
عندما تتحدث الكلاب: فلسفة بين منطوق لم يقصد ومقصود لم ينطق
"حوار الكلاب" لميغيل دى ثربانتي
الملخص
تقدم لنا رواية (حوار الكلاب) El coloquio de los perros رحلة استثنائية عبر عيون كلبين ذكيين، ألسنة الحيوانات، تقدم لنا نقدًا لاذعًا للمجتمع البشري. في حواراتها الساخرة، تكشف لنا عن فساد المجتمع وظلمه، وتطرح أسئلة حول طبيعة العلاقات الإنسانية. من خلال تحليل هذه الحوارات، نكتشف أن الكلاب لا تتحدث فقط بل تفكر وتحلل، وتقدم لنا رؤية نقدية لاذعة للمجتمع. وبذلك، تدعونا الرواية إلى إعادة التفكير في قيمنا وسلوكياتنا.
تتجاوز هذه الرواية كونها مجرد قصة مسلية، فهي بمثابة مرآة تعكس لنا المجتمع الإسباني في القرن السابع عشر. من خلال تحليل أدبي دقيق، يمكننا استخراج معلومات قيمة حول التغيرات الاجتماعية والعقائدية التي كانت تشهدها إسبانيا في تلك الفترة. فالأدب، وخاصة روايات ثيربانتس، لا يقدم لنا مجرد وصف للأحداث التاريخية، بل يكشف لنا عن أعماق النفس البشرية والتحيزات الاجتماعية السائدة في عصره.
تسلط الرواية الضوء على قضايا حساسة مثل معاملة الأقليات، مثل الموريسكيين والغجر، وتقدم لنا نظرة عميقة في أعماق النفس البشرية من خلال شخصية الساحرة. فثربانتس لا يكتفي بتقديم صورة سلبية عن الموريسكيين، بل يقدم تحليلًا فلسفيًا لطبيعة الشر وتأثير العادات على السلوك البشري.
ونهتم بدراسة الرواية لأنها تقدم لنا نافذة فريدة على الماضي، وتكشف لنا عن جوانب خفية من التاريخ لا يمكننا الوصول إليها من خلال الوثائق الرسمية. فهي تدعونا إلى إعادة التفكير في الطرق التي نفهم بها التاريخ، وتذكيرنا بأن الأدب ليس مجرد ترفيه، بل أداة قوية لفهم أنفسنا وعالمنا.
كلمات مفتاحية: ثربانتس، فلسفة، الموريسكيين، السحر، الغجر
حوار الكلاب: نباح لفلسفة وتاريخ بين السطور
تقدم لنا رواية (حوار الكلاب) رحلة فريدة من نوعها عبر عيون كلبين ذكيين، ثيبيون وبيرجانثا. يجلس هذان الحارسان الأمينان لمستشفى البعث في بلد الوليد في حوارات عميقة وساخرة، يكشفان لنا عن جوانب خفية من المجتمع البشري. يبدأ بيرجانثا، الراوي الموهوب، بسرد قصته المليئة بالمغامرات والانتقالات بين العديد من الأسياد. من خلال هذه السيرة الذاتية، نكتشف عالمًا مليئًا بالفساد والظلم، ونشهد كيف ينظر البشر إلى الكلاب وكيف يستغلونهم. في المقابل، يقدم ثيبيون تعليقاته النقدية الحادة، مما يضفي على الحوار عمقًا فلسفيًا. يتناول الكلبان موضوعات متنوعة، من طبيعة الصداقة والوفاء إلى معنى الحياة والموت. يسخران من التقاليد الاجتماعية والأحداث الشريرة التي تشهدها بلادهم، ويطرحان تساؤلات عميقة حول العلاقة بين الإنسان والحيوان. رواية (حوار الكلاب)، هو الاسم الذي اشتهرت به الرواية على الرغم بأن لها اسم حقيقي آخر تحت عنوان (الحوار بين ثيبيون وبرجانثا).
لطالما اعتمد المؤرخون في عصرنا على الوثائق الرسمية كمصدر أساسي لفهم الماضي. ولكن، هل هذا يعني أننا نتجاهل كنوزًا تاريخية أخرى؟ الأدب، وخاصة الروايات، يقدم لنا نافذة فريدة على العصور الماضية، ويوفر لنا رؤى وأبعادًا لا يمكن للوثائق الرسمية أن توفرها. إن تجاهل الأدب كمصدر تاريخي يعني تقييد فهمنا للماضي، وحجب جزء مهم من الحقيقة. عندما نتحدث عن عصر حساس مثل «العصر الذهبي»، فإن الأدب، وخاصة أعمال ثيربانتس، يصبح شاهدًا حقيقيًا على روح تلك الحقبة. فهو يعكس بعمق الوعي الاجتماعي والأزمات التي كانت تشهدها المجتمعات في ذلك الوقت، مما يثري فهمنا لهذه الفترة التاريخية بشكل كبير
تتجلى أهمية القرن السابع عشر بشكل خاص عند دراسة التاريخ الاجتماعي وتاريخ العقليات. فالتغيرات الجوهرية في هذين المجالين تستغرق وقتًا أطول من التغيرات السياسية، مما يبرز أهميتها. لذا، فإن فهم القرن السابع عشر من منظور اجتماعي وعقلي يقدم لنا صورة أكثر عمقًا ودقة، خاصة في حالة إسبانيا. العلاقة بين الأدب والمجتمع علاقة تفاعلية متبادلة. فالأدب لا ينعكس فقط الظروف التاريخية، بل يؤثر فيها أيضًا. وبالتالي، يمكننا القول إن هناك «ثقافة موجهة» تتفاعل فيها الأدب والمجتمع بشكل متبادل.
استخدام الأدب كمصدر تاريخي ليس بالأمر الجديد، ولكن غالبًا ما يتم التعامل معه بشكل سطحي، حيث يتم التركيز على الأسلوب الأدبي أو الانغماس في النقاشات النقدية، بدلًا من استخلاص البيانات التاريخية الدقيقة. وهذا ما حدث مع أمثال أميريكو كاسترو وكلوديا سانشيز ألبورنوث، حيث تحولت الدراسة إلى نقاش أدبي تاريخي عقيم، بدلًا من تقديم نتائج تاريخية قابلة للتحقق.
يجدر الإشارة بالذكر أن النقد الأدبي للباروك انقسم إلى اتجاهين رئيسيين: شكلي خارجي وآخر مفهومي داخلي. لكن هذين الاتجاهين، رغم أهميتهما، لا يكفيان لفهم جوهر الباروك. فما يميز هذه الحقبة هو التلازم بين الأسلوب والأيديولوجيا(1) (مجموعة كتاب، 1991: ص 128)، وكلاهما متجذر في سياق تاريخي واجتماعي محدد.
تتجلى السمات الأسلوبية للباروك بشكل واضح في أعمال ثربانتس، ولا سيما (حوار الكلاب). فالباروك عصر يعتمد بشكل كبير على الحواس، حيث يسعى الأدب إلى التأثير على القارئ من خلال الصور الحسية القوية. في الأدب الباروكي، يصل الأسلوب إلى ذروة الحيوية والواقعية، حيث يصبح الشكل جزءًا لا يتجزأ من المعنى.
ولكن الباروك ليس مجرد شكل زخرفي، بل هو وسيلة للتعبير عن رؤى أعمق. كما يقول أورويزكو، فإن الحساسية الباروكية تنتقل «من الظاهر إلى الباطن». (ي. أو. روزكو دياز،1988: ص 28-29)(2) ويشير وولفلين إلى أن الأشكال الفنية تعكس «القيم والمعتقدات السائدة في تلك الحقبة». ويؤكد ويلك على أن الأسلوب الباروكي ليس مجرد مجموعة من الحيل الأدبية، بل هو تعبير عن «روح باروكية» معينة، أي رؤية محددة للعالم. للتأثير على الحواس، يلجأ الأدباء الباروكيون إلى التناقضات والتطرفات. فهم يستخدمون التضاد بكثرة، تمامًا كما يستخدم الرسامون التباين الضوئي. وبهذه الطريقة، يبرزون القيم والمبادئ التي يريدون إيصالها للقارئ.
عند دراسة رواية (حديث الكلاب) لسرفانتس، يجب أن نأخذ في الاعتبار السياق الثقافي الواسع الذي أنتجت فيه. فتصنيف الأعمال الأدبية ضمن فترات زمنية محددة قد يكون مغلوطًا، خاصةً في حالة الأعمال التي تمتد على أكثر من عصر، لا يمكن تطويع الأدب وفقًا لمفهوم القرن، ولا سيما عمل ثربانتس، الذي كُتب بين قرنين، مما يجعله مسألة تقليدية. الباروك، على سبيل المثال، لا يمكن فهمه بمعزل عن عصر النهضة، بل كمرحلة تالية له. فكلا العصرين يشاركان في الرغبة في فهم الإنسان وكينونته، وإن اختلفت الطرق التي عبرتا بها عن هذه الرؤية. من هذا المنظور، يُكمل الباروك رؤية الإنسان التي صاغها عصر النهضة؛ يُظهر الباروك في إبداعاته إرادة في الدمج. من هذا المنظور، والذي لا يتفق معه وولفيلين (ي. أو. روزكو دياز،1988: ص 35) (4)، يعد الباروك استمرارية للفن الكلاسيكي لعصر النهضة وليس نقيضه. (ي. أو. روزكو دياز،1988: ص 35)(3).
كشفت دراسات حديثة عن ثراء الأدب الكلاسيكي كمرآة تعكس عقليات المجتمعات القديمة، لا سيما في مجال القانون والعدالة. ففي قشتالة، مثلًا، تكثر الإشارات إلى الممارسات القضائية في أعمال أدبية متنوعة، من المسرح إلى الرواية والشعر. هذه الإشارات، التي تشمل المحاكمات، وإجراءات النبلاء، والسجون، وغيرها، تمنحنا نظرة ثاقبة على آليات عمل النظام القضائي (أغيليرا بارشيت، برونو، 2006: ص 173-214) (5) في تلك الفترة. فمن ناحية، كشفت هذه الدراسات عن توافق رواية سرفانتس مع التشريعات والقوانين (6) (ريغيز أرانجو، 1955: ص 2731-2774)، السائدة في عصره. ومن ناحية أخرى، سلطت الضوء على وجود ممارسات غير قانونية في الرواية، مما يعكس الواقع المعقد للحياة الاجتماعية في ذلك الزمن.
إن قصر رواية (حديث الكلاب)، مثل بقية الروايات النموذجية، لا يمنع من أن تتيح قراءتها تحليلًا من وجهات نظر متعددة. انطلاقًا من حدث خيالي تعود أصوله الأدبية إلى الأدب اليوناني الروماني، مثل الحوار بين حيوانين، يستخدم ثربانتس سُخريته الدقيقة ليمنح الكلاب فهمًا حادًا وإحساسًا عاليًا بالأخلاق، يتفوق على الشخصيات البشرية المختلفة التي تظهر في السرد (بيليندا رودريغيز أروتشا،2016: ص313)(7).
كما ذكرنا فإن الرواية تعكس الأفكار السائة في اسبانيا في تلك الفترة، وهب نظرة نمطية سلبية عن الموريسكيين، يصف ثربانتس الموريسكيين بأنهم لا يؤمنون بصدق بالدين المسيحي، وأن اهتمامهم الأساسي هو جمع الثروات. يصورهم على أنهم بخلاء جدًا، يجمعون المال ولا ينفقونه، ويستخدمون أساليب احتيال للحصول على الثروة ويصفهم بأنهم بلا عفة، وأنهم يتزوجون ويتكاثرون بشكل مفرط بغرض زيادة ثرواتهم. ويرى أيضًا ثربانتس في الموريسكيين تهديدًا للمجتمع الإسباني، حيث يزعمون أنهم يتكاثرون بسرعة ويستولون على ثروات الإسبان موضحًا:
«من النادر أن تجد بينهم واحدًا يؤمن بصدق بالدين المسيحي المقدس؛ كل اهتمامهم هو جمع وحفظ النقود المعدنية، ولتحقيق ذلك يعملون ولا يأكلون؛ وعندما يدخل المال إلى حوزتهم، إذا لم يكن مزيفًا، فإنهم يحكمون عليه بالسجن الأبدي والظلام الدامس؛ بحيث أنهم يكسبون دائمًا ولا ينفقون أبدًا، يصلون إلى تجميع أكبر كمية من المال في إسبانيا… ليس لديهم خدم، لأنهم جميعًا خدم لأنفسهم؛ لا ينفقون على تعليم أطفالهم، لأن معرفتهم الوحيدة هي سرقتنا. من بين أبناء يعقوب الاثني عشر الذين سمعت أنهم دخلوا مصر، عندما أخرجهم موسى من تلك العبودية، خرج ستمائة ألف رجل، دون الأطفال والنساء. من هنا يمكننا الاستنتاج ما الذي سيضاعف هؤلاء، الذين هم، بلا مقارنة، في عدد أكبر».
من الجدير بالذكر، معرفة من هم الموريسكيون فقد أشتقَّ المصطلح، وهو لفظ «موريسكي Morisco»، والذي ظهر بعد قرار التنصير الذي أصدره الملكان فرناندو الخامس وإيزابيلا عام 1502م، حيث أصبح لفظ «موريسكي» Morisco يدلُّ على مسلمي الأندلس، أو على «المسيحي الجديد الذي كان مسلمًا قبل ذلك»، حيث رغبوا في تنصير كلِّ مسلمي الأندلس بعد امتلاكهم لها (8)
نعتفد أن يشير بيرجانثا إلى أن سيده المورسكي كان يذهب إلى المدينة بحثًا عن فرص جديدة، مما يعكس محاولات المورسكيين للتكيف مع الظروف الجديدة والبحث عن سبل للعيش الكريم. يظهر هنا جانب من المقاومة والصمود لدى المورسكيين، حيث لم يستسلموا للظروف الصعبة بل سعوا للتكيف معها.
نستلخص أن بالنسبة لثربانتس، يشترك المسيحيون والموريسكيون والسود، كما يتضح من الرواية، في الميل إلى السرقة. كما يسلط الضوء على ذكاء الغجر وعاداتهم المميزة، وينتقد طموح الموريسكيين، ويرى فيهم مجموعة سكانية تشكل مشكلة وتتكاثر بسرعة، تعكس روايته النموذجية، بفكر ميغيل دي ثربانتس عن التحيزات السائدة في عصره تجاه الأقليات العرقية(9) (غارسيا كارسل وآخرون، 2004).
ومن ناحية أخرى، يعرض لنا ثربانتس شخصية أخرى مهمشة وهي الساحرة، تمثل الرواية لنا نظرة عميقة في أعماق النفس البشرية، وكيف تتداخل العادات والملذات مع الإيمان والأخلاق. من خلال شخصية الساحرة، يقدم لنا ثربانتس دراسة فلسفية عميقة حول طبيعة الشر، وعلاقة الإرادة الحرة بالقدر، وتأثير الملذات على الروح. تشير الشخصية إلى أن العادة المتكررة للذنب تصبح جزءًا لا يتجزأ من طبيعتنا، تمامًا كما يتحول السحر إلى دم ولحم. هذه الفكرة تتقاطع مع فلسفات قديمة وحديثة حول تشكيل العادات للشخصية. وتعاني الشخصية من صراع داخلي بين رغبتها في التوبة والعودة إلى الله، وبين جاذبية الملذات التي أصبحت جزءًا من حياتها. هذا الصراع يعكس التوتر الدائم بين الرغبات العقلانية والرغبات الجسدية. تربط الشخصية بين الملذات والضعف الروحي. فهي ترى أن الانغماس في الملذات يؤدي إلى تصلب القلب وتغيب الإيمان. هذه الفكرة تتوافق مع العديد من الفلسفات الدينية التي تحذر من مخاطر الشهوات. وعلى الرغم من وعي الشخصية بذنوبها، إلا أنها تشعر بالعجز عن التغيير.
تغوص رواية (حوار الكلاب) في أعماق اللغة والمعنى، مستخدمة حوارات الكلاب كمرآة تعكس انعكاسات المجتمع البشري. ففي عالم حيث الكلاب تتحدث، تتكشف طبقات من المعنى تتجاوز الكلمات الظاهرة. من خلال تحليل أدبي دقيق، حاولنا كشف أن هذه الحوارات ليست مجرد حكايات مسلية، بل هي فلسفة عميقة تتناول قضايا وجودية واجتماعية. فالكلمات التي تنطقها الكلاب تحمل في طياتها دلالات خفية، تعكس قيم المجتمع وتكشف عن تناقضاته. وبذلك، تدعونا الرواية إلى التعمق في فهم اللغة والبحث عن المعاني المستترة خلف الكلمات. تدعونا إلى التفكير في أنفسنا وفي العالم من حولنا. تطرح سؤالًا فلسفيًا كلاسيكيًا: لماذا يرتكب الناس الشر؟ هل هو نتيجة لعيب في طبيعتهم، أم هو نتيجة للظروف المحيطة بهم؟ ويطرح أيضًا تساؤلات حول العلاقة بين الإيمان والأعمال الصالحة، وكيف يمكن أن يكون الإيمان حقيقيًا إذا كان مصحوبًا بالنفاق. ومسألة الإرادة الحرة والقدر، وكيف يمكن أن يشعر الإنسان بأنه أسير لعاداته وأفعاله.
المراجع:
(1) María Antonia Bel Bravo Miguel, Luis López Muñoz (1991). “VIDA Y SOCIEDAD EN LA ESPAÑA DEL SIGLO XVII A TRAVÉS DEL «COLOQUIO DE LOS PERROS» DE CERVANTES”, Anales Cervantinos, vol. 29
(2) E. OR.ozco DIA.z) 1988(, Introducción al Ba.rroco. Granada, vol. I.
(3) نفس المرجع، ص 35
(4) المرجع نفسه
(5) Aguilera Barchet, Bruno (2006): «El derecho en el Quijote. Notas para una inmersión jurídica en la España del Siglo de Oro», Anuario de Historia del Derecho Español
(6) Rodríguez-Arango Díaz, Crisanto (1955): «El matrimonio clandestino en la novela cervantina», Anuario de Historia del Derecho Español
(7) Belinda Rodríguez Arrocha(2016). “DELITO Y MORAL EN EL COLOQUIO DE LOS PERROS”, Instituto de Investigaciones Históricas, Universidad Nacional Autónoma de México
(8) ميكل دى أيبالثا(2005)، الموريسكيون في اسبانيا وفي المنفى، ترجمة: جمال عبدالرحمن، المشروع القومي للترجمة.
(9) García Cárcel, Ricardo (dir.) (2004): Los olvidados de la historia, Barcelona: Círculo de Lectores, 3 vols.
عدد التحميلات: 1