العدد الحاليالعدد رقم 45ثقافات

فن الكلام في التربية النبوية 2

لفن الكلام دور محوري في التعامل الناجح مع الناس؛ وفي التربية النبوية يشكل فن الكلام وحسن التعامل وكسب القلوب القدح المعلى والحظ الأوفر، بل يمثل قمة الرقي في التعامل البشري على مر العصور في تاريخ البشرية.

1 – التعامل مع الإعرابي

الحديث ثابت في الصحيحين (أن رجلًا أعرابيًا دخل المسجد فبال في طائفة المسجد فزجره الناس، فقال النبي ﷺ: لا تزرموه) أي: لا تقطعوا، والإزرام: القطع، أي لا تقطعوا عليه بوله.

ورواه أيضًا البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: لما هموا به قال: لا تزرموه، ونهاهم أن يتعرضوه وقال: إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، فلما فرغ الأعرابي من بوله أمر النبي ﷺ أن يصب على بوله سجل من ماء يعني: دلو من ماء واكتفى بذلك

وفي رواية أبي داود: أن أعرابيًا دخل المسجد ورسول الله ﷺ جالس فصلى ركعتين، ثم قال : اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدا، فقال النبي ﷺ: لقد تحجَّرت (أي ضيقت) واسعًا، ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد، فأسرع الناس إليه، فنهاهم النبي ﷺ وقال: إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، صبوا عليه سَجْلا من ماء) رواه أبو داود.

وفي رواية الترمذي: دخلَ أعرابيٌّ المسجدَ، والنَّبيُّ ﷺ جالسٌ، فصلَّى فلمَّا فرغَ قالَ اللَّهمَّ ارحمني ومحمَّدًا ولا ترحمْ معنا أحدًا فالتفتَ إليهِ النَّبيُّ ﷺ فقالَ: لقد تحجَّرتَ واسعًا فلم يلبثْ أن بالَ في المسجدِ فأسرعَ إليهِ النَّاسُ فقالَ النَّبيُّ ﷺ أهريقوا عليهِ سَجْلًا من ماءٍ أو دلوًا من ماءٍ ثمَّ قالَ إنَّما بُعثتُم ميسِّرينَ ولم تبعثوا معسِّرينَ.

فدل ذلك على ضرورة الرفق بالجاهل وعدم العجلة عليه، وأن المسلمين بعثوا ميسرين لا معسرين، وأن الرفق بالجاهل من التيسير وأن الشدة عليه من التعسير.

وأن الماء يزيل النجاسة بمجرد إراقته على النجاسة إذا كانت لا جرم لها أي ليس لها جسم، فالماء إذا أريق عليها وهو أكثر منها كفى، كالدلو على بول الأعرابي كفت وأنه لا حاجة إلى أن يحجر على ذلك أو إلى أن ينقل التراب بل يكفي صب الماء عليه ويطهر بذلك.

ومن فوائد ذلك: أن المفسدة الكبرى تدفع بارتكاب اليسرى، وأن المصلحة العظمى تحصل ولو فاتت الدنيا كما سأل عنها السائل، ووجه ذلك: أنهم لو استعجلوا في كفّه ومنعه من البول، لربما تطاير بوله في أماكن كثيرة، فربما نجّسَ نفسه ونجّسَ بدنه وثيابه، هذا مع تشتت النجاسة في المحل وكثرتها وتبددها، وربما نفر من الإسلام وكره الدخول في الإسلام، هذه مفاسد كبيرة، وكونه يكمل بوله ثم يصب عليه ماء أسهل كونه يكمل البول ثم يصب عليه الماء ويعلم بالرفق هذا أنفع وأسهل، أقل نجاسة وأقل ضرر وأقرب إلى تأليف قلبه وإلى محبته لإخوانه المسلمين وإلى دخوله في الإسلام ورغبته في الإسلام.

وهكذا فما يترتب على الشدة عليه وتنفيره من الإسلام ومن إخوانه المسلمين وتعدد النجاسة هي مفسدة عظمى تركت بارتكاب الدنيا وهي تركه يكمل بوله، هذه مفسدة صغرى تركت وارتكبت لأن ذلك أسهل من العنف عليه والشدة عليه.

وقال النووي: (وفيه الرّفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيفٍ ولا إيذاء، إذا لم يأتِ بالمخالفة استخفافًا أو عنادًا، وفيه دفع أعظم الضررين باحتمال أخفهما).

  1. لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم

شاب من أصحاب النبي -ﷺ- اسمه “عبد الله” كان يحمل بين جنبيه روح خفيفة، ومداعبة، كان كثيرا ما يمازح النبي ﷺ، جاء في بعض الروايات وكان يُضحك النبي ﷺ، وكان هذا الشاب كثيرًا ما يقدم الهدايا لرسول الله -ﷺ-، بل ربما استدان لشراء بعض الهدايا للنبي ﷺ، وما ذلك إلا لشدة محبته للنبي ﷺ.

من صور ممازحته مع النبي ﷺ: أنه ذات يوم اشترى طعاما بثمن مؤجل، فأهداه للنبي ﷺ، ثم بعد مدة جاء صاحب الطعام يتقاضاه، فأخذ “عبدالله” بيد الرجل صاحب الطعام، وذهب إلى النبي ﷺ، وقال: يا رسول أعطي هذا ثمن طعامه، فتبسم النبي ﷺ، وجعل يقول: ألم تهديه لنا؟!” ثم أمر بإعطاء الرجل ماله.

بقي أن نعرف أن “عبدالله” هذا الصحابي الذي أحب محمدا ﷺ، ومازحه كثيرًا، وأدخل السرور على قلبه، قد ابتلي بشرب الخمر، فأقيم عليه الحد، ليس مرة واحدة، بل مرات عديدة، خرج “عبد الله” مع المسلمين في غزوة خيبر، ولما فتح المسلمون حصونها، كانت تلك الحصون لليهود، وكانت فيها الخمور بكثرة، فأريقت تلك الخمور، وضعفت نفس “عبدالله”، هذا الصحابي أمام الخمر، فشرب منها، فحمل إلى رسول الله ﷺ، فأمر ﷺ بإقامة الحد عليه.

قال أبو هريرة: “منا الضارب بيده، ومنا الضارب بنعله، ومنا الضارب بثوبه” فقال رجل من الصحابة: “اللهم ألعنه ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي ﷺ: (لا تلعنوه، فو الله ما علمت منه إلا أنه يحب الله ورسوله، ولا تكونوا عون الشيطان على أخيكم، ولكن قولوا: اللهم اغفر له).

  1. سوء الفِعال لا تمحي مواقف الرجال (قصة حاطب بن أبي بلتعة)

وروى البخاري عن علي يقول: بعثني رسول الله ﷺ أنا والزبير والمقداد فقال: (انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها).  فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب. فقالت: ما معي كتاب. فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب. قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله ﷺ، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين، يخبرهم ببعض أمر رسول الله ﷺ، فقال: (يا حاطب، ما هذا؟) فقال: يا رسول الله، لا تعجل عليّ، إني كنت امرأ مُلصَقًا في قريش – يقول: كنت حليفا ولم أكن من أنفسها – وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله ﷺ: (أما إنه قد صدقكم). فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: (إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله قد اطلع على من شهد بدرا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).

فأنزل الله السورة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) سورة الممتحنة، الآية:1.

وقد ذكر السهيلي أنه كان في كتاب حاطب: (إن رسول الله ﷺ قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل، وأقسم بالله لو سار إليكم وحده لنصره الله عليكم، فإنه منجز له ما وعده).

وهذا يشبه مقولة: (ارحموا عزيزَ قومٍ ذلّ …)

وهو من الأمثال المتداولة الجميلة ويطلق على من أصابته تقلبات الدهر، ودعته الحاجة للناس؛ فبعد أن كان عزيزًا ذا مال وجاه، صار خالي الوفاض (أي لا يملك شيئًا).

وقصة المثل مشتقة من حديث نبوي ضعيف (وإن كان معناه صحيحًا):

أرسل رسول الله ﷺ جنده إلى طي، بقيادة على بن أبى طالب رضي الله عنه، ففزع زعيمهم عدي بن حاتم الطائي، وهرب إلى الشام، وكان حينها من أشد الناس عداوة لرسول الله، وأخذ الجندُ الغنائم والخيل والنساء، وأسروهم، وعادوا بهم إلى رسول الله ﷺ.

وكان من بين الأسرى سفانة بنت حاتم الطائي، والتي وقفت بين يدي الرسول وقالت: يا محمد، لقد هلك الوالد، وغاب الوافد، فإن رأيت أن تخلي عني، ولا تشمت بسيد أحياء العرب. فأن أبي كان سيد قومه، يفك العاني، ويقتل الجاني، ويحفظ الجار، ويطعم الطعام، ويفرج عن المكروب، ويفشي السلام، ويعين الناس على نوائب الدهر، وما أتاه أحد، ورده خائبًا قط، أنا بنت حاتم الطائي.

فقال رسول الله ﷺ: والله هذه أخلاق المسلمين، لو كان أبوك مسلمًا لترحمنا عليه، وقال اتركوها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، وفك أسرها هي، ومن معها، إكرامًا لخصال أبيها، وقال ﷺ:

(ارحموا عزيزًا ذلّ، وغنيًا افتقر، وعالمًا ضاع بين جهال -وفي رواية: وفقيها يتلاعب به الجهال أو: وعالمًا يلعب به الحمقى والجهال).

فيقال إنها لما سمعت بذلك، دعت له، وعادت إلى أخيها عدي بن حاتم الطائي، وأخبرته عن كرم الرسول وعفوه. وأنه أرق الناس خصالًا، يحب الفقير، ويفك الأسير، ويرحم الصغير، ويعرف قدر الكبير، وليس هناك أجود منه، ولا أكرم، فلما سمع بذلك عدي، أدرك أن الإسلام مثل نبيه؛ يدعو لمكارم الأخلاق.  فقدم إلى الرسول ﷺ، هو وأخته سفانة، وأسلما بالله عزوجل، فكانت رحمة النبي بهما، هي السبيل لهديهما، صلوات الله عليه وعلى آله أجمعين.

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى