
ملامح غريبة (قصة قصيرة)
في غرفتها المتواضعة جلستُ قبالة أمي وهي غارقة بصمتها دون أن أتحدث معها حتى بكلمة واحدة فهي تعتبر الصمت نوعًا من أنواع العبادة لديها… تمتلك فلسفة خاصة بها. إنها أنجزت شوطًا من حياتها فعليها أن تندمج مع روح الله بصمتها وتسمع تسابيح الكون وحفيف الشجر وزقزقة العصافير وحتى فحيح الأفاعي إنها الحياة وفيها يتصارع الخير مع الشر دائمًا وأبدًا.
شعرتُ بوخزة في قلبي وسرعة خفقانه لحالة أمي وتقدمها بالعمر وكيف أثرت فيها السنون وتربية الأبناء ومشاغل بيتها وتحملها لطبيعة أبي ونرجسيته الزائدة عن المعتاد حتى رسمت على وجهها خطوطًا وتجاعيدًا أثارت في نفسي شفقة كبيرة عليها وعلى صبرها وصمتها العجيب وكيف تحملت نعوت أبي لها بكل فضاضة وجحود بكونها لا تمتلك نباهة تؤهلها لفهم مزاحه الذي تأنفه روحها على الأمور الصغيرة والكبيرة من الأحداث المتكررة، تشاطره الضحكة طفلتهما وهي آخر العنقود بالنسبة لبقية إخوانها.. أحيانًا يحتاج الإنسان لصبر أيوب كي تسير القافلة، وأمي من هذا النوع. إنها الآن صامتة لكنها تضع عينها بعيني لا أدري لماذا.
ما زلتُ أتفرس هذا الوجه المتعب، وما زال حواري الداخلي مشتعلاً بحسرة ووجع وعدة أسئلة تتقاذف على مخيلتي ولسان حالي يقول مسكينة تلك المرأة.
أبي الذي لم أره يومًا يصحبها في سفره أو خلال نزهة أو زيارة لأحد الأقارب أو حتى لمراجعتها لأي طبيب مثلاً.. إنما تكتفي أن تذهب بصحبة أحد أبنائها دون ان تظهر انزعاجها ولو بكلمة واحدة.
يا إلهي لم انتبه لشعرها وخصلاته السود المموجة بكسرات خفيفة، وكيف احتلته عنوة هذه الخصل البيض المموجة بخصلات سود خجلة بين أكداس أخواتها البيض. وكيف لم انتبه لأسنانها التي أخذت تتساقط يومًا بعد آخر. لكنها لا تبدي اعتراضها ومقتنعة تمامًا إنها سنة الحياة لبني البشر. أما أبي فقد بقي صارمًا في تعامله معها دون ان يعرض تكفله لمراجعة طبيب الأسنان ليعوضها ما خسرته منها، وهي مازالت صامتة مثل أبي الهول في صمته ربما مات أبي بداخلها.
تذكرتُ حينها ليلة شتائية قارسة البرودة شعر أبي حينها بارتفاع درجة حرارة جسده وأخذ يشكو من ألم في رأسه، ثم نهض مسرعا باتجاه الحمام وتقيأ لمرات عديدة. كانت أمي تغط بنوم عميق، لكنها استيقظت بسبب ارتفاع أصواتنا نحن الأبناء فهرعت إليه مسرعة وحاولت أن تمسك رأسه بكلتا يديها، لكنه زجرها بشدة قائلاً: أبعدي عني أيتها المرأة وسأكون بخير.
حينها رأيتها تنسحب بهدوء دون أن تتفوه بكلمة واحدة لكني سمعت نشيجها وهي تتلفع ببطانيتها ثم تقبلت وضعها على مضض وأسلوب الصمت يرافقها أيضًا. بالنسبة لي لم أتقبل فكرة صمتها وتم النقاش بينني وبينها لكني خسرت ثقتها لقادم الأيام ولم تعد تخبرني بشيء، لكني منحتها العذر.
لحد الآن لم أفهمها أن كانت تحبه أو لا ربما كانت تكن له حبًا كبيرًا داخل روحها وهذا هو المصدر الذي يغذي طاقة تحملها فعذرتها مقتنعة بهذه الفكرة التي فاجأت مخيلتي على عكس فكرتي السابقة، ولكن حين مات أبي لم أسمع أمي تبكيه يومًا قط بل وحافظت على صمتها وهدوئها أيضًا. بدأت أستغرب ما تخفيه. عجيبة هذه المرأة. عاشت حياة جافة ينقصها اهتمام الزوج بها، وإظهار حبه لها في عدة مناسبات على الأقل …لكنه يتصرف على عكس تلك النظرية. كانت تتعرض لمواقف صعبة أو كلمات جارحة من قبل أهله وكان هو يتغاضى ولا يتعب نفسه حتى بعتاب بسيط من أجلها. إذن رأيي الأول هو الصحيح أنه مات بداخلها قبل موته الأبدي.
إنها الآن ترمقني بنظراتها الحادة، ربما قرأت أفكاري وهي لا تحب الخوض بهذه المواضيع تمتلك كبرياء يليق بروحها المتواضعة وإيمانها بما كتبه الله لها رغم مسحة الحزن التي ترافقها دائمًا، لكنها تبقى عزيزة النفس، يشدها الحنين لترمي ما برأسها مما تعانيه لأحد المقربين إليها لكنها تغالب مرادها دائمًا.
فكانت بحاجة إلى انتهاز الفرصة لتكتب الشعر والخاطرة، وهنا بدأت مشروعها في الكتابة لتعبر من خلاله عن ذاتها وربما شعرت بالارتياح لهذه الفكرة. أنا أفكر إذن أنا موجود (مقولة ديكارت).
أخبرتني يومًا إنها تشعر كأن يد أحدهم تمتد إلى عنقها لتخنقها حين تتذكر ماضيها. إنها تحاول جاهدة أن تنساه، ونجحت أكيد!
لأني أعرف طبعها تمامًا لا تبيح سرها لأقرب الناس ولا تهز إرادتها المحن. سألتها ذات يوم عن أحلامها في الحياة نظراتها الحزينة عاتبتني وجعلتني أتراجع عن سؤالي.
جعلتني أشعر إنها لا تمتلك أحلامًا قط .. إن روح المشاعر والأحاسيس لا تعنيها كأنها وضعتْ هذا القلب النابض بالحياة داخل زجاجة وأغلقتها بإحكام للأبد، وأنا أعذرها أيضًا.
شعرتُ بالضيق وهي ما زالت ترمقني بنظراتها الحادة لكنها حنونة بالنسبة لي لأني أفهمها مهما حاولت ان تتصنع القوة. عيونها حدثتني عن أمور كثيرة وباحت لي بكل أسرارها وهي صامتة.
ولكن مهلاً أرجوكم أن تعذروني لم أعد أتبين الأمر ربما اختلطت الأمور داخل رأسي المضطرب دائمًا.
بومضة خاطفة اكتشفت أن هذه المرأة هي ليست أمي. تباطأت الأفكار في رأسي. يا إلهي هلا أرشدتني.
من هي هذه المرأة التي تجلس قبالتي؟
عيونها تشبه عيوني.. وجهها وسمرتها.. تشبهني أيضًا. كذلك تسريحة شعرها ولونه الطبيعي دون صبغة تغطي شعيراته البيض، وحتى الفستان الذي ارتديه.. يا إلهي ما هذه المصادفة الغريبة رفعتُ يدي بإشارة لتحيتها.. هنا عرفت المأزق الذي وقعت فيه.
نعم انها ليست أمي.. إنها صورتي في المرآة التي تنتصب قبالتي.
عدد التحميلات: 1