
بيير أوغوست رينوار: شاعر الألوان وضوء الحياة اليومية
وُلد بيير أوغوست رينوار في 25 فبراير 1841 بمدينة ليموج Limoges الفرنسية، في كنف عائلة متواضعة الحال، حيث كان والده خياطًا. انتقلت العائلة إلى باريس عام 1844 بحثًا عن ظروف معيشية أفضل. كان رينوار رسامًا فرنسيًا من رواد الانطباعية. وُلد في عائلة فقيرة، وفي عام 1854، عندما كان في الثالثة عشرة من عمره، بدأ العمل كرسام في مصنع للخزف في باريس، حيث اكتسب خبرة في استخدام الألوان الفاتحة والمنعشة التي ستصبح لاحقًا سمة مميزة لأعماله الانطباعية، كما تعلم في الوقت ذاته أهمية الحرفية المتقنة. وقد تأثر ميله إلى المواضيع المرحة بأعمال كبار رسامي الروكوكو، الذين درس أعمالهم في متحف اللوفر، وهو ما وفّر لرينوار فرصة الالتحاق بعالم الفن المزدهر في العاصمة الفرنسية، رغم ظروفه الصعبة.
بداية التكوين الفني والانتماء إلى الانطباعيين
في عام 1862، وبعد أن ادخر ما يكفي لدفع تكاليف التعليم المهني، التحق رينوار بـمدرسة الفنون الجميلة (École des Beaux-Arts)، وبدأ الدراسة في مشغل الرسام التقليدي شارل غليير، حيث تعرّف على مجموعة من الفنانين الشباب الذين سيصبحون لاحقًا رموزًا في الحركة الانطباعية، من بينهم كلود مونيه، ألفريد سيسلي، وفريديريك بازيل.
كانت تلك الحقبة حبلى بالتحولات السياسية والثقافية والاجتماعية في فرنسا، وأثّرت في التوجهات الفنية لرينوار ورفاقه الذين سئموا من النماذج الأكاديمية الصارمة للفن، وقرروا رسم مشاهد الحياة اليومية، مستخدمين الضوء الطبيعي وفرشاة سريعة الانفعال تسعى إلى التقاط لحظة عابرة – وهكذا وُلدت الانطباعية.
كانت علاقته بمونيه وثيقة بشكل خاص في تلك الفترة، ويُعتبر لوحاتهما لمكان التنزه الشهير «لا غرونويير» التي رسموها في عام 1869 (وإحدى نسخ رينوار موجودة في المتحف الوطني بستوكهولم) من الأعمال الكلاسيكية الأولى التي تُجسّد الأسلوب الانطباعي.
وكما هو الحال مع مونيه، عانى رينوار كثيرًا في بداياته المهنية، لكنه بدأ في أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر يحقق النجاح كرسام بورتريه، وهو مجال كان مناسبًا لطبيعته الخجولة الودودة التي ساعدته على وضع الجالسين أمامه في حالة من الارتياح.
في عام 1881، بدأ تاجر اللوحات بول دوران-رويل بشراء أعماله بانتظام، ومنذ ذلك الحين تخلص رينوار من همومه المالية الكبرى. وبحلول هذا الوقت، كان رينوار قد «بلغ أقصى ما يمكن أن تأخذني إليه الانطباعية»، كما قال، قام بزيارة إيطاليا في عامي 1881-1882 ألهمته بالسعي إلى إضفاء مزيد من الصلابة على أعماله. ويظهر هذا التحول في الموقف بوضوح في لوحته الشهيرة «المظلات» (حوالي 1881–1886، المعروضة في المعرض الوطني بلندن)، والتي بدأها قبل زيارته إلى إيطاليا وأنهاها بعدها؛ حيث تُرسم الفتاتان الصغيرتان على الجهة اليمنى بضربات فرشاة ناعمة ريشية مميزة لأسلوبه الانطباعي، بينما تظهر الشخصيات على اليسار بأسلوب أكثر جفافًا وحدة، وألوان أبهت. وفي منتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر، جرب رينوار لفترة قصيرة هذا الأسلوب الذي أسماه «الأسلوب اللاذع» (manière aigre)، لكنه سرعان ما طور أسلوبًا أكثر ليونة ومرونة، مع استخدام ألوان أكثر دفئًا.
وفي الوقت نفسه، بدأ يتحول من المواضيع المعاصرة إلى مواضيع أكثر خلودًا، خصوصًا مشاهد العراة، إلى جانب صور لفتيات صغيرات في أماكن غير محددة. ومع أن أسلوبه أصبح أكثر فخامة وبساطة، بدأ أيضًا يتناول موضوعات أسطورية (مثل “حكم باريس”، حوالي 1913–1914، متحف هيروشيما للفنون)، وتحوّلت المرأة النموذجية في أعماله إلى صورة أكثر نضجًا وامتلاءً.
الضوء واللون كأبطال اللوحة
بعكس بعض زملائه الذين ركّزوا على المناظر الطبيعية (مثل مونيه)، ركّز رينوار على الجسد البشري، والحياة الاجتماعية، والعلاقات الإنسانية. تظهر أعماله احتفاءً بالحياة في أبسط تفاصيلها، من النساء اللواتي يغسلن ملابسهن على ضفاف النهر، إلى الراقصات في الحفلات الباريسية، أو النساء العاريات في حدائق غنّاء.
ومن أشهر أعماله:
«غداء الحفّارين» Le Déjeuner des canotiers 1881
لوحة مفعمة بالحركة والضوء، تصور مشهدًا اجتماعيًا مرحًا لمجموعة من الأصدقاء على ضفاف نهر السين.
«الفتيات على البيانو» Jeunes filles au piano 1892
لوحة تبعث على السكينة والانسجام، وترمز إلى فكرة الفن العائلي والحنين للطفولة.
«الراقصتان» Les Deux Danseuses 1890
حركة الأجساد والتعبير الوجهي يحاكيان الانفعال اللحظي ويعكسان قدرة رينوار على الجمع بين البورتريه والمشهد الدرامي.
التحول الأسلوبي والانفصال عن الانطباعية الصرفة
في ثمانينيات القرن التاسع عشر، بدأ رينوار يشعر بأن الانطباعية الصرفة غير قادرة على التعبير الكامل عن العمق الإنساني. فبدأ بالعودة جزئيًا إلى التقاليد الكلاسيكية مستلهمًا أعمال رافائيل وإنغر، مع التركيز على الرسم الدقيق والتكوين البنيوي الصارم. عُرف هذا التحول بـالمرحلة «الإنغرية»، نسبة إلى الفنان الفرنسي جان أوغست دومينيك إنغر.
ومع ذلك، لم يتخل رينوار كليًا عن مبادئ الانطباعية؛ فقد ظل الضوء يحتل مكانة مركزية في لوحاته، وكذلك اللون الحيوي والاهتمام بالتفاصيل الحسية.
المرض والإنتاج الفني في أواخر العمر
في تسعينيات القرن التاسع عشر، بدأ يعاني من مرض الروماتيزم، إلا أن إرادته الفنية لم تضعف. كان يرسم رغم الألم، وغالبًا ما كان يُثبّت الفرشاة على يده المشلولة بضمادات ليتمكن من متابعة عمله. ومنذ عام 1903 (وكان حينها قد أصبح شهيرًا عالميًا)، انتقل للعيش في دفء جنوب فرنسا. واستقر في كان ثم في كانيه سور مير (Cagnes-sur-Mer)، حيث استلهم من دفء الأجواء المتوسطية وروعة الطبيعة، واستمر في إنتاج لوحات مدهشة حتى آخر أيامه. وتفاقم المرض تدريجيًا إلى أن أقعده تمامًا بحلول عام 1912، فصار يستخدم الكرسي المتحرك، لكنه استمر في الرسم حتى نهاية حياته. في عام 1919، وفي سنواته الأخيرة، انخرط أيضًا في فن النحت، قبل أشهر قليلة من وفاته، تم عرض إحدى لوحاته في متحف اللوفر، وهو اعتراف متأخر من المؤسسة الأكاديمية بمنجزه الفني. أما المنزل الذي قضى فيه سنواته الأخيرة في كاني سور مير، فقد تحول الآن إلى متحف مخصص له.
توفي رينوار في 3 ديسمبر 1919 عن عمر يناهز 78 عامًا، بعد أن خلّف وراءه أكثر من 6000 عمل فني، بين لوحات زيتية، ورسومات، وتماثيل.
النساء في لوحات رينوار: الجمال، الحسية، والبهجة
من اللافت في أعمال رينوار حضوره المتكرّر لصورة المرأة، التي رآها تجسيدًا للجمال الطبيعي، والمتعة البصرية، بل والإنسانية نفسها. لم تكن النساء في لوحاته رموزًا مثالية بقدر ما كنّ انعكاسًا لواقع يومي مفعم بالحياة، بالحب، بالدفء، وبالضوء.
كان يرسم النساء بأسلوب ناعم، بألوان متداخلة، تعكس نضارة البشرة، ونعومة الشعر، ودفء اللحظة. لا عجب أن قيل عنه إنه «رسّام الفرح» و«الشاعر الذي غنّى الجمال الأنثوي باللون».
إرث رينوار وتأثيره في الحداثة
رغم أن رينوار غالبًا ما يُقرن بالانطباعية، فإن إرثه تجاوز حدود الحركة. كان جسرًا بين التقاليد الأكاديمية الصارمة والفن الحديث، بين الرسم الوصفي الدقيق والتعبير الانفعالي الحر. تأثر به فنانون كبار، مثل ماتيس وبيكاسو، لا سيما في مقاربته للجسد واللون.
كما ترك رينوار أثرًا في النحت، بالتعاون مع ريتشارد غيتون في تماثيل رشيقة تعبّر عن الجمال الحسي ذاته الذي احتضنته لوحاته.
يُعتبر رينوار من أكثر الفنانين المحبوبين في القرن التاسع عشر، فموضوعاته – الأطفال الجميلون، الزهور، المناظر الطبيعية الساحرة، والأهم من ذلك كله، النساء الجميلات – تملك جاذبية فورية، وقد نقل البهجة التي شعر بها تجاهها بأسلوب مباشر ومحبب. وقد قال ذات مرة: «لماذا لا تكون الفنون جميلة؟ هناك ما يكفي من الأشياء المزعجة في العالم». وكان من كبار الممجّدين للجسد الأنثوي، إذ صرح قائلًا: «لا أعتقد أنني أنهيت لوحة عارية إلا عندما أشعر أن بإمكاني قرصها».
ترك رينوار إرثًا فنيًا ضخمًا، إذ بلغ إنتاجه نحو 6000 لوحة، موزعة على مجموعات فنية حول العالم. ومن الجدير بالذكر أن أحد أبنائه هو المخرج السينمائي الشهير جان رينوار (1894–1979)، الذي ألّف سيرة ذاتية مؤثرة ومليئة بالحيوية عن والده، نُشرت بالفرنسية والإنجليزية تحت عنوان Renoir, My Father في عام 1962.
خاتمة: رينوار، احتفال مستمر بالحياة
إذا كان مونيه رسّام الطبيعة المتحوّلة، فإن رينوار هو رسّام الإنسان في لحظاته الحميمة والمضيئة. كانت لوحاته مرآة لبهجة العيش، وفي الوقت ذاته اعترافًا بعمق الإنسان. لقد اختار أن يرسم ما هو جميل، مبهج، ومشرق، حتى في وجه المرض والعجز. وكما قال في سنواته الأخيرة: «الألم يمر، لكن الجمال يبقى».
رينوار هو دعوة صامتة إلى النظر للعالم بعين تحتفي بالنور، وتشكر الحياة على أبسط مشاهدها.
عدد التحميلات: 0