وفي المعنى سنة 1970 تشكلت مدرسة فعلية حول أ.ج. غريماس A. -J.Greimas. وفي سنة 1976 ظهرت له -في الوقت نفسه- أعمال أخرى مثل موباسان Maupassant، وسيميائية النص، والسيميائية والعلوم الاجتماعية. وقد تعددت الأعمال الأولى، إلى حين ظهور المعجم الاستدلالي للنظرية اللغوية سنة 1979. إن ما يسمى اليوم المدرسة السيميائية بباريس يغطي مجموعة من البحوث القصصية والقولية هي غاية الانسجام.. للاستزادة:

جون ميشيل آدم، السّرد، ترجمة أحمد الودرني، ط1 (بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، 2015) ص91

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

د. سعيد أوعبو

جامعة محمد الخامس - الرباط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى