
النص المترابط في ضوء السيميوطيقا بين فعل الإبداع وجمالية التلقي
بدأ الحديث مؤخرًا في ضوء المتغيرات الثقافية التي رسمت ملامحها الرقمية بتقنياتها الثورية المتلاحقة عن النص المترابط Hypertexte أو الأدب التفاعلي بحكم طبيعة العلاقة التي بدأت تتأسس بين الخطاب والمتلقي متجاوزة حدود الأنساق التقليدية التي دأبت عليها الكتابة الخطية في العالم الورقي حيث بدأ التداخل القوي بين الصورة والنص مع ما قد يرافق ذلك من مؤثرات سمعية وممارسات تقنية عبر إقحام روابط تمكن القارئ من ولوج عوالم أخرى من المقروء، فقد أرغمت التقنية الإنسان المعاصر على التحول من قارئ ورقي إلى قارئ للنص المترابط، مثلما تمامًا غير سيرورة التاريخ نسق الشفاهية في الثقافة الإنسانية التي كانت ظاهرة في المحكي الأسطوري والخرافي والسيري وغيرها من ألوان المشافهات التي مارسها الإنسان عبر التاريخ إلى مدونات كتبت ووثقت الفعل الثقافي بمختلف تمظهراته الفكرية والفنية والإبداعية، فها هو التاريخ يعيد نفسه اليوم في عالم مشحون ومزدحم بالتقنية الثائرة متجها نحو صناعة نصية جديدة.
إن تشكيل النص المترابط لم يفقد عراه بالطقس الإنتاجي القديم فقد تشكل هذا المقوم الفني في إنتاجات فكرية وأدبية مختلفة سطرته الحواشي والهوامش التي تحيل على مفاهيم وقضايا ومرجعيات مختلفة يفرضها النسق المعرفي للخطاب مثلما يحتملها المقام التداولي، ومن هنا يبدو أن جدلية الإبداع والتلقي ظلت تعتمل في الممارسة الثقافية وفق منظورات تتباين بين المؤلفين، مما جعل النص المترابط جزءًا من الفعل الإنتاجي الذي لم تخل منه الثقافة العربية على امتداد تاريخها، وهو ما رسخته اليوم الرقمية التي فرضت وجودها على القارئ واضطرته عبر ممارساتها التقنية وإمكاناتها المترابطة إلى التفاعل مع الفضاء الشبكي لما أصبح يتيحه من إمكانات كبيرة في الامتداد والانفتاح على أشكال خطابية معانقة عبر مناصاتها الداخلية والخارجية، الشكلية والمضمونية، إذ إن تعدد الروابط مكن القارئ من التعامل مع النص بشكل مختلف عما دأب عليه أثناء الممارسة القرائية الخطية في الأنساق التقليدية، ولعل هذا الاختلاف يكمن بدرجات كبيرة في إتاحة الحرية للقارئ من أجل التعامل مع الروابط التي يختار منها ما يشاء داخل النص الواحد والتفاعل بشكل أكبر مع هذا المنتج في الوقت الذي كان فيه سالكًا لنسق أحادي في النصوص الخطية.
لقد أتاح النص المترابط تفاعلاً أكبر بين المنتج الرقمي والقارئ، صحيح أن الورق الإلكتروني ما هو إلا صيغة رقمية جديدة ولدت من رحم التكنولوجيا أساسها الأول الكتاب الورقي لكن كيفية التقديم وطرق الإحالة وتوظيف الأيقونات والرمز والصورة بتشكلاتها المختلفة يخلق نوعًا من التنوع في استقبال المادة المعرفية، وهو عناصر خلق التفاعل في أعمق صوره وبسيناريوهات متحررة بخلاف النص الخطي الذي كان يجبر قارئه على سلوك نسق واحد من بدايته إلى نهايته فيجره بإيقاعية واحدة قد تصيبه أحيانًا بالرتابة والإحساس بالنمطية التي تفقده الرغبة في القراءة، إن النص المترابط أو الأدب التفاعلي حاك نسجًا جديدًا في بنيته عبر العلامات السيميولوجية التي شكلها إضافة إلى علاماته اللغوية التي تؤسسها الكلمة بوجهيها الدال والمدلول وما يتولد عنهما من دلالات وإيحاءات تظل افتراضية في العالم الرقمي بحكم تعدد القراءات التي يمارسها القارئ الرقمي كلما فتح الحاسوب فطالع هذا الموقع أو ذاك، بما يتيحه العالم الرقمي من تنوع في الروابط وصور تقديم المقروء الذي يتداخل فيه الصوت والمقطع والرابط والتشكيل البصري رمزًا وصورة وإيماءة وأيقونة بما تحمله الصورة من قوة تعبيرية وإيحائية قد تغني عن العلامة اللغوية أحيانًا، لذلك فالمنتج الرقمي وهو يدرك اليوم قيمة البصري والسمعي اجتهد عبر التطبيقات المتاحة والتقنيات المساعدة على تأثيت الفضاء الشبكي بكل أشكال المؤثرات خلقًا للتفاعل المنشود لأن حركة النص أصبحت أقوى من حركة القارئ في اتجاه النص الذي فقد شيئًا من السلطة التي كان يمارسها على قارئه في النمط الخطي، كما أتاحت الرقمية للقارئ أن يمارس نوعًا من القراءة المتقطعة عبر القفز على أجزاء من النص ويقف عند ما يعنيه وما يثيره أكثر في المقروء، وقد يكون هذا القفز نتاجًا لما يعترض طريقه أثناء القراءة من الكلمات/الأزرار التي تكتب بألوان مختلفة ومجرد الضغط عليها ينقل القارئ إلى محتوى معرفي آخر قد يكون مرتبطًا بالمقروء أو يسبح به في متاهة قرائية أخرى تكون أكثر إثارة له أحيانًا، كنه يستطيع العودة سريعًا إلى ما كان منهمكا في قراءته من قبل، فهذا التجاوز المسموح به أثناء ممارسة فعل القراءة منح القارئ الرقمي نوعًا من التحرر وجعله ممتلكا للسلطة في الاختيار والتصرف بل وإنتاج النص وتحيينه في كل مرة تعاد فيها القراءة التي تأخذ صبغة شبكية متجاوزة النسق الخطي المألوف ومن هنا فإن طبيعة تلقي النص المترابط تظل نائية عن الخطية ويسمها الانفتاح على نصوص غائبة أو سابقة تتعانق معها بغض النظر عن طبيعتها الأجناسية وتيماتها، مثلما تسمها الحركية والتفاعل الدينامي مع العلامات المشكلة للنص عبر الروابط التي ترفق في مواضع خاصة قد تنقل القارئ إلى مقروءات أخرى، أو الكلمات التي أشرنا إليها بالأزرار لأنها تصير طريقًا معبدًا نحو عوالم أخرى وهنا بدأ الكلمة في فقدان جوهرها اللساني لتتحول إلى بعد وظيفي معلوماتي، وهي بذلك تخضع لفعل التنشيط من قبل القارئ مما يضفي على القراءة بعدها التفاعلي المتحرك بعيدًا عن الجمود الذي يسم لقراءة الخطية، وإن تميزت هذه الأخيرة بثبات البنية التي يحكم فيها القارئ قبضه على التشكيل البنيوي للنص المقروء من حيث قع المراحل والأشواط التي يرسم مسارها في الكتابة فيكون البدء والاختتام ما بينهما من مفصلات واضحي المعالم، بخلاف العالم الرقمي الذي يصيد القارئ داخله ويبحر به في عوالم تغدو متاهات يضيع فيها القارئ الرقمي فيفقد عرى القراءة ويعيش نوعًا من التفكك الذي يزداد حدة عن ممارسة الفراءة المعزولة والمتقطعة الشذرية حيث تتحول القراءة بهذا النمط إلى لعب يمارسه القارئ يصرف فيه كل همه تجاه الوسائط والروابط وآليات انتظامها والأيقونات والرموز والمؤشرات وما شابه هذه الأشياء التي تحول انتباهه عن الخطاب بعده اللساني اللغوي وهنا يظهر دور السيميولوجيا في تناول قضايا العلامات باعتبار تنوعها الوظيفي وأشكالها الصورية في العالم الرقمي برفقة النص المترابط.
إن الكلمة باعتبارها علامة لغوية تتشكل من رموز كما ذهب إلى ذلك “بيرس” تفقد كنهها اللساني في النص المترابط وتتجرد من وظيفتها اللغوية وحمولتها الدلالية باعتبارها وحدة معجمية حينما تخضع للتنشيط فتتحول إلى مجرد زر يدخل القارئ إلى متاهات جديدة تبعده في الغالب عن المقروء، وبذلك فهي تفتقد تلك العلاقة الاعتباطية بين الدال والمدلول فتصير وظيفتها من نوع إعلامي لا غير فتخرج من سياقها التواصلي ليضمحل دورها التعبيري والتواصلي والشعري أحيانا مادام أن وضعها بلون مغاير أو كتابتها بخط مضغوط أو غير ذلك مما يحيل على اعتباريتها (الخارج لغوية)، أما الصورة بمكوناتها السيميائية رمزًا وإشارة وأيقونة فإن حضورها بالموازاة مع النص المترابط قوي لما تلعبه من دور إيضاحي وتعبيري وإيحائي وتخييلي مستفيدة من تطور التطبيقات والتقنيات الحديثة في هذا المجال، ولعل هذا التنوع في الأبعاد القائم على عرض المادة والكتابة الشبكية وممارسة المتلقي تخلق هذا البعد الدياليكتيكي بين الإنتاجية والتلقي المتفاعل حيث تلتقي الكتابة مع القراءة في آن واحد وكأنها تستجيب لذلك النزوع البنيوي الذي ألح عليه بارث حينما تكلمت بنيوته عن موت المؤلف وضرورة ممارسة فعل الكتابة أي فعل الإنتاج والإبداع حينما نمارس فعل القراءة، وإن بدا ظاهريًا أمن المتلقي في النص المترابط يظل طافيًا على واجهة المقروء لا يتغلغل إلى العمق الجمالي والفني إلا أنه عبر تلك التقطعات والدينامية يحقق تفاعلاً حقيقيًا مع النص، بل إنه يمارس نوعًا من إعادة تشكيل النص الورقي الذي ظلت ذاكراته تخزن أنماطًا كثيرة منه فيعيد بهذا الفعل تركيبه أمام شاشة الحاسوب وكأنه يعيد تاريخ الكتابة من جديد من حيث لا يدري وهذا أمر لا يستطيع الكتاب الورقي أن يصنعه مع القارئ.
إن السيميولوجيا ـــ اليوم ـــ باعتبارها دراسة لأنظمة العلامات وقوانينها مطالبة وبإلحاح بدراسة النص المترابط في ضوء ما يستجد في العالم الرقمي من علامات بصرية وإشارية وأيقونية ورمزية دون أن تحاول إسقاط السيمائية من النص الخطي على النص المترابط لأن ذلك سيكون بلا جدوى وسيفقد التحليل السيميائي عمليته أو أنه سيخضع النص المترابط باشتراطاته لمنطق النص الخطي وهذا أمر لا يمكن القبول به في التحليل العلمي لأنه سيظل هروبًا إلى الوراء في الوقت الذي نحتاج فيه السير بخطى ثابتة نحو الأمام وبتواز مع التطور الرقمي في العالم.
عدد التحميلات: 0