العدد الحاليالعدد رقم 43ترجمات

في باريس بدون قوة، بدون مال، بدون حب…

في باريس بدون قوة، بدون مال، بدون حب…

حول غيورغي فيكتوروفيتش آداموفيتش (1892 – 1972)

ترجمة: أ. د. تحسين رزاق عزيز

 

الموضوع الرئيس في كتب ومقالات غيورغي فيكتوروفيتش أداموفيتش – الأدب الروسي في المنفى. إذ كان أحد أولئك الذين فكروا كثيرًا في مصير الأدب الروسي. وقد ترك بصماته واضحة في الأدب الروسي، وأصبح مبدعًا في الشعر الذي امتاز بنغمة روسية غربية خاصة، سُمِّيَت «المذكرة الباريسية»، «مذكرة آداموفيتش».

أسيرُ، تحت السماء السوداء غير المرئية،

على الجليد الرقيق الأول،

من دون أنْ ألتقي بأيّ شخص في أيّ مكان،

ومن دون أنْ أتذكر الطريق.

فأرى نهرًا عريضًا،

وظلاً أسودَ على حصان،

وما نسيته روسيا،

عندئذ تعود إليَّ ذاكرتي، فأتذكر.

التركيز على الأهم، ونبذ كل شيء لا لزوم له، والولاء للثقافة الروسية، والوعي برسالة المَهْجَر، وفِهم نسبية الأدب ومطلقيَّة الأخلاق، والحرية الروحية – هذه هي سمات إبداعه. عاش آداموفيتش في الغرب مدة نصف قرن، لكنه ظلَّ منشغلاً بالموضوعات الروسية. ومع كونه غربي النزعة ومتذوقًا للأدب الأوروبي، استجابة لنداء روحه ظل في دائرة الموضوعات الروسية. ليس الندم على الضياع هو الشيء الرئيس بالنسبة له، بل شيء آخر تماماً، أشد أهمية للإنسان.

ليس ثمة نصيبًا ألذّ – من أنْ تفقدَ كلَّ شيء.

ليس ثمة مصيرًا أشدّ بهجة – من أن تصبح جَوّالاً،

ولم تكن في أيّ وقتٍ أقربُ إلى السماء،

مما أنتَ عليه هنا،

في باريس…

بعد أنْ تعبتَ من الملل،

وتعبتَ من التنفس،

من دون قوة، من دون مال،

من دون حب.

أصغى الكثيرون إلى كلمات آداموفيتش. فقد تحدث عنه فاسيلي يانوفسكي، بوصفه ناقدًا ومُبدعًا «لِجَوٍّ أدبيٍّ حقيقي»2  في الخارج. وفي مقالة تحمل القليل من المجاملة بعنوان «نهاية آداموفيتش»، وصفه غيورغي إيفانوف بأنه أول ناقد في المهجر. هكذا يتذكر فيها حيَّ مونبارناس (في باريس) قبل الحرب: «مقهى “المنزل” أو مقهى “القبة” ما يقرب من عشرين إلى خمسة وعشرين شخصًا… على طاولات مقتربة من بعضها البعض وفي وسط هذه الشلّة الصاخبة آداموفيتش… كانت سلطة آداموفيتش آنذاك على جماعتنا “الناشِئين” أبناء سن الأربعين غير محدود تقريبًا… أقوى حكم تعسفي ينطق به آداموفيتش يُسَلِّم به أتباعه والمعجبون به الكثيرون تسليمًا أعمى، كأنه قانون»3. واليوم، بعد مضيّ عدة عقود، هل نفهم تلك «السلطة»؟ فالكلام هنا على كل حال عن الشعر والنثر اللذين نَشَآ في جو من الحرية الإبداعية. فمن أين يأتي هذا النوع من التأثير؟

*    *    *

تفاصيل مغادرة آداموفيتش عام 1923 من روسيا إلى فرنسا غير معروفة. ومع ذلك، من المعروف أنه في ظل تلك الظروف عَدَّ الهجرة «نجاحًا ميتافيزيقيا». تزامنَت هجرته، في الوقت، مع بداية النضوج الإبداعي لديه، ومع ازدهار قواهُ الروحية. فقد بلغ آنذاك سن الحادية والثلاثين. بقيت خلفه روسيا، وبطرسبورغ الحبيبة إليه، وشيء غامض، لا يُنسى إلى الأبد – أسماه:

شُعلَةٌ خفيفة،

ليس لها اسم.

في وقت لاحق، في المقالات، وفي الشعر، وفي النثر القصصي، عاد إلى موضوعة بطرسبورغ:

عشر سنوات مضت، ونحن لا نستطيع،

أنْ نتذكرها أو ننساها.

ستمر ألف سنة، ولن تتكرر مرة أخرى.

لن يعود ذلك أبدًا.

كانت على وجه الأرض ثمة عاصمة واحدة،

والباقي كلها – مجرد مدن.

وقد تحدثت عن السعي إلى وحدة الموضوعِ القصيدةُ التي افتتح بها مجموعته الشعرية الأخيرة:

تبرزُ من خلال النكوص والتكرار،

بدون ألوان، وتقريباً بدون كلمات،

الرؤيةُ الوحيدة،

مثل القمر من وراء السُّحب.

على الرغم من كثرة أعماله الأدبية، ظل آداموفيتش كاتبًا لعدد قليل من الموضوعات التي درسها بجد وتوصّل إليها بشق الأنفس، أحدها كان موضوع بطرسبورغ، الذي شكَّلَ في نهاية المطاف أساس «المذكرة الباريسية» الشهيرة. بوصفه كاتبًا، ربطه ببطرسبورغ الشيء الأهم. عندما كان طالبًا في المدرسة الثانوية، رأى أنينسكي هناك. فأحب إلهامه التراجيدي. واكتشف ألكساندرَ بلوكَ، الذي أصبح بالنسبة له إلى الأبد المتحدث باسم الجيل الذي نشأ بين الثورتين (ثورة 1905 وثورة 1917). في بطرسبورغ، انضم آداموفيتش إلى جماعة «ورشة الشعراء»، وارتبط بعلاقة صداقة مع الأكميّين4 ، وصار ينشر في مجلة «أبولون» وفي المجلات والإصدارات الجماعية الأخرى. وقد تجاوبَ غوميلوف، الذي أسماهُ آداموفيتش معلمه، مع إصدار مجموعته الشعرية الأولى «غُيُوم» (يناير 1916). كتب غوميليوف مراجعة ثاقبة لـمجموعة «غيوم»، وفي نهاية المراجعة، قال على نحو غير مباشر: العنصر الأفضل الذي يحمل الأصالة حقًا في هذه القصائد هو «صوت التوتر»5. وفعلاً، أشد ما ميّز آداموفيتش آنذاك وفيما بعد، سواء في الشعر أو في النثر – التنغيم الخاص به، الذي لا يوجد عند أحد غيره. وعلى عكس القول المأثور المعروف، يعتقد آداموفيتش أنَّ الإنسان ليس الأسلوب، أو ليس الأسلوب بقدر ما هو التنغيم والإيقاع والصوت الفردي. هل يمكن أن نسمي آدوموفيتش الأُسلوبيَّ المُمَيَّز؟ على الأرجح – كلا. لكنه – شاعر وكاتب مقالات أدبية وجد تنغيمًا استرجاعيًا تأمليًّا حزينًا. وقد عبَّرَ في ذلك التنغيم، كما في عدد من الموضوعات المفضلة، عن نظرته الأصيلة للعالم بنجاح. الصورة المركزية في الكتاب الأول – هي الغيوم. كرمز، بقيت هذه الصورة مع آداموفيتش إلى الأبد. وقال عنها: «أفكارنا الحقيقية حول شيء ما مهم لدرجة ما وتجريدي، في معظمها تشبه الغيوم؛ فهي متموجة وغير مستقرة وقابلة للتغيير. ظلَّ أداموفيتش يتذكر على مضض كتابه الأول. ووفقاً لاعترافٍ لاحق، قال إنه نشره «من أجل متعةِ شابٍّ أحمق» بامتلاك مجموعة شعرية خاصة به6.

«المَطْهَر»، الذي صدر قبل وقت قصير من هجرة آداموفيتش، مع «ملاك فولوغدا» (قصيدة ممتازة عن موضوعة «روسية المقدسة») يتضمن القصائد التي كتبها في الحقبة من 1916 – 1922. نشر بعضها عدة مرات في المَهجَر، على سبيل المثال، القصيدة المعروفة عن مهمة الشاعر ومصيره، التي ظهرت في البداية في مجموعة «المَطْهَر»، ثم في المجموعات التي صدرت في المَهجَر. فيما يأتي المقاطع التي عدَّها الكثيرون أفضل ما قدمه آداموفيتش:

وربما في سن الشيخوخة سوف يسعفك الوقت،

كي تنطق خمسة أو ستة مقاطعَ عشوائية بمعنى ما.

*    *  *

وسوف تجتازُ تلك المقاطع بموسيقى خافتة

عبر البلاد والبحار الأرضَ الحزينةَ.

كل شيء قيل في النبوءة هذه دقيق: الشُّح الشعري (نشر 130 – 140 قصيدة خلال عمره كله)، أسلوب الكتابة (نطق كلمات عشوائية بمعنى ما)، وازدهاره الإبداعي في الشيخوخة (شهادة إيرينا أودينتسوفا وكُتَّاب السيرة الآخرين)، والموسيقى «الخافتة» (الكلمات التي يستخدمها بالمعنى الذي يقصده بلوك).

تنتمي خطابات آداموفيتش الأولى، بوصفه ناقدًا، إلى مدة ما قبل الهجرة أيضاً. فقد نشر عددًا من المقالات في الإصدارات الأدبية المشتركة لجماعة «ورشة الشعراء». وعندما انتهى المطاف بأعضاء هذه الحلقة، نيكولاي أوتسوب وغيورغي إيفانوف وإيرينا أودينتسوفا، في الغرب، بدأوا في إعادة نشر إصدارات الورشة المشتركة. وقد احتوت على مقالات آداموفيتش عن ألكساندر بلوك وعن أنينسكي وعن القافية، بالإضافة إلى مقال ذي مغزى بعنوان «تعليقات». ومنذ ذلك الحين، بدأت خواطره ومُدوَّناته ومسوداته وتأملاته ومقالاته الصغيرة المسماة «تعليقات» تظهر في صحافة المَهجَر: في مجَلَّتَي «أرقام» و «تجارب» ثلاث مرات، وفي «المذكرات الحديثة» مرتين، ومرة واحدة في «الدائرة». والكتاب الذي صدر تحت ذلك الاسم نفسه قد جمعه ليس من هذه الإصدارات وحدها. إذ لم تُضَمَّن بعض «التعليقات» الصحفية في الكتاب الذي يحمل الاسم نفسه. وبدلاً عن ذلك، تضمَّن الكتاب العديد من المقالات الأدبية المنشورة في المجلات تحت تسميات أخرى: «تبرير المسودات»، «من دفتر الملاحظات»، «من دفتر عتيق» وغيرها. وهذا جدير بالذكر، لأنَّ منذ «عودة آداموفيتش إلى روسيا – من خلال الشعر» قيل عنه الكثير من الترّهات. هاكَ انظر، على سبيل المثال، تصريح أحد المؤرخين الأدبيين: «في عام 1967، صدر في واشنطن كتاب “غيورغي آداموفيتش. التعليقات”، الذي جمع فيه الناقد والمُنظِّر الأدبي فيكتور كامكين مقالات آداموفيتش حول تطور أدب المَهجَر». كل شيء هنا ليس صحيحًا، بدءً من حقيقة أن فيكتور كامكين ليس ناقدًا أو مُنَظِّرًا أدبيًا، بل مالك مخزن لبيع الكتب؛ في وقت ما، بالإضافة إلى تجارة الكتب، كان كامكين يسوّغ لنفسه كذلك تحمل نشاط نشر كتاب متواضع. كما تضمنت «التعليقات» مقالاً واحدًا «مخصصًا لقضايا التنمية» وهو «الشعر في المَهجَر». كان مُعِدّ الكتاب هو المؤلف شخصيًا، ولم يكن لكامكين أي علاقة على الإطلاق باختيار المواد وتجميعها. ولكن مع ذلك، فإن النقطة المهمة هي أننا عندما نقول «آداموفيتش»، نتذكر «تعليقاته».

هكذا، بدأ مسار آداموفيتش، خريج كلية التاريخ والفيلولوجيا بجامعة بطرسبورغ والناقد المستقبلي، في «ورشة شعراء» غوميليف. كانت الخطوات الأولى في التأليف الأدبي واعدة، لكنها بَعدُ متقطعة. وتُلاحَظُ فيها مهارة الأكميين. وخلفها تُرى «كُتُب الانعكاسات» التي ألَّفها إينوكينتي أنينسكي، و«رسائل في الشعر الروسي» لنيكولاي غوميلوف، و«عصر الجمال» بأكمله، حسب تسمية غيورغي إيفانوف لسنوات ما قبل الثورة من «العصر الفضي». بعد مغادرته في الربيع من عام 1923 إلى فرنسا، حيث تعيش والدته وأخته وعمته (مالكة فيلا في نيس)، اعتقد آداموفيتش أنه سيعود إلى روسيا في غضون نصف عام لا أكثر. ولكنه اتخذ قرارَ عدم العودة في جنوب فرنسا. ففي أغسطس (آب) من عام 1923 ذهب آداموفيتش إلى باريس بدلاً من بتروغراد (بطرسبورغ).

*    *    *

ماذا رأى آداموفيتش في الغرب، بعد أن استقرت به النوى في فرنسا «المشرقة باللامبالاة»؟ نظرته ثاقبة ووعظية. في أوروبا، بسبب تنوع التقاليد الثقافية والحياتية، تكوَّنَ لدى الوافد الجديد انطباع بأن الفوضى سائدة في الحياة. في ظل غياب المبادئ التوجيهية، وفي ظِلّ هذا الانجراف في القيم، بدا أنَّ «الحياة تتخطى الوعي، من دون أنْ يُتاح للمرء ليس فهمها فحسب، بل وحتى التمعّن فيها»7. عكست كلمات آداموفيتش هذه تجربته الخاصة. فشخصيته التي تكونت ووعَت في روسيا ما قبل الثورة، لم تتلاءَم مع معايير الغرب الحديث. «في روسيا، كان آنذاك لا يزال ممنوعًا الحديث عن تفكك الشخصية. ولكن هنا من الواضح جدًا، والشرعي جدًا من منظور الحتمية التاريخية، أنَّ المشهد يجعل رأس المرء يدور…»8 فحتى «تفكك الذرة» – الصفعة الشهيرة في وجه الذوق العام لغيورغي إيفانوف، – تتحدث في جوهرها عن الشيء نفسه – عن اضطراب الشخصية، التي صار الشاهد عليها الإنسان الروسي في الخارج: «… مستقبل العالم القريب مشوه تشويهًا كبيرًا في عيني. لكن هذا هو الشيء الوحيد الذي أقدِّره، الشيء الوحيد الذي لا يزال يفصلني عن قبح العالم المستهلِك لكلّ شيء»9. وكثيرًا ما قال آداموفيتش إنَّ أوروبا كانت ولا تزال فاتنة بالنسبة للوعي الروسي، مضيفًا على الفور أنها «من خلال روسيا فقط يمكن أن تكون فاتنة»10.

في عام 1923، افتُتِحَت صحيفة «الحلقة» اليومية في باريس، التي تحولت فيما بعد إلى مجلة. تعاون النقاد كونستانتين موتشولسكي وفلاديمير فيدلي ونيكولاي باختين وأندريه ليفينسون ودميتري سفياتوبولك – ميرسكي معها بدرجات متفاوتة من الشدة. بعد أسابيع قليلة من وصوله إلى باريس، بدأ آداموفيتش ينشر في «الحلقة». ظهر المنشور الأول في عدد 20 سبتمبر (أيلول). بفضل «الحلقة» بالذات أصبح آداموفيتش ناقدًا معروفًا. المقالات الأولى – عن شعراء بطرسبورغ، مقالات أدبية منفصلة عن إينوكينتي أنينسكي وميخائيل كوزمين. تبع ذلك دراسات وصفية عن المهاجرَين – كوبرين وبونين… وفي الوقت نفسه، نُشرت «تعليقاته» تحت الاسم المستعار سيزيف. جذب اسم آداموفيتش الانتباه، لا سيما بفضل «الحوارات الأدبية» التي نُشرت بانتظام من ديسمبر 1924 حتى 1928، أي حتى إغلاق المجلة. وفي وقت وجودها، أصبح آداموفيتش «الناقد الأكثر قراءة وتأثيرًا في المهجر»11. «بالحوارات الأدبية» افتتحَت العديد من أعداد «الحلقة». يتألف موضوع «الحوارات» من أربع طبقات: حول الأدب الروسي في الخارج، والأدب الروسي الكلاسيكي، والأدب السوفيتي، والأدب الأوروبي الغربي. استنادًا إلى هذه الدراسات، وكذلك المقالات التي ظهرت لاحقًا كل خميس تقريبًا في مجلة «آخر الأخبار»، يمكن للمرء إعادة بناء تاريخ شعر المهجر في حقبة ما قبل الحرب. في «الحلقة» كتب عن قصائد أغنيفيتسيف وفاديم أندرييف وبالمونت وبوجنيف وغينغير وزيانيدا غيبيوس وغيورغي إيفانوف ولاندينسكي وأوتسوب وبوبلافسكي وخوداسيفيتش وتسفيتايفا.

ظلَّ اهتمام آداموفيتش متواصلاً بالأدب الأجنبي. زينايدا شاخوفسكايا، التي كتبت عددًا من الكتب باللغة الفرنسية، تذكره قائلةً: «فهِمَ غيورغي آداموفيتش الثقافة الفرنسية بنفس الدقة تمامًا التي فهم بها الثقافة الروسية، – فهو يعرف أصولها، والكُتّاب والفلاسفة القدامى والمعاصرين…»12 كتب عن بودلير وعن مورياس وعن بول فاليري وعن أندريه جيد وعن مونتيرلين وعن بروست وعن السريالية الفرنسية. وتجاوب أداموفيتش مع الكتب السوفيتية الجديرة بالملاحظة بقدر ما تجاوب مع كتب المَهجَر. في بعض الأحيان – في مجلة «الحلقة»، وفي كثير من الأحيان – في جريدة «آخر الأخبار». نشر في «الحلقة» مقالاته حول باسترناك ويسينين وليونوف وبابل وأليكسي تولستوي وحول النقاد الشكليين، أي حول أهم مواضيع أدبيات حقبة العشرينيات. لاحظ المعاصرون له أنَّ «مقالاته النقدية» يوم الخميس أثارت الاهتمام حتى بين أُولئك القراء الذين لم يهتموا بما تنشر جريدة «آخر الأخبار» في الأيام الأخرى من الأسبوع.

أدّى آداموفيتش في المهجَر دورًا مُمَيَّزًا جدًا، يكاد يرقى إلى مستوى الرسالة تقريبًا. ففي السنوات التي نشبَت فيها الجدالات حول إمكانية أو استحالة أنْ ينشأ في الشتات أدبٌ منقطع عن أرض الوطن، شارك أداموفيتش في هذا الجدال و«صنعَ» هذا الأدب «المستحيل» أمام أعين الجميع على نحو عمليّ. فقد جمعه ونظّمه ورتَّبَه وشجعه وألهمَه وفهمه ووجد له معاييرًا للتقييم ومبادئَ توجيهية وتوجيهات للخطوات اللاحقة. كانت نظرته لمستقبل أدب المهجر تشاؤمية بشكل عام. لكن أدب المهجر، الذي بدا محكومًا عليه بالموت، أصبح في الثلاثينيات أدبًا ذا إنجازات عظيمة. يمكن أن تكون المقالات الفردية لبعض النقاد في الخارج (بيسيلي، وتسيلين، وموتشولسكي، وفيدلي، وخوداسيفيتش في المقام الأول) ذات مغزى أكبر، ولكن اتّضَحَ أنَّ آداموفيتش كان يهدف إلى تشكيل أدب المهجر ويدعوا إليه وجعله رسالة له. «اتُّبِعَ آداموفيتش في أهم شيء. كان ذلك بمثابة فكرة محددة للغاية، وإن كان من الصعب تحديدها، عن ماهية الأدب الروسي وما ينبغي أن يكون عليه»13.

أُنجِزَ جزءٌ من العمل في اجتماعات روس باريس العديدة في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. إذ كانت الأمسيات الأدبية، لاسيما تلك التي يُقرأ فيها الشعر، هي الأكثر حضورًا14. كان أداموفيتش خطيبًا ذا موهوبة نادرة. «تحدّث غيورغي آداموفيتش بلغة حسنة للغاية ارتجالاً وبذكاء»15. تحدث محاولاً فهم الوضع الأدبي الفريد. في أحد الاجتماعات، أعرب عن فكرة عميقة مفادها أنَّ الأدب الروسي الكلاسيكي يحمل طاقة، مثل تلك الطاقة التي دخلت عالمنا مع دخول المسيحية. خطبَ آداموفيتش عدة مرات في اجتماعات جمعية «المصباح الأخضر» التي تأسست عام 1927. صاغ أداموفيتش أحد أفكاره المفضلة فيما يتعلق بتقرير زينايدا غيبيوس «الأدب الروسي في المنفى». وقال: «يجب أن نبتهج لحقيقة أنَّ أدبنا لم يخضع للإغراء في أن يعكس ظاهريًا هيجان بحر الحياة»16. في «المصباح الأخضر» عام 1927 تقدَّم بورقة بحثية بعنوان «هل للشعر هدف؟». عند قراءة النص بتروٍّ وإمعان، سترى بوضوح أنه حتى بعد أربعين عامًا، أي في عام نشر أفضل كتابين له («التعليقات» و«العزلة والحرية»)، ظل آداموفيتش وفيًّا لآرائه الفكرية.

عادة ما يُقسّم المؤرخون الأدبيون عمل الكاتب المهم إلى مراحل. ولكن عند الحديث عن آداموفيتش، لم يُقسَّم عمله إلى مراحل زمنية مُعيَّنة، باستثناء تقسيم طريقه إلى قسمين غير متكافئين – في روسيا، وفي «المنفى». إذا نظرنا في مراجعاته عامًا بعد عام، فسنجد بالطبع بعض التغييرات في وجهات النظر والاختلافات في تقييمات أولئك المؤلفين أنفسهم. هناك أيضًا أشكال مختلفة من الأفكار نفسها، بالإضافة إلى أنَّ الصياغات اللاحقة ليست دائمًا الأفضل. لكن كل هذا لا يكفي للحديث عن مراحل مختلفة. المحور الدلالي في بحث «هل للشعر هدف؟»، وكذلك الخطابات اللاحقة – هو فكرة مكانة الشعر في الحياة. تقلص المجال الموضوعي للشعر الحديث مقارنة بالعصور الماضية. لكنَّ هذا ليس انهيارًا. الموقف السابق من الشعر لم يعد ممكنًا. فالأكثر شعرية لدى الشاعر – ليس سوى بضعة أسطر لا يمكننا شرحها، لكن لا يمكننا التملص منها أيضًا. سحر الشعر، وشهرة الشاعر يعتمدان على وجه التحديد على مثل تلك السطور. «الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفسر وجود الشعر – هو الشعور بعدم اكتمال الحياة، والشعور بأن ثمة شيئًا ما مفقودٌ في الحياة، وأنَّ ثمة نوعًا من التصدع فيها. وعمل الشعر، عمله الوحيد – أنْ يملأ هذا النقص، لإرضاء الروح البشرية». إذن، بِمَ يختلف الشعر عن الدين؟ الدين يَعِد وينفّذ وعده، ولكن الشعر يَعِد ويخدع، هكذا حاول يوري تيرابيانو فهم وجهة نظر أداموفيتش. نقرأ في شعر آداموفيتش:

ها نحن هنا، في المنزل. هل علمتَ؟ إنها النهاية.

كل شيء واضح. التوقف، هو النهاية.

لكن من قلوب البشر…

حتى هذا البهاء المخادع!

كتب شعراء «المذكّرة الباريسية» أو المقربون منها، لاسيما غيورغي إيفانوف، أنَّ الشعر لا ينقذ الروح، بل يرضيها ويروي عطشها:

هذه الموسيقى تغفر للعالم

ما لا تغفره الحياة أبدًا.

دع هذه الموسيقى تضيء،

حيث تحلّق السعادة الضائعة.

الكلمات المقتبسة في تقرير آداموفيتش ليست عرضية سواء من حيث التعبير أو من حيث الجوهر. إنه يفكر في الشعر أكثر من أيّ موضوع آخر. في نفس العبارة يمكن للمرء أن يرى التناقض الظاهري والذاتية والشك والانطباعية والتشاؤم والتحفظ. ويمكن للمرء أن يرى فيها الرغبة في تقاسم الفكرة الحيوية التي بالكاد صاغها، والتي لم تزَل دافئة مع آثار الحدس الذي يغذيها. آداموفيتش، أدركَ خطر النهج الحدسي، ووصفه بأنه تبريرٌ للمسودات، ودفاعٌ عمّا في دفاتر الملاحظات. في الواقع، كل «تعليقاته» – المنشورة في المجلات، المدرجة في الكتاب وغير المدرجة فيه – هي جنسٌ من دفاتر الملاحظات.

*    *    *

ذات مرة نشر غيورغي إيفانوف مقالاً تحت عنوان مُمَيَّز بالنسبة لأدب المَهجَر – «بدون قارئ». الصيغة الواردة في هذا العنوان لا تنطبق على آداموفيتش تمامًا. فجمهور قرائه لم يقتصر على باريس. إذ قُرِأَت مقالاته ما قبل الحرب في جريدة «آخر الأخبار» في هاربين وشنغهاي ودول البلطيق ونيويورك وبرلين وبروكسل وبراغ ووارسو وبلغراد وصوفيا ومدن أخرى. من عام 1928 إلى عام 1939، نشرت هذه الجريدة التي عُدَّت أفضل صحيفة في المهجر ما يقرب من 450 مراجعة ومقالة باسم آداموفيتش الصريح الكامل (أي ليس تحت اسم مستعار أو مُختَصَر). ما مواضيعها؟ مرات عديدة حول تولستوي: بالنسبة لآداموفيتش، تولستوي الكاتب الأشد صدقًا و«والأقوى جدية»، و«آنا كارينينا» – هي أفضل رواية في العالم. وكتب عدة مرات عن بلوك – الشاعر الذي تزامن تمامًا مع روح العصر. وكتب عن أنينسكي، الذي يتوافق مع قلق آداموفيتش الوجداني. وكتب عن ليرمونتوف وتيوتشيف ونيكراسوف – الشعراء الذين أحسّ آداموفيتش شخصيًا من خلالهم بحدة بارتباط حيوي مُنعِش بفن القرن التاسع عشر. لقد علمه هؤلاء الشعراء أن يحسَّ بالشعر وأن يفهمه «فهمًا صحيحًا ومتكاملاً». من بين مقالاته عن أدب المهجَر في «آخر الأخبار» نجد مراجعات على كتب إيفان بونين وشميليف وزايتسيف وميريجكوفسكي. وكتب كذلك عن الشعراء الشباب، على سبيل المثال، عن فلاديمير سمولينسكي أو عن أندريه بلوخ غير المعروف الآن. وفي مقال بعنوان «سيرين» (4 يناير 1934)، أراد آداموفيتش أن يبيّن أنَّ فلاديمير سيرين الرائع قد اقتُلِعَ من الجذور الروسية ومن الحياة الحقيقية على حد سواء. ففي المهجَر، عاش سيرين خارج تأثيرات المهاجرين، وبنفس القدر عَمِلَ، وفقًا لما يرى آداموفيتش، خارج التقاليد الثقافية الروسية. ومثير للاهتمام مقال «البكم» – حول أزمة الشعر، ومقال «مرة أخرى عمّا يجري هنا وهناك» – حول الأدب في الاتحاد السوفيتي، مقارنة بالوضع الأدبي في الخارج، ومقال عن أندريه جيد، ورحلته إلى الاتحاد السوفيتي، وخيبة أمله، ومقال «الذكرى المئوية لبرجسون» – عن هنري برجسون الفيلسوف القريب إلى آداموفيتش. وقد اندهش أولئك الذين تمكنوا من تقليب صفحات «آخر الأخبار» الهشة في الثلاثينيات، من وفرة مقالاته عن الكُتّاب في الاتحاد السوفيتي. ولكن مهما كانت استنتاجاته الأخرى مثيرة للجدل، فلا جدال حول فضله في ترسيخ الروح الأخلاقية في أدب ما قبل الحرب.

في نهاية عام 1935، صدرت بتحرير آداموفيتش وميخائيل كانتور (المحرر السابق في جريدة «الحلقة») مختارات «المرساة»، وهي أول أنطولوجيا في المهجر – أثر للشعر في المنفى. الكِتاب، حسب ما ذكر خوداسيفيتش، يرسم بالتفصيل العصر الذي كُرِّسَ له. كتب خوداسيفيتش: «هنا، ربما، من الخطأ أن نتكلم عن مستوى متوسط، لأنّ حتى أضعف الشعراء هنا لا يجوز مقارنتهم بأقوى الشعراء هناك». اختار آداموفيتش وكانتور القصائد «للمرساة» وفق مبدأ التشابه المتبادل بينها بدلاً من السمات التي تبعد بعضها عن بعض. إنَّ شعراء «المرساة» ووفقًا لكلام فيدلي «يَمْلَؤُون الفجوة التي كانت ستُشَكَّل في الأدب الروسي من دونهم، فهُم يحافظون على ما كان سيضيع لولا ذلك. سوف تتذكر روسيا هذا يومًا ما… يجب أن نشكر أولئك الذين أقاموا هذا الأثر التذكاري للشعر الروسي في أصعب السنوات التي مرت بها روسيا على الإطلاق، والشعراء الروس الذين، في بعض الأمل اليائس، ما زالوا يؤلفون القصائد – بعيدًا عن روسيا، من أجل روسيا»17. دحضت المجموعة المؤلَّفة من 77 شاعرًا تحت غلاف واحد، بحقيقة وجودها ذاتها، النظرةَ المتشككة حيال أدب المهجَر، الذي، وفقًا لوجهة النظر هذه، ليس له مستقبل ولا يمكن أن يكون له مستقبل.

عمِلَ آداموفيتش في جميع المجلات والصحف والإصدارات الجماعية الهامة في المهجر. ففي فترة ما قبل الحرب، نجد توقيعه تحت المقالات والقصائد في منشورات «البيت الجديد»18 ، و«السفينة الجديدة»، و«حسن النية»، و«المذكرات الحديثة»، و«الحلقة»، و«المذكرات الروسية»، و«المراجعة الأدبية»؛ وفي حقبة ما بعد الحرب – نجده في «المجموعة الروسية»، و«الجوزاء»، «المأدبة»، و«جسور»، و«تجارب»، و«المعاصر الأدبي»، و«دروب الجو»، و«المجلة الجديدة». وفي الثلاثينيات من القرن العشرين، كانت ثمة مجلتان تدينان بالكثير لآداموفيتش، ولذوقه وحدسه – هما «أرقام» و«لقاءات». صدرت «لقاءات» على امتداد نصف عام فقط (كانون الثاني “يناير”- حزيران “يونيو” 1934)، أصدرَت ستة أعداد – جميعها بتحرير مشترك من آداموفيتش وكانتور. على الرغم من قُصر مدة بقائها، إلا أنّ المجلة نشرت الكثير من الأشياء الشيقة وستبقى علامة مُمَيَّزة في تاريخ الأدب الروسي في الخارج. كان العمل الأكثر أهمية هو مجلة الشباب «أرقام» (1930 – 1934). هنا تشكَّل اتجاه يمكن أن يُطلَق عليه اتفاقًا مدرسة باريس الروسية، على الرغم من أنَّ النشر فيها لم يقتصر على الباريسيين فقط. وحتى «المذكرة الباريسية» الشعرية، بلا شك، مدينة لـمجلة «أرقام». رسميًا، لم يكن آداموفيتش عضواً في هيئة التحرير، لكن وجوده بذاته على صفحات المجلة، وفي الاجتماعات، وفي أمسيات مجلة «أرقام»، وفقًا لكاتب المذكرات، كان له تأثير المحرِّر.

«إذا كان من الضروري تعريف مساهمة آداموفيتش في حياة أدبنا في كلمة واحدة، فسأقول – هي “الحرية”»19. اللامبالاة تجاه الأمور السياسية، والميل العميق نحو الجوانب الجمالية، والاهتمام بالفن والفلسفة المعاصرَين، واكتشاف الأسماء الجديدة، والانتقاء الواسع للمؤلفين الشباب، ودائرة الاهتمامات من دون الرجوع إلى القارئ غير المستعد – هذه هي سمات مجلة «أرقام». تزامنت سنوات وجود المجلة مع ذروة نشاط آداموفيتش. لم يكن ثمة اتحاد يمكن التحدث عنه بمصطلحات عقلانية. لكن المجلة نفسها والاجتماعات التي نظمتها هيأة التحرير خلقا مجتمعًا معيَّنًا ترك بصمة في أذهان ما يسمى بـ «الجيل غير الملحوظ» مدى الحياة. كتب فاسيلي يانوفسكي، الذي هو أحد ممثلي هذا الجيل من الموهوبين، بعد انتقاله إلى الولايات المتحدة: «عندما حاولتُ في القارة الأخرى الغريبة أن أشرح للناس المتأملين الذين لم يعرفوا باريس في ذلك الوقت، لكنهم قرأوا مجلة “آخر الأخبار” أحيانًا، وعندما حاولت أن أُفسَّر لهم دور آداموفيتش في أدبنا، في كل مرة كنتُ أشعر فيها بشعور مشابه لما يحدث عندما تحاول أن تصف بالكلمات مظهراً خارجياً أو رائحة أو موسيقى…»20.

*    *    *

حالت شهرة آداموفيتش بوصفه الناقد الأول دون تنامي شهرته بوصفه شاعرًا. صدرت مجموعته الشعرية المهجرية الأولى تحت عنوان «في الغرب»، في طبعة مصغرة من 200 نسخة. ظهر الكتاب قبل بدء الحرب. لكن بعد سنوات عديدة، جرى الحديث عن مؤلفه بوصفه ناقدًا فحسب. «هل تعرف آداموفيتش؟ – سؤال غريب … – لا، أنا أسأل عن الشاعر. – تقول، عن الشاعر، ولكن هل يوجد حقًا شاعر بهذا الاسم؟»21، – هذه بداية إحدى المقالات المخصصة لإبداعه. من أين أتى اسم – «في الغرب»؟ في المقام الأول، أتذكر «ليلة أوروبية» لخوداسيفيتش، الذي خاض آداموفيتش معه جدالاً حاميًا طوال سنوات عديدة. في السابق، كما يقول عن نفسه في قصة قصيرة مُمَيَّزة بعنوان «إبرة في بساط»، كان ثمة «ارتباط مع الكون الواسع، وهو ما كان مناسبًا لي حينها». هذا الغريب النازح إلى الغرب يرغب أكثر من أي شيء آخر في استعادة الوحدة المفقودة. وهكذا هو، مسار آداموفيتش – شاعر المهجر – من إدراك التشظي «في الغرب» (1939) إلى «الوحدة» المفترضة، المتصوَّرة، ولكن التي تكاد تكون مفهومة (1967). هو ذا طريق القلق، والحب الغريزي غير المُعَلَّل، والشكوك الوجدانية، والوحدة المؤلمة، وفكرة الموت التي تنشأ ثم ترحل. في الواقع، بدا له أحيانًا أنه يتغلب في شعره على الإغراءات والأوهام. وأحيانًا كان يشك حتى في هذا، ويلوم نفسه على «حماقة الزهد» التي يلقيها في الأدب. شعره – تنهيد عن العالم الآخر، تنهيد إنسان يعترف بصدقٍ بالعالم الآخر، ولكن بالنسبة له حتى هنا في هذا العالم «وجودنا غير مفهوم حتى في الغلاف المألوف لنا». كان مسكونًا برؤية الشعر المثالي المتكامل، مسكونًا برؤية البساطة. بدت له الزينة، والديكور، والزخرفة، والتطور في العمل الفني باطل الأباطيل. «الشعر لا يمكن ولا ينبغي له أن يكون حلمًا، أو نزوة، أو رُؤْيا، أو هوى، أو خيالاً غريبًا، أو لعبة كلمات – وإلا فسيكون لا قيمة له»22. لاحظ أشد النقاد ذكاءً أنَّ الأهم في كتاب «في الغرب» – هي القصائد عن روسيا. كتب يوري إيفاسك: «قريبة إليه صورة روسيا، التي خرج بها الملك السماوي في هيأة العبيد (صورة توتشيف). هي ذي روسيا المسيحية، التي عرفها بلوك أيضًا… صورة روسيا لدى آداموفيتش (وكذلك صورتها لدى توتشيف) ليست مسيحانية، بل مسيحية فحسب. هنا توجد الحقيقة الصَّحِيحة»23. الشحنة السالبة القوية الواضحة جداً في شعر آداموفيتش، سمّاها الناقد نيكولاي ستانيوكوفيتش الانهزامية الروحية. «ولكن من خلال الإنكار، والضجر من الفراغ النفسي… تشرق ذكرى روسيا، التي من أجلها وحدها نحن على استعداد لنسيان كل الانهزامية الروحية التي لا حدود لها»24.

شعورٌ بالبرْد. المنحدراتُ المنخفضة

يلفّها الضبابُ لنصفها.

تمتد السحبُ البيضاء

من فوق مروج الغابات الصامتة.

 

شعورٌ بالهدوء. عربةٌ فارغة

تُخَشخِش بين الفينةِ والفينة.

السماءُ، المُفعَمة بالثلج الهابِط،

تُخَيّمُ بلا حراك.

يا إلهي، وأنا أحتضر،

بعد نصف قرن، بالكاد

سوف أنسى حزنَ

هذا البلد الميت،

حزنَ هذه الأرض المتجمدة.

*    *    *

في الخريف من عام 1939، عندما أعلنت فرنسا الحرب على ألمانيا، تطوَّع آداموفيتش في الجيش الفرنسي. أعقبت ذلك شهورٌ من حياة الثكنات – «أشهرٌ لا تُنسى مليئة بالملل والاشمئزاز والمرارة والغضب والحَر القاسي من دون وجود شجرة واحدة للاختباء تحت ظلها؛ البراغيث والجرذان وكل أنواع الأوساخ التي يمكن تصورها، والتهيج الذي لا معنى له وأفكار الليل الطويلة، عندما كان من الممكن مغادرة الثكنات والسير في الظلام». هكذا أشار لاحقًا في كتابه الذي صدر باللغة الفرنسية بعنوان «L’autre patrie» («الوطن الآخر»). وبعد عام، حُلَّ الفوج الذي انتسَبَ إليه بسبب وقف الأعمال الحربية بين ألمانيا وفرنسا. وبعد تسريحه، غادر آداموفيتش إلى نيس، وظل هناك حتى نهاية الحرب، منشغلاً بتأليف كتابه «الوطن الآخر»، الذي نُشر عام 1947. من بين أمور أخرى، كتب فيه عن «الإنجازات الهائلة للبلاشفة». غير أنَّ آرائه الجمالية ظلَّت من دون تغيير. أدب المغتربين، إذا حقق شيئاً، فذلك لأنه، كما قال آداموفيتش شخصياً، ظل أدبًا مسيحيًا. ولذا تعرّضَ بطبيعة الحال إلى انتقادات من جانب الخصوم. فقد كتَبَ غيورغي إيفانوف: «يؤسفني جداً أنَّ آداموفيتش نشر كتاباً بعنوان “L’autre patrie”، الذي يلقي مثل هذا اللمعان المُمَيَّز على اسمه الأدبي»25. وحاول أيضًا أنْ يُفسِّر التحول الذي حدث لدى آداموفيتش: لأنه طوال الوقت يُطابق الأدب السوفييتي مع الأدب الروسي أكثر فأكثر، بدأ على نحو غير محسوس له يُطابِق الاتحاد السوفيتي مع روسيا. بعد الحرب، بدأ آداموفيتش ينشر بانتظام في «الأخبار الروسية»، وهي نفس الصحيفة الباريسية التي نشرت مرسوم ستالين بمنح الجنسية السوفيتية للمهاجرين، والتي نشر فيها بوغومولوف، السفير السوفيتي في باريس، دعوات للمهاجرين للعودة إلى وطنهم.

توقف تعاون آداموفيتش مع صحيفة «الأخبار الروسية» في بداية الخمسينيات. فقد بدأ آداموفيتش ينشر بانتظام في مجلة «الكلمة الروسية الجديدة»، وبعد ذلك بمدة قصيرة في مجلة «الفكر الروسي». في عام 1951 انتقل إلى إنكلترا. ودرَّسَ الأدب الروسي في جامعة مانشستر مدة عشر سنوات. لقد كتب كثيرًا، وغالبًا ما صار يكتب أفضل من ذي قبل، لكنه لم يعد مضطرًا لأداء الدور الفذ الذي كان يقصده في أدب ما قبل الحرب. الاهتمام الكبير بالقراءة، نجَمَ عنه «العُزلة والحرية» – وهو الكتاب الأول لآداموفيتش – الناقد. بالإضافة إلى ذلك، كان «العزلة والحرية» بمثابة أول تاريخ لأدب المهْجَر. قدَّم فيه شهادات مكتوبة ببراعة عن خمسة عشر مؤلِّفًا. اختيرَت الأسماء، التي بدونها لا يمكن تخيّل صورة أدب المهجَر. لكن المهم في الكتاب – النغمة والبنية والانسجام الذي يوحده. وهاك انظر، كيف قال آداموفيتش عن هذا الأمر في الفصل الأخير: «عندما يفهم الإنسان أنه وحيد تمامًا في هذا العالم، فإنه لا يمكنه الاعتماد إلا على نفسه… وقد تبددت أوهام الأعمال المشتركة أخيرًا… لا يمكنه الاختباء خلف شيء ولا خلف أحد، عندما يفهم الإنسان هذا ويحسّ به من دون أن يشعر بالرعب على الإطلاق – وإذا كان، علاوة على ذلك، فنانًا – فإن سيرة حياته الإبداعية تحدد»26. إنه كتاب عن الموسيقى، التي يسمعها المسافر «إلى آخر الليل». وعن كيف يُتَغاضى في الفن والأدب عن كل شيء ما عدا خسارة الموسيقى. وعن القيم التي سعى المهاجرون للحفاظ عليها والدفاع عنها ومواصلتها. إنه كتاب عن الأدب في تواتره. ولكن في الحال تومض الأفكار حول الإنسان، والحب، والواجب، والموت، والمسؤولية، وجوهر الشعر، والمصادر غير الناضجة التي تغذي الإبداع الفني. يتذكر آداموفيتش سنوات ما قبل الحرب، عندما كان هناك ازدهار حقيقي في أدب المهجر. يتذكر النظرة العامة الواسعة وسمو الفكر. تتخلل الكتاب ثقة المؤلف في خصوصية تجربته الحياتية، والثقة في أنَّ ما حدث للناس في عصرنا يقع على عاتق الإنسان، ربما مرة واحدة خلال ألف سنة: «خلال تاريخ روسيا كله لم تكن حالة بقي فيها الإنسان من دون أيّ سند ومن دون أيّ دعم… بِغضّ النظر عن الجهة التي يأتي منها ذلك الإسناد والدعم»27. في الأمان، في العزلة، يمكن للإنسان أن يستمع حتى النهاية إلى شيء مهم يتجاوز الترتيب العابر للأشياء. في النقد وفي المقالة الأدبية، أداموفيتش – شاعر. إنه جاء من الشعر إلى النقد. تظهر شخصيته في كل ما ننتبه إليه عند قراءة «العزلة والحرية». هكذا عرّف هذا العمل ميخائيل كانتور، رفيق آداموفيتش، في جريدة «الحلقة» ومجلة «المرساة» وفي كتابه «اللقاءات»: «كتاب “العزلة والحرية” سيدخل الأدب الروسي ليس بوصفه كتاباً فحسب عن الكُتّاب، بل وكذلك ككتاب لمؤلّف بارز»28.

*    *    *

غالبًا ما قورِن كتاب «العزلة والحرية» بكتاب «التعليقات»، وعادةً لصالح الأخير. قال يوري تيرابيانو: «في “التعليقات”، خطة البيانات أعمق بكثير»29 وفقًا لتيرابيانو، فإنَّ المقالات النقدية المشابهة لتلك التي كتبها آداموفيتش «كان من الممكن أن يقدمها شخص آخر، على سبيل المثال، فلاديسلاف خوداسيفيتش… لكن لم يكن بوسع أحد سوى آداموفيتش كتابة “التعليقات”»30. وتحدث فيدلي، الذي عرف آداموفيتش شخصيًا أكثر من أربعين عامًا، عن الشيء نفسه: «هل كان آداموفيتش ناقدًا جيدًا إذا لم نوسِّع مفاهيم النقد، بل نطبّقها بالمعنى المعتاد؟ بالكاد. كانت غريزته ممتازة. فالدقة في تمييز الظلال لا تجعلنا نتمنى أكثر مما موجود في الكتاب… لقد أدرك المواهب جيدًا. ولكن من أجل استحسان الموهبة، يحتاج أيضًا إلى وجود شيء في هذه الموهبة يتوافق مع أذواقه الشخصية الضيقة جدًا»31. لكن فيدلي يحكم على «التعليقات» حكمًا مختلفًا. تكاد لا توجد كتب مماثلة له باللغة الروسية، هذا الكتاب – «متكامل»؛ عمل يحمل موهبة كبيرة، كتاب سيبقى في الأدب الروسي – مدة طويلة.

«التعليقات» لم تؤلَّف على يد خبير في الأدب، وناقد رافض لجمود العقيدة، ومفكر وجودي فحسب، بل كتبها أيضًا شاعر غنائي. قال يوري إيفاسك يُحَسُّ فيها الاهتزاز، كما يُحسّ في كلمات الأغاني أو الموسيقى. وكتب غيورغي إيفانوف عن الشيء نفس في مراجعته لـكتاب «العزلة والحرية»: «تحتوي هذه المجموعة المُختارة على كل شيء: الموهبة والذكاء والمنطق والتشخيصات الصحيحة وحتى النظرة الثاقبة للأدب الروسي المستقبلي – كل شيء باستثناء العزلة. هل حدث ذلك بحريّة؟ بالطبع، بحرية. لم يتنازل آداموفيتش عن الحرية قَط حتى في المقالات الهجائية في الصحف. ولكن عزلة الصوت المكتوم، والكلمات غير المنطوقة، والمشاعر شبه المفهومة، «التي تنكشف خلفها مجالات الميتافيزيقيا» – كل ما يأسر في «التعليقات»، ليس موجودًا هنا، وفي مهمة التي كُتِبَت من أجلها هذه المجموعة المختارة، لا يمكن أنْ يكون»32  «التعليقات» متعددة المواضيع، لكنها في أغلب الأحيان تتعلق بالأدب. لا يُنظر إلى الأدب فيها من الداخل بل من الخارج كشيء محدود، ويُعَلَّق عليه في ضوء الأسئلة الأبدية. المؤلف لا يعطي إجابات على تلك التساؤلات، و- كما نرى- لا يستطيع أن يعطي عليها الإجابات. لكنه، في جوهره، المُحاوِر المثالي الذي يشعر بأي ملاحظة خاطئة، ويوقظ الفكرة، ويجعلنا نتحقق من موقفنا أكثر من مرة. يتحدث عن سر الكتابة السردية، وعن الجمال الناشئ عن تنوع العالم، وعن المسيحية التي ترحل عن العالم، وعن الأدب بوصفه مهنة لا تتوافق مع الإغواء، وعن الانتصار على المادة، وعن «عمل الشِّعر الخارق». بالنسبة لآداموفيتش، لا يمكن أن يكون هناك يقين مطلق في أيّ شيء، لأنه لا يمكن للمرء أن يتوقف عند أيّ شيء في النهاية. سواء كنتَ تتفق مع استنتاجاته المتشككة أم لا – في «التعليقات» ستشعر في أيِّ صفحة بنفح الأصالة. ربما توجد أفكار معمقة هنا أكثر من أيّ كتاب آخر من كتب المهجر عن الأدب. وليس في «التعليقات» فقط، بل في تراث آداموفيتش ككل، يبدو جليًا البحث والقلق، ويُحَسّ بالموقف الأساس من الحياة البشرية، ويُستَشعَر الارتباط المباشر مع الأدب الروسي العظيم. ثمة عصر كامل يُرى في إرثه، وقد شهد أداموفيتش ذلك العصر ببراعة.

 

الهوامش:

1 – فاديم بروكوبييفيتش كريد (لقبه الحقيقي كريدينكوف؛ ولد 10 سبتمبر 1936، في بلدة نيرشينسك، إقليم شرق سيبيريا، يعيش في الولايات المتحدة) شاعر وناقد أدبي روسي. (المترجم).

2 – يانوفسكي فاسيلي. حقول الشانزليزيه. كتاب الذكريات. – نيويورك: دار نشر العصر الفضي، 1983. صفحة 264.

3 – إيفانوف غيورغي. روما الثالثة. النثر السردي. المقالات. دار نشر تينيفلاي (الولايات المتحدة الأمريكية)، 1987. صفحة 302.

4 – الأكميين، نسبة إلى الأكميّة: الذي هو تيار في الشعر الروسي (في مطلع القرن العشرين) يدعو إلى تحرير الشعر من الرمزية والغموض والعودة إلى العالم المادي والمعنى الدقيق للكلمة. (المترجم).

5 – نيكولاي غوميليوف. مجموعة الأعمال، في أربعة مجلدات. واشنطن، 1968. صفحة 358.

6 – غيورغي آداموفيتش. التعليقات. واشنطن، 1967. صفحة 115.

7 – آداموفيتش غيورغي. التعليقات. واشنطن، 1967. صفحة 33.

8 – المصدر نفسه. صفحة 34.

9 – إيفانوف غيورغي. تفكك الذَّرَّة. باريس، 1938. صفحة 8.

10 – تيرابيانو يوري. لقاءات. نيويورك. 1953. صفحة 55.

11 – فيدلي فلاديمير. عن أولئك الراحلين عنّا/المجلة الجديدة. 1993. العدد: 192 – 193. صفحة 360.

12 – شاخوفسكايا زينايدا. الانعكاسات. باريس، 1975. صفحة 195.

13 – فلاديمير فارشافسكي. جيل غير ملحوظ. نيويورك، 1956. صفحة 179.

14 – تيرابيانو يوري. لقاءات. نيويورك. 1953. صفحة 149.

15 – شاخوفسكايا زينايدا. الانعكاسات. باريس، 1975. صفحة 191.

16 – تيرابيانو يوري. الحياة الأدبية للجالية الروسية في باريس مدة نصف قرن. باريس؛ نيويورك، 1987. صفحة 64.

17 – انظر: ستروفي غيورغي.. حول تاريخ الأدب الروسي في الخارج/المجلة الجديدة، العدد 107، 1972. ص 230.

18 – تعمّدنا ترجمة أسماء الصحف والمجلات الصادرة في المهجر الروسي من أجل إعطاء صورة واضحة للحالة الثقافية في المهجر. (المترجم).

19 – يانوفسكي فاسيلي. حقول الشانزليزيه. كتاب الذكريات. نيويورك، دار نشر «العصر الفضي»، 1983. صفحة 110.

20 – المصدر نفسه.

21 – ستانيوكوفيتش نيكولاي. غيورغي آداموفيتش. العزلة والحرية/مجلة «النهضة»، العدد 48، 1955، صفحة 139.

22 – آداموفيتش غيورغي. لقاءاتي مع ألدانوف/المجلة الجديدة. 1960. العدد 60. صفحة 113.

23 – إيفاسك يوري. حول شعر المهجر بعد الحرب/ المجلة الجديدة. 1950. العدد 23. صفحة 208.

24 – ستانيوكوفيتش نيكولاي. غيورغي آداموفيتش. العزلة والحرية/مجلة «النهضة»، العدد 48، 1955، صفحة 141.

25 – إيفانوف غيورغي. روما الثالثة. النثر السردي. المقالات. دار نشر تينيفلاي (الولايات المتحدة الأمريكية)، 1987. صفحة 304.

26 – أداموفيتش غيورغي. العزلة والحرية.  نيويورك، 1955. صفحة 306.

27 – المصدر نفسه.

28 – كانتور ميخائيل. غيورغي آدوموفيتش. العزلة والحرية/التجارب. 1956. العدد 6. صفحة 96.

29 – تيرابيانو يوري. الحياة الأدبية للجالية الروسية في باريس مدة نصف قرن. باريس؛ نيويورك، 1987. صفحة 157.

30 – المصدر نفسه.

31 – فيدلي فلاديمير. عن أولئك الراحلين عنّا/المجلة الجديدة. 1993. العدد: 192 – 193. صفحة 361.

32 – إيفانوف غيورغي. روما الثالثة. النثر السردي. المقالات. دار نشر تينيفلاي (الولايات المتحدة الأمريكية)، 1987. صفحة 323.

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

أ. د. تحسين رزاق عزيز

أستاذ في جامعة بغداد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى