
الإنسان عند ميشيل فوكو
فرانسوا أوالد François Ewald
ترجمة: محمد نجيب فرطميسي
قد يكون الإنسان، في نظر فوكو، خاضعًا فعلا لعلاقات المعرفة والسلطة، مع ذلك فإن هذه التبعية لا تقلل من مسؤوليته عن وجوده الخاص. إذ على الانسان أن ينتج “ذاتا”، جديرة بالاحترام وفي مستوى المسؤولة الملقاة عليه، لكنها ليست بتاتا ذاتا فردانية، الحال أن الانسان يشيد ذاته بذاته في علاقته بالآخرين.
يُدرك الإنسان نفسه عمومًا، عند ميشيل فوكو، بوصفه كائنًا تابعًا. إنه مقيد بـ «أنساق التفكير»، يندرج ضمن «أنظمة الخطاب»، خاضع لـ«جاهزيات السلطة» les dispositifs de pouvoir. يختلف هذا التصور طبعًا عن منظور الفلسفة الوجودية للإنسان، حيث يكتشف الانسان ذاته في تجربة القلق، بوصفه حرية. لا يملك الانسان بالنسبة لفوكو أصوله في ذاته.
ليست هذه التبعية، في نظر فوكو، خاصية المقهورين. ولا تصف وضعية طبقة اجتماعية معينة؛ إنها تبعية أنطولوجية، تصدق، فضلاً عن ذلك، على الأقوياء كما الضعفاء، المهيمنين كما المهيمن عليهم، إذ ترتبط بوجود بعض أشكال العقلانية وضروب التفكير التي تصاغ في أصناف الخطاب، وإدراك العالم والاشياء، وتصنيفاتها: يتلقى الانسان هويته من لعبة الحقيقة والسلطة التي تنظم المجتمع. يرثها ولا يُسائلها، إذ يعيد إنتاجها. يذّكر فوكو مرارًا بـ«الخطر» الكامن في كل ما يتكرر.
يستحضر، في نفس الآن، هذا التصور عن إنسان تابع، مطلب التحرر والانعتاق. مسعى فوكو مستمر، إذ يستعيد مأثورة الشاعر الفرنسي روني شار René Char التي ختم بها مقدمة كتابه «تاريخ الجنون» (1961): «طوّر غرابتك المشروعة». كما أرفق فوكو خاتمة كتابه «تاريخ الجنسانية» بهذه العبارة: «تاريخ البشر هو استمرارية طويلة لمرادفات نفس الألفاظ». ليست إذن تبعية الإنسان قدرًا. يكمن دور الفيلسوف في خلخلة البداهات ونبذ الايديولوجيات. إن كان التاريخ يصنعنا، فبوسعنا نحن أيضًا صنعه. يتحمل، الإنسان عند فوكو، مسؤولية وجوده الخاص. عليه أن ينتجه بوصفه فنًّا من فنون الوجود، تتجلى من خلاله قيم، هي في نفس الآن قيم من أجل الآخرين. الإنسان، كما يقول فوكو، دائم القدوم. L’homme est toujours à venir
المعرفة والسلطة
سيركز فوكو على وصف هذه المنطقة الخاصة بالواقع البينذاتي intersubjectif الحاضرة في التاريخ، تسبق التاريخ وتغيره. الإنسان، قبل كل شيء، كائن عارف L’homme est d’abord un être de savoir، ففي تقاسم المعرفة، خاصة في مجال العلوم الإنسانية، يعثر على هويته. سيبين فوكو، تحت اسم «إبستمي» Epistèmé كيف تنظم علوم الطبيعة والانسان نفسها بنفسها في حقب معينة، حيث لاحظ وجود تماسك لا إرادي ومثير في الآن ذاته بين المعارف. سيعقّد فوكو، فيما بعد، هذه الخطاطة الأولية: ليس الإنسان تابعًا فقط للمعارف، إنه فاعل أيضًا في علاقات السلطة، سواء مارسها أو مورست عليه.
يشرح فوكو في كتابه (المراقبة والعقاب) علاقات المعرفة / السلطة التي ستفضي لميلاد هذا الضرب المتميز من العقاب المتمثل في الاعتقال. كيف ننتقل من المعادلة العقاب = التعذيب، الى المعادلة العقاب = الاعتقال؟ يحضر، لدعم هذا التحول، الاقتصاد الانضباطي للسلطة مصحوبًا بتحديد موضوعي، نفسي – اجتماعي، للمجرم بوصفه جانحًا. إن أردنا القيام بجنيالوجيا اقتصاديات المعرفة/السلطة، سنلاحظ أيضًا تغيرها البطيء مهما كانت ضروب المقاومات التي تعترضها. هكذا فإن فشل السجن، وإن لوحظ ذلك عند ظهوره، لا يفتح على ابتكار أصناف عقابية بديلة. تكرار عقابي بئيس.
ما مكانة مقاومات السلطة في اقتصاديات المعرفة – السلطة هذه؟ إن لم توجد، بالنسبة لفوكو، سلطة من دون مقاومات، فعلى هذه الأخيرة أن تحرص على عدم تجديد السلطة التي تدعي الانعتاق منها. سوف يثير فوكو في سبعينيات القرن المنصرم، ضجة كبيرة، عندما أدان ضمن موضوعات المحظور والقمع والحرية الجنسانية، “الحيل” التي تستدعي من خلالها سياسة السكان الحيوية كل واحد لأن يرتبط بهوية جنسانية معينة. ليس لدى الانسان، خلافا للتصور الفرويدي، ما يفرج عنه، مما هو مكبوت، عليه بالأحرى «أن يعتمد على نفسه»، أي على الهويات التي أضفيت عليه وأن يخلق ذاته بذاته.
من أجل إيتيقا في ممارسة السلطة
تقترن دائمًا، عند فوكو، أنساق التفكير بضروب المعاناة، بأنظمة المتعة والاستياء. كتابات فوكو في هذا الموضوع حذرة الى أقصى حد. إن إقامة الفصل بين العقل والحمق – تشكل الأحمق في العصر الكلاسيكي – قد تطمئن الذين يوجدون في المكان المناسب؛ لكنها رهيبة بالنسبة للآخرين. تحكم عليهم بوجود محرومين فيه من الحرية، كلامهم باطل مبدئيًا، خاضعين لموضعة objectivation رهيبة تجسدها نظرة طبيب، أو خبير أو شرطي. إنها إحالة الجانح وكل هؤلاء البشر «المبغوضين»، ممن ستختزل هويتهم في كونهم صادفوا يوما ما سلطة حكمت عليهم بالنفي.
هذا لا يعني، بالنسبة لفوكو، أن الأحمق لا وجود له أو أن الضرورة تقتضي تبرئة الجانحين. ليس الإنسان خيّرًا بالطبع والطبيعة البشرية، عند فوكو، هي المأساة بعينها، عنيفة وشغوفة. هذا لا يعني ألا داعي للتساؤل حول إيماءة ذاك الذي يمنح، باسم معرفة قطعية، هوية، يدين ويحتجز. تهدف فلسفة فوكو، وهي أشبه بسمكة الطوربيد السقراطية، لأن تفقد تصرفات السلطة العادية جدًا بداهتها لكي يتسنى لمن يمارسونها التساؤل حولها. تتوخى فلسفته إدماج إيتيقا في ممارسات الذين يمارسون السلطة، أي عندنا نحن جميعًا، ما دمنا كلنا وكلاء سلطات صغرى، سواء داخل الأسرة أو المدرسة أو المقاولة … يعود فوكو باستمرار لهذه الفكرة، أن من يمارس السلطة عليه واجبات تجاه من يخضعون له. سيعيد فوكو، بناء على هذه الخطاطة، صياغة سؤال حقوق الإنسان.
ما هو إنساني في الانسان
سيقف فوكو عند نظامين كبيرين لتحديد الهوية في المجتمعات الحديثة. تقوم الأنظمة الأولى بمهامها عن طريق التوزيع، أو الاقصاء كما هو الأمر في حالة الأحمق، المريض أو الجانح. أما الثانية فهي تلك التي تستحضر ذاتية معينة، لتتماهى مع جزء منها، كما هو الأمر في حالة الجنسانية. ففي الغرب حيث يُستدعى الانسان ليعثر على هويته، مُفصحًا، بجميع الصيغ، عن حقيقة حياته الجنسية. إنها تجربة، كما يؤكد فوكو، مختلفة تماما عن تجربة الاغريق، حيث الجنسانية بالنسبة لهم مناسبة لإيتيقيا اللذات une éthique des plaisirs. يستخلص فوكو، مستحضرًا موضوعًا حاضرًا فعلاً في عصر النهضة، برنامج أخلاق، حيث يُستدعى كل واحد لاختيار نمط وجود، وفق القيم التي تلهمه. على الإنسان إذن أن ينتج نفسه بنفسه، وذلك بالاشتغال على الذات، بضرب من الزهد. يتعلق الأمر بإنتاج «ذات»، جديرة بالاحترام، لكنها ليست بأي حال ذاتًا فردانية محض، طالما تبني ذاتها في إطار علاقة بالآخرين.
تهتم فلسفة فوكو كثيرًا بتنوع البشر، بالكبار والصغار على حد سواء، بالذين يلحقون الضرر بالآخرين والذين يعانون. إنها فلسفة تضج بتعدد علاقاتهم الممكنة وتنوعها. لقد كان فوكو من دون شك أقل حساسية تجاه الإنسان منه تجاه البشر. ما هو إنساني في الإنسان، ما ينقده، ما يُذله وما يشقيه، إنها تراجيديا الحقيقة. الحال أنها في نهاية المطاف هي خاصية الانسان الأكثر ثباتًا: لم يوجد الانسان إلا لعلاقته بالحقيقة.
مصطلحات ميشيل فوكو
_ إبستمي: Epistémè يدل هذا المفهوم عند فوكو على مجموع العلاقات بين العلوم والخطابات في فترة زمانية محددة. لا يتعلق الأمر بأنساق التفكير أو البنيات العامة، بل بـ«تشكلات أدت لأشكال متعددة من المعرفة التجريبية» (مقدمة الكلمات والأشياء)
_ جاهزيات السلطة: Dispositifs du pouvoir يعد هذا المفهوم الموضوع الرئيسي في اشتغالات فوكو. يعود الفضل لأعمال جيل دولوز وفليكس غاتاري في تبني فوكو لهذا المفهوم. يقصد به «مجموعة غير متجانسة تشمل خطابات، مؤسسات، تصاميم معمارية، قوانين، قرارات تنظيمية، قوانين، مقاييس إدارية، منطوقات علمية، قضايا فلسفية، عموما إنها الشبكة التي نقيمها بين العناصر».
_ جينيالوجيا: Généalogie يتضمن المفهوم رفض كل تصور غائي للتاريخ والارتباط بفرادة الفضاءات والأزمنة. يسلط المفهوم أساسًا الضوء على عدم التناسق والتناقضات من أجل وعي أفضل باحتمالية الجاهزيات والخطابات اليوم.
أركيولوجيا: Archéologie المفهوم هو تركيب لمنهجية فوكو لدراسة تشكل الخطابات حول مواضيع شتى، ذات طابع متنوع مثل الحمق والطب والعلوم الإنسانية عمومًا. يحضر المفهوم في مقدمة كتاب (تاريخ الحمق في العصر الكلاسيكي) كما يحضر مجددًا في عناوين كتبه اللاحقة. هكذا يريد فوكو أن يتميز عن تاريخ المعارف التقليدي ومسعاه العادي، المتمثل في اكتشاف كيف أن حقائق الأزمنة الحالية انتصرت لنظريات الماضي الخاطئة.
المصدر:
L’homme chez Michel Foucault
François Ewald
In « Penser l’Homme »
Les textes fondamentaux commentés
Le Point Hors-série N 12 Avril-Mai 2008 p 67- 69
عدد التحميلات: 0