العدد الحاليالعدد رقم 45ثقافات

“ماذا علّمتني الحياة؟” للكاتب والمفكر جلال أحمد أمين

عن الحبّ، والدفاتر، والسير التي لا تنتهي

من المذهل أن يتاح لك قراءة سيرة ذاتية لحياة شخصية عظيمة رفيعة الشأن تقصّ قصتها وتحكي عن نفسها وتخبرك بانطباعات ومواقف وآثار مرت بها، ثم تُوفق لسيرة أخرى بقلم ابنه وقد أُتيح له فيها الحديث عن والده وعن أحلامه وطموحاتها وآرائه في الحياة وموقف أبيه من هذا وذاك.

هذا الكتاب هو سيرة ذاتية للكاتب والمفكر ومدرس الاقتصاد الكبير جلال أحمد أمين، ثامن وآخر أبناء المفكر الراحل وصاحب السيرة الذاتية الأكثر من رائعة (حياتي): أحمد أمين، يورد الكاتب سطورًا قليلة للتعريف بنفسه وقصة مقدمه إلى هذا العالم، ثم التعريف بإخوته جميعًا لما لهم من أثر عليه طوال حياته، يكتب الكاتب لنا هذا الكتاب وهو قد تجاوز السبعين من عمره، هكذا تطغى على السيرة الذاتية تأملات لا حصر لها في كل مرحلة من حياته.

لا أدري أَميزه هي أم عيبًا أن تجد الكاتب هنا يتحدث بصراحة عن أمه وأبيه، في كتابه حياتي لم يعِبْ أحمد أمين قط أي خُلُق لزوجته بل على النقيض أثنى على تربيتها لأولاده وحرصها على الادخار من ماله وأرجع الفجوة بينهما إلى قلة حديثه وروحه التي لم تعرف المرح والرقة وهفوات الحب يومًا وإن عرفتْ الود والرحمة وحسن العشرة، هكذا فوجئت بكل ما خفي عنا يفتضح على لسان ابنهما، لأجد أنها كانت شديدة الحرص على المال أشد خبثًا ودهاء من زوجها وتصر على تسجيل الفيلا الراقية باسمها فلا يتردد الزوج في تنفيذ طلبها ليس خنوعًا ولكن عرفانًا منه لشريكة عمره، وتبُاهي بما ليس لها فلا يعلّق وتتحدث دون غضاضة عن قصة حب قديمة ماتت وعفا عنها الزمن فلا يردد حديثها أبدًا ولا يصل قط مسامعنا، هذا التغاضي والسكوت عن الأخطاء لم يزد أحمد أمين في عيني إلا إكبارًا ومعزة.

كنت في صف المتوسط ولا أذكر أيها تحديدًا حين عثرتُ على دفتر كبير بغلاف جلدي وصفحات زرقاء في مكتبة أبي، كان الدفتر فيه الكثير من التدوينات التي سجلها أبي حفظه الله في بدايات زواجه بأمي، بعض الأفكار والخربشات والحب الجلي لأمي ولبناته الثلاث الكبراوات، راعني وقتها جمال أسلوبه الذي لم أكن أراه إلا في الروايات وبين صفحات الكتب واكتشفت كم كان بمقدور والدي أن يخرج من جلده كاتب مخضرم بحق، أحببت كثيرًا الصفحات التي يسجل فيها محبته لأمي أو بعض الذكريات من طفولة شقيقاتي، اليوم أجدني أتساءل بجزع عن مصير هذا الدفتر وإلى أين وصل مآله خاصة بعدما هجرنا شقة الطفولة تلك وارتحلنا جميعنا في أرض الله الواسعة.

لكن ما فعله جلال أمين من نقل تدوينات والده الخاصة جدًا عن أمه في بدايات زواجهما لم أستطع إلا أن أستنكره وتأنف منه نفسي، إذ ليس بمقدوري إلا أن أتصور أنه كانت تدوينات شديدة الخصوصية بوالديه لم يشأ ولم يجرؤ أن يطلع أحد عليها، ناهيك عن العالم أجمع!

وقد تكون أعظم فائدة لكتابة سيرتك الذاتية عن نفسك عن حياتك أنت دون غيرك، عن بواعث أفعالك ومداخيل أفكارك وأخلص وأصدق وأسر أمانيك، هي أن يقرؤها من بعدك بنوك ويفهمون شيئًا مما كان يعتمل في نفسك وتمر به أعمق مشاعرك دون أن يكون في مقدورك التعبير عنها أو التبسط معهم إلى حد هذه الفضفضة الرحبة دون قيود.

لماذا من المؤنس تمامًا ان تقرأ سردًا طويلًا لشخصيات عرفها الكاتب ويأخذ بتحليلها واحدة فواحدة؟ على الرغم من أنك لم تعرفهم قط بل هم جميعًا قد سبقوك أزمنة عديدة، ربما ببساطة لأنك قطعًا ملاقيهم أنت أيضًا، طريقك متقاطع وطرقهم لا محالة، ذلك لأن الناس يشبه بعضهم بعضًا ويتكررون عبر إحداثيات الدهر مرارًا وتكرارًا.

ولا يزال يدهشني ويشعرني بالأسى وببعض الرثاء لأجلنا جميعًا نحن السابقون واللاحقون كم نتشابه جميعًا إلى درجة مفزعة ومخيفة أحيانًا، حتى الحب الذي نقع ف حبائله متشابه جدًا، حتى الكراهية الأولى والخوف الأول والأشواق الأولى والأحلام هي هي ذاتها بكل دقائق تفاصيلها!

قد توضع بذرتك، قطعة من روحك، مصغرٌ يمثل رؤاك وأفكارك في واحد فقط من دست أبناء أنجبتهم! هذا ما لاحظته منذ زمن طويل في وإخوتي حفظهم الله حيث لم نكن كلنا قطعًا بنا شبهًا لأبي وأقلنا شبهًا بأمي حفظهما الله وهكذا كانت بذرة أحمد أمين ممثلة في آخر العنقود، العجيب أنه كان مصرًا على ألا يأتي هذا الابن إلى الدنيا، حيث كان قد اكتفى على ما يبدو بالسبعة أبناء الذين سبقوه، لكن والدته وحيلها كانا أقوى من إصرار أبيه.

في مستهل هذه السيرة ذكر كاتبها أنه قد كتبها على مراحل وأنها كانت مقاطع لا ذيل لها من رأس تُكتب فجأة وتتوقف فجأة وأنها كانت تسجيل لكثير من الذكريات التي تخطر للكاتب أو المواقف ذات الأثر العظيم في نفسه التي استحال عليه نسيانها، وأثناء قراءتي استطعت تبين هذا بوضوح فالتسلسل عبارة عن شخصيات ومواقف متتابعة يذكرها الكاتب ثم يضعها في مكانها المناسب بين الرفوف، ربما لهذا جاءت صادقة وواضحة وبسيطة إلى هذا الحد.

في كثير من المرات شعرت أنني إنما أقرأ شقة الحرية لغازي القصيبي خاصة في المرحلة الجامعية التي أسهب الكاتب في وصفها، ذات الشباب والأحلام والتطلعات والأحزاب والاجتماعات وطموحات الصبا التي تُشعرك أنها قادرة على التحليق بصاحبها، وأن العمر طويلٌ طويل لم يزل، وأن كل ما سوف يكون ممكنًا، ثم نكبر ثم ننضج ثم نكتشف أن ما كانت هذه الأجنحة عدا وهم!

عندما كنت في مصر تعرفت على عالم جديد هو عالم الدروس الخصوصية وكان من عادة كل مدرس خصوصي أن يوزع على طلابه ما يسمى بالملزمة وعلى الطالب شرائها مرغمًا، عندما فتحت كل الملازم وجدتها لا تتعدى على أن تكون تدريبات وتمارين مختلفة مجمعة معًا بين صفحتي غلاف واستغربت عدم وجود أي ابتكار أو لمسة شخصية وبرغم ذلك يسمى هذا الكتاب مؤلَّفًا! هكذا يحكي لي جلال أمين الحكاية من أولها وقصة أول ظهور لما يدعى بهذه الملازم وكيف أن أساتذة الجامعة اعتادوا استغلال طلابهم عبر إلزامهم بشراء كتاب من تأليف أستاذ المادة، ولمّا كانت الكتب لا تتوفر كاملة في بداية المنهج نظرًا لأن الأستاذ لم ينتهي منها بعد اخترعت هذه الملازم التي تطبع شهرًا بشهر، بادئين بذلك وباء جديد انتشر كالنار وبقي للأسف من بعدهم.

كان من دواعي سروري في هذا الكتاب التعرف أكثر على المفكر الكبير أحمد أمين، هذا الرجل الذي قدم للعالم كتابًا رائعًا عن العقلية الإسلامية هو فجر الإسلام وضحاه وظهره، أحببت التقرب أكثر من حياته وسماع أفكاره وأحاديثه مع بنيه ورؤية نظرته للعالم عن قرب، كما أنه كان من دواعي أسفي كذلك معرفة كم ابتعد عن طريق الدين خلال حياته، بحسب جلال أمين لم تكن مظاهر الدين وشعائره قط ظاهرة في بيت أحمد امين، لا رمضان ولا عيدي الفطر والأضحى ولا صلاة ولا قيام، هذه الملاحظة من جانب الابن آلمتني بشدة، بل أكثر بدا وكأن قلبي انفطر لها، لقد كان الجد والد أحمد أمين مؤمنًا راسخ الإيمان لا يزعزع يقينه وتوحيده مصيبة أو نازلة، وهكذا ربى أبنائه، في منتصف الطريق، تأثر أحمد أمين كثيرًا بالانفتاح الأوروبي الغربي والفكر الحديث وشتى صنوف العلم العلماني، وأقول علماني لأن العلم قط لم ينفِ الدين بل على العكس هذان الاثنان يقوي بعضهما بعضًا لكن لكلّ متأمل ذو بصيرة، ماذا أقول! لستُ مخولة قطعًا لإصدار حكم أو القطع برأي، غير أني أظن أن هذا الكاتب الكبير والمفكر العظيم قد تاه في منتصف الطريق وانشغل بمنعطفات وحواري فرعية كثيرة ونسي الطريق الأساسي، حينما استبدّ به المرض في شيخوخته التي لم تكن طويلة بحال وفقد بصره بالكلية أو كاد بكى أحمد أمين وأصابه هم وحزين فظيعين بل وكان ينفجر أحيانًا في البكاء مثيرًا بذلك دهشة أسرته التي ما عهدته إلا صلبًا راسخًا! إن المصائب ثقيلة على النفس في كل الأحوال غير أن الإيمان يهونها اليقين بعوض الله يزرع في القلب راحة ويسبغ على الروح وقار لا يتأتى إلا لمن هيأ له الله هذه النفس الصبور المطمئنة.

كان الكاتب يتحدث عن الكتب اللانهائية التي قرأها عن علم الاقتصاد، وعن الروايات والمسرحيات الثقافية ومقطوعات بيتهوفن التي لطالما حرص على سماعها، وكيف كان من الواجب على الإنسان المثقف المتحضر أن يمارس كل هذه العادات: القراءة والمسرحيات والموسيقى الراقية، قبيل أن أصل إلى خاتمة الكتاب تريثتُ قليلًا حتى أفرغ من بعض مشاغلي، أردت أن أقرأ نهاية كلماته دون عجل وبتأني، وجال ببالي وقتها خاطر بأن كل هذه الممارسات والقراءات ليست ذات نفع كبير إن كانت ذو منفعة أصلًا، وأن كل كتّابها ما هم إلا بشر أصابوا فيما أصابوا وأخطأوا فيما أخطأوا، القراءة لهم متعة وترويح عن النفس، لكن إن فاتك شيء منهم فلم يفتك الكثير، وعندما أكملت قراءتي راعني أن الخاتمة احتوتْ ذات هذه الأفكار للكاتب، قال أنه ما كان عليه أن يكون بهذه لجدية وهذا التصميم في تقفي آثارهم، وأن قليلًا جدًا من الكتب الاقتصادية هي التي أفادته عن حق، وأنه حتى رسالة الدكتوراه لم تكن ذات نفع عظيم له اللهم إلا في مساعدته الحصول على مهنته بالتدريس في الجامعات طوال حياته، وأن كل أصحاب هؤلاء الكتب ما هم إلا بشر في نهاية المطاف!

ثم يتحدث الكاتب عن الحزن والخيبة اللذان يصيبان الإنسان في نهاية عمره، «ما سرّ هذا الحزن الدفين والهم اللذين كنت ألا حظهما على أبي قبيل مماته؟!»، وأنه حتى والدته وقد كانت بشوشة ضاحكة أصابها ما أصاب والده من هذا الحزن العميق، وأنه وهو في السبعين من عمره قد وقع له ذات الشيء وإن كان بدرجة أخف قليلًا، هذا السرّ الصغير الذي أفضى لنا به الكاتب فتح كالجرح أشنع مخاوفي، وهو أن نمضي كل أعمارنا نتتبع الخطوط التي يرسمها لنا المجتمع حتى نفاجأ ونحن على حافة القبر أنّا ما اتّبعنا إلا سرابًا! كنت أفكر أنه لو اشتغل الكاتب بحفظ القرآن وتأمّل معانيه لوصل إلى كثير من الإجابات التي أعيته بحثًا بين الكتب، وأن الدين الذي فرّط فيه وأسقطه على حافة الطريق هو أهم وأعظم نفع فاته تحصيله، ليس فقط للإجابات التي أجزم إنه كان عاثرٌ عليها، بل أيضًا لأن روحه ونفسه افتقدت كل أنسها وخلاصها ورواحها بفقد هذا الدين، أسأل الله الثبات بحق، وأن يردنا دومًا، مهما تهنا وتشتت بنا الطرق، إليه ردًا جميلًا.

في نهاية الكتاب ملحق بصور تتلاحق عبر حياة الكاتب تترا، هذه الصور القديمة بكل ما ينضح فيها من حياة، ابتسامات، أشخاص وذكريات، زفاف وولادات، أبناء وأحفاد وأبناء الأحفاد، حياة تنسلخ منها حياة، وكل حياة حقيقية للغاية، قريبة فوق كل تصور، تشبهنا كثيرًا، بل تكاد تكون قصتنا ذاتها، كل قلوبنا وأفراحنا ومخاوفنا وتأملاتنا وأفكارنا، أخذتُ أتأمل الوجوه في كل صورة، تكاد تتنفس، تكاد تفتح فمها وتحكي لي أسرارًا عبر أثير الزمن، تكاد تقول تذكروني، لا تنسوني، كنتُ ذات يوم، ذات حين من الزمان هنا، مثلكم تمامًا.

أخيرًا أنوه أن هذه ليست سيرة ذاتية بالمعنى الواضح المقصود، بل هي كما ذكر الكاتب تجميع لمواقف شتى وشخصيات كثيرة أثرت في الكاتب وشكلت فكره ونظرياته وخلاصة فهمه للدنيا ودهاليزها وغموضها، يوردها لك الكاتب علّك تستفيد، علك تدرك كم أن الزمن يعيد نفسه، وكم يعيد التاريخ دورانه مرة وأخرى، نفس الأسرار والأساليب والخبث والمكائد، كل شيء قديم عدا البشر، وحدهم هم حديثون جدًا، ساذجون جدًا، مبتدئون جدًا في هذا العالم القديم جدًا.

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى