
جيل دولوز: نظرة أخرى إلى الفلسفة
هيئة تحرير: كيستيون دو فيلو
ترجمة: طارق غرماوي
يعتبر جيل دولوز (Gilles Deleuze) من أكثر الفلاسفة المعاصرين إثارة للجدل، ومن أكثرهم إغراءً بالقراءة. وفكره المتفرد، الذي غالبًا ما ينظر إليه كفكر غامض، يستحق أن نسبر عوالمه، ونفك ألغازه ومغالقه.
لا مرية في أن جيل دولوز يظل أحد الفلاسفة الكبار في القرن العشرين، ولكن أعماله ليست معروفة إلاَّ في نطاق ضيِّق إذا قارناه بمعاصريه من الفلاسفة. إن ما يثير العديد من الأسئلة المختلفة حول فلسفة الرجل مرده إلى صعوبة اختزال فكره، وإلى ترسانته المصطلحية التي لا تسلس قيادها إلاَّ بعد الكثير من التجربة والمران.
فإذا كان قد وسم الفلسفة المعاصرة بأعماله، فإن جملة تسمح بالانتباه إلى طموحه الفكري في كتابه: (ألف هضبة Mille Plateaux) حيث كتب: «إن الجسد بلا أعضاء بعيد المرتقى، صعب المنال، متعذر على الاختراق، إنه حد». إن دراسة جيل دولوز معناه أن ترتاد عالمًا جديدًا، تصنعه عُدَّة مصطلحية جديدة.
مثقف مولع
نشأ جيل دولوز في كنف عائلة بورجوازية باريسية يقضي إجازاته في منتجع «دوفيل Deauville». ولهذا السبب حصل على منحة، وهو في سن المراهقة، للدراسة بهذ المدينة خلال الحرب؛ فهي أكثر المناطق أمنًا مقارنة بالعاصمة. وفي ربوعها ولِه الأدب. ومع بداية 1941، عاد إلى باريس حيث خالط أسماء لامعة في عصره: غي موكير(Guy Moquer)، وميشيل تورنيي (Michel Tournier)، ومشيل بيتور (Michel Butor). كما بدأ يهتم بالفلسفة والتحليل النفسي.
والظاهر أن فكر سارتر وقراءة أعماله هما ما شغل دولوز في هاته المرحلة. فمؤلَّف (الكائن والعدم L’Etre et le Néant) كان فكرًا جديدًا يأخذ باهتمام هذا الطالب في عصر شديد الاضطراب. ولكن الأستاذ أخلف ظنَّ التلميذ. وسرعان ما شغل انتباهه فكر «هنري برغسون Henri Bergson» الذي أمتعه وفتنه. وقد تميز دولوز بنبوغه في المدارس التحضيرية للأدب بفرنسا (Khâgne)، رغم معاناته، منذ طفولته، من مشاكل في جهازه التنفسي ضايقته باستمرار.
وقد حصل على شهادة التبريز في الفلسفة. وفي العام 1948 أصبح أستاذًا للفلسفة. ويشهد المعجبون به والمنتقدون له على حد سواء أن أعماله كانت، بحق، أعمالًا مجدِّدة.
مؤرخ الفلسفة
طالما اعتبر الدارسون جيل دولوز مؤرخًا للفلسفة أكثر منه فيلسوفًا، والحقيقة أن تاريخ الفلسفة استهواه كثيرًا. ومع نهاية سنوات الخمسينيات وبداية الستينيات، انعقدت بينه وبين الفيلسوف «ميشيل فوكو Michel Foucault» علاقة صداقة متينة. كان كاتبًا مُقلاّ إلى غاية هاته اللحظة، ولكن سرعان ما سيصبح مؤلِّفًا غزير الإنتاج. وقد أهدى أعماله الأولى إلى فلاسفة وكتاب، ولكنه نشر كتابات تقدم فكرًا شخصيًا أصيلًا. وكان دولوز ابن عصره منشغلًا بالإشكالات التي تثار في محيطه الثقافي، واشتهر بدعمه للطلبة في العام 1968 حيث كان حينها أستاذًا بـ «ليون Lyon». وانشغل بالسياسة التي ميزت كتاباته الفكرية، وبما أنَّه كان منغمسًا في قضايا عصره، فإنه سيبقى متخصِّصًا في تاريخ الفترة التي عايشها.
فيليكس غاتاري وجيلير سيموندون
من غير الممكن أن نتحدث عن جيل دولوز دون أن نذكر اسم «فيليكس غاتاري Félix Guattari» الذي يوصف، بنوع من المبالغة، بأنه توأمه الروحي، لأن للرجلين فكرًا متكاملًا أكثر منه متطابقًا. فقد أقر دولوز نفسُه أنه مدين بالكثير لغاتاري الذي كان له تأثير قوي في مقاربته. كان غاتاري محللًا نفسيًا، وفيلسوفًا، ومناضلًا في صفوف اليسار، ومجندًا على الدوام للدفاع عن الأقليات، ولا يتردد قيد أنملة في اتخاذ مواقف غير تقليدية. كان غاتاري أحد ثوار ماي 1968، ومناصرًا لحركة المذياع الحر، ومُنافحًا عن ترشح الفنان الكوميدي «كوليش Coluche» في رئاسيات 1981، وهو أيضًا من أنصار البيئة. والبئية، بالنسبة لغاتاري، متعددة الوجوه فهي طبيعية، واجتماعية، وعقلية.
وكان جيلبير سيموندون «Gilbert Simondon» حاصلًا على التبريز في الفلسفة، شأنه شأن جيل دولوز، كرَّس حياته للبحث والتعليم، وشارك في مهام لتحسين أوضاع السجناء والأطفال المحرومين. ومن المثير أنه انشغل بمشاكل الفلاحين الأجراء، ولعل ما يدعو للاستغراب أكثر أنه ظل مهتمًا بالأضواء الأماميَّة غير الساطعة للسيارة. كان سموندون رجلًا يسكنه الفضول، وقد قربته من دولوز قضية «الفردانية individuation» والتحول «transduction».
فكر بالغ الثراء
كان دولوزفيلسوفًا مبدعًا ومفكرًا حقيقيًا. فقد أبدع العديد من المفاهيم الفلسفية بسطها في مؤلفاته المختلفة. ورغم أن الأجل المحتوم وافى فيلسوفنا في العام 1995، عن سن تناهز السبعين سنة، فإن مؤلفاته ما فتئت تثير العديد من الدراسات التأويلية وذلك بسبب ما يكتنفها من غموض. فهو ينطلق من وجهة نظر المؤرخين، ومن مقدمات سبق لسلفه أن عكفوا عليها بالدراسة قبل أن يصل إلى نظريات مغايرة تمامًا.
إنَّ الإنسان، في نظر دولوز، ليس كائنًا يبحث عن الحقيقة، وليس حتى كائنًا ذكيًا ومتعقلًا بالضرورة، وفي معظم الأحيان، يتطلع إلى طرح أسئلة ليست جديدة على الإطلاق. أمَّا الفلسفة فليست الدواء المعجزة الذي يسمح بطرح المشكل وإيجاد الحل أو الفرضية. ففي الواقع إنَّ الإنسان هو، باستمرار، بين هذين العنصرين: في خضم الاندفاع وفي خضم الفعل. لماذا؟ لأن «الأنا» هي «الآخر»، على الدوام، والتفاعلات بين البشر تجعل من الإنسانية في صعود ونزول.
مؤلَّفٌ مفصلي: ضد عقدة أوديب

أو بالأحرى كتاب: (الرأسمالية والشوزيفرينيا) الذي ظهر في مرحلة ما بعد 68 ولقي نجاحًا منقطع النظير. لقد اعترض دولوز في هذا الكتاب على نظريات «سيجموند فرويد Freud» و «كارل ماركسMarx»، وفيه يرى، بمعية فيليكس غاتاري (المؤلِّف بالاشتراك)، أن مقاربة فرويد ضيقة الأفق بسبب اقتصارها على المحيط الأسري. من هنا يأتي العنوان الفرعي: ضد عقدة أوديب. وتُتَّهم نظريات فرويد، أيضًا، بالإبقاء على الإنسان تحت التأثير من خلال فهم الإنسان عبر إحباطاته التي يمكن أن يشعر بها في الطفولة وهو ما يترتب عنه، بالنتيجة، لعبة البورجوازية ولعبة نظام اجتماعي وسياسي اضطهادي.
إنَّ التحليل النفسي والدِّين يقومان بدور متطابق ينعته البعض بعامل التوازن الذي يصنع السلام الفردي و المجتمعي. ولكن هذا الأمر، بالنسبة لجيل دولوز، لا يسهم إلا في قتل الرغبة ويتيح سلوكًا سلبيًا لا غير أمام مختلف الأغلال التي تمارس على الأفراد طوال مسار الحياة. أمَّا الأنظمة، وخاصة النظام الرأسمالي، فهي لا تعمل إلاَّ على قمع الرغبات الحقيقية. إنَّ دولوز، وهو يقترب من سيبينوزا في هاته الفكرة، كان منشغلًا بثورة 1968 وإخفاقها. فالبنسبة إليه، وبالنسبة إلى غاتاري أيضًا، لا يمكن للثورة إلاَّ أن تكون فردية، وثورة أقليات. وقد توسع الباحثان في هاته الفكرة في كتاب: (ألف هضبة Mille Plateaux)، وفي فترة لاحقة كتبَا: «afka ,Pour une littérature mineur»، و«?Qu’est-ce que la philosophie».
وإذا كان مؤَلَّف (ضد عقدة أديب) قد خلف أصداء في الأوساط الفكرية، فإن السبب يعود إلى كونه كتابًا مستفزًا على مستوى الشكل والمضمون. فقد كان الأسلوب مستفزًا لعدد كبير من القراء، وذلك منذ الصفحات الأولى من خلال ألفاظ بذيئة. ولكن لا ينبغي أن نثق بظاهر الأمور، فنحن أمام تحليل للرغبة، وليس ضمن مسار «السلام والحب peace and love» الشائع خلال فترة الستينيات.
معجم دولوزي
لقد كان لنظريات دولوز وغاتاري صدى واسع جدًا، إلى الدرجة التي عرفت فيها في الولايات المتحدة بـ «النظرية الفرنسية French Theory». ولفهم هذا الفكر الجديد لا بد من الإلمام بالجهاز المصطلحي الذي بلوره جيل دولوز من قبيل:
الجذمور Rhizome
نحن نعرف المعنى الأول لهذه الكلمة التي تعني ساق نباتية تشكل مخزون غذائي لنبتة توجد في معظم الأحيان تحت الأرض، أو تحت الماء. يتميز الجذمور بخاصيته الأفقية (فهو ينتشر بشكل أفقي). وقد استعمل دولوز الكلمة في الحقل الفلسفي، وذلك لوصف نموذج غير هرمي، يغيب فيه المركز، يؤثر فيه كل عنصر في الآخر، دون أن تكون له سلطة عليه. فالجذمور يمكن أن يكون ساقًا، أو غصنًا، أو جذرًا، وعلى غراره يمكن للنظام المعرفي أن يتطور عن طريق التشعب.
هذا الجذمور في معناه الحقيقي كما في معناه المجازي يعني، مع ذلك، الصلابة، لأنه يجتمع في أمكنة. فهو يشكل ما يسميه المؤلفان: «الهضبات Plateaux». فالبنية الأفقية، في نظر دولوز وغاتاري، تسمح بمناهضة النموذج التراتبي الكلاسيكي والقمعي، سواء في المجال المعرفي أو في مجال علم النفس.
المجال الأملس والمحزز
ظهر هذا المصطلح لأول مرة في «ألف هضبة Mille Plateaux». إنَّ المَجال المحزَّز هو، على نحو ما، المعيار، فهو مجال مؤطر، ومُسمَّى يسمح بتحديد مسارات معينة. إنَّ السكن هو مكان محزَّز لأنَّه محدَّد بقطع أرضية. أمَّا المجال الأملس هو عكس المجال المحزَّز، إنَّه الفضاءات الأرضية الخالية ، سهوب الشرق، أو السكن المنتقِل الذي يتحرَّك فيه المرتحِل بحسب مشيئته. إنَّه مكانٌ مفتوح يشعر فيه الإنسان، إلى حدٍّ ما، بحرية جسده.

تتضمن هذه المفاهيم، بالنسبة لدولوز وغاتاري، أنظمة: ففي الحالة الأولى، يتبنين التنظيم في شكل أفقي، بينما في الحالة الثانية يكون نموذج الفكر حرًا وشاملًا دون أن يكون مكبلًا من قِبلِ المؤسسات. المجال الأملس غير محدد جغرافيًا (déterritorialisé)، وهذا مفهوم مهم في معجم المُؤَلِّفيْن.
وإذا طبقنا هذه المفاهيم على النظام الرأسمالي، لا ينبغي أن نرتكب الخطأ فنعتقد أنه نظام يندرج ضمن المجال المحزَّز. بل على العكس من ذلك ينتقل النظام الرأسمالي كالإنسان المُرتَحِل، والشركات العملاقة تخلق مجالات ملساء خاصة بها. وعلى المنوال نفسه، يمكن أن نؤكد أن الأنترنت، هو الآخر، مجال أملس، خارج الحدود، يظهر ويتلاشى في كل لحظة خلافًا لوسائل الإعلام التقليدية.
مجتمعات الرقابة
يعبر مفهوم مجتمع الرقابة، لدى جيل دولوز ولدى فلاسفة معاصرين آخرين، عن الكيفية التي ينتظم بها العالم، وههي فكرة مستوحاة من «ميشيل فوكو Michel Foucault» ودراساته حول المؤسسات الإصلاحية. تتم مراقبة الأشخاص، في المجتمع الجديد، بكيفية آنية عن طريق وسائل الاتصال وغيرها. فلم يعد من الضروري أن نسجن بعض المرضى، فقد صار من الأفضل متابعتهم، ومراقبتهمن دون إقصائهم. إنه ترسانة جديدة تتسم بمرونة كبيرة، تسمح بإجراء مراقبة حقيقية.
هذه بعض الأمثلة المحدودة على الجهاز المصطلحي، والمنظومة الفكرية للمفكر الفرنسي جيل دولوز الذي يعرض أمام انظار قرائه عالمًا بالغ الثراء، وأفكار ثورية ومعقدة.
نهاية تراجيدية
اختار جيل دولوز في شهر نونبر 1995 أن يفارق الحياة عندما ألقى بنفسه من النافذة. فمنذ صباه كان يعاني من مرض في جهازه التنفسي. وكان في بعض الأحايين يثير فكرة «جسد بلا أعضاء corps sans organe» التي تطرق فيها إلى هذا الموت العنيف. بينما تجسد هاته الفكرة المبدأ الذي بموجبه ينبغي للجسد أن ينفتح وألاَّ يبقى عبدًا لباطنه، وليس في ذلك أي نزوع مرضي.
لقد أبرز دولوز فكرة كون الحياة مسار حقيقي للتقويض، بالنسبة للجسد على أقل تقدير، ولكن ليس بالنسبة للحياة كحياة. يصف دولوز نفسه بأنه «رجل إحيائي»، وهو يجيب على ذلك مسبَقًا: «التجريب الإحيائي، عندما تستحوذ عليك محاولة في هدم ذاتك، وقد يتم ذلك عن طريق مواد مساعدة، أو واخزة مثل التبغ والكحول والمخدرات. إنها ليست انتحارية…فالفعل الانتحاري هو خلاف الترابط، إنه فك الترابط المنظَّم».
لقد وُصِف موتُ الرجل بأنَّه «آخر فعل للحرية، والممكن الأخير»، ذلك لأن دولوز في نهاية المطاف لم يكن قادرًا على العيش إلاَّ بواسطة مساعدة طبية ميكانيكية على التنفس، وقد اشتد عليه المرض الذي لم يرج منه الشفاء.
من الصعب أن نقرأ أفكار جيل دولوز الذي قال عنه ميشيل فوكو «إنه في يوم من الأيام، من الممكن، أن يصبح القرن دولوزيًا». وإحدى هاته الصعوبات أن كتب جيل دولوز لا تمثل مؤَلَّفًا منسجمًا كما نجد عند الفلاسفة الكلاسيكيين. إن كتبه تختلف في الواقع عن بعضها إلى درجة يصعب معها أن نرسم مسار الرجل الذي يربك الكثير من القراء والكثير من الطلاب، ولكنها مع ذلك لا ينبغي أن تثبط عزيمتنا. وهاته الخاصية دفعت بعض النقاد إلى القول عن فكره أنه كان دائمًا «غامضًا»، وفي بعض الأحيان «مضللًا» ومباغتًا.
المصدر:
– QUESTION de PHILO, N 014, JUIN- JUILLET-AOUTE ,2019
عدد التحميلات: 0