العدد الحاليالعدد رقم 45علوم وتكنولوجيا

تطور الثورات الصناعية عبر مراحل تاريخية متعاقبة

عاش الإنسان في مراحل حياته البدائية البسيطة الأولى لا يعرف غير استخدام يديه وعضلاته وقواه الجسدية الذاتية وشيء من قدراته العقلية والذهنية إلى جانب استخدام الحيوان في نقل الأحمال وجر العربات واستخراج المياه من الآبار وفي أعمال الريِّ والزراعة وإنجاز متطلبات أعماله الحياتية والمعيشية وبخاصة العمل في الرعي وتربية المواشي والزراعة وإنتاج المحاصيل بحيث تكفل له حياة أكثر دعة وأمنًا وبقاءً واستقرارًا. بيد أنه ومع مرور الزمن ومتطلبات الحياة المُلحَّة المتزايدة لم يجد الإنسان أمامه بدًّا من إيجاد وسائل ومعدات أخرى غير قواه الجثمانية والعقلية المحدودة وغير الاعتماد على الحيوان تعينه وتساعده في إنجاز الأعمال وتنفيذ المهمات والحصول على المتطلبات التي يحتاج إليها ويعتمد عليها في حياته اليومية، وتعزى تلك الرغبة في التطور إلى سعي الإنسان الحثيث نحو البحث عن مصادر طاقات حيوية من شأنها أن تعينه على الحياة وعلى السيطرة على سلاسلها على اختلاف أنواعها ومواردها. ومن المعروف أن الطاقة التي أفرزتها الصناعات المتتالية لهي السبب المباشر في دفع التقدم الإنساني والتطور الحضاري لكونها ذات ارتباط متين وصلة وثيقة بشؤون بني البشر كافة وبمناحي الحياة الأخرى قاطبة.

وبتتبع مراحل حياة الإنسان المختلفة في تاريخها الطويل والدور الحيوي الذي لعبته التغيرات الصناعية أثناء تطورها عبر القرون المتعاقبة والتي غيرت حياة الإنسان من شظف ومشقة في العيش والممارسة إلى يسر وسهولة في التعامل والتطبيق دعونا نشرع في رحلة نتعقب عبرها ونمر خلالها على فترات التطور والتغير التي حصلت في تلك الثورات الصناعية المتعاقبة والتي أصبح إنسان اليوم يعي تمامًا المنجزات الباهرة والابتكارات الرائعة التي تحققت في مساراتها المتعددة ومجالاتها المختلفة، ومن هذه المنطلقات لتحولات الطاقة أضحت صناعة الطاقة الشغل الشاغل للعالم بأسره لدورها المحوري وأثرها الفاعل في الحضارة الإنسانية.

ولنبدأ ببداية المرحلة الأولى التي انطلقت منها الثورة الصناعية وهي فترة تاريخية بدأت في أواخر القرن الثامن عشر واستمرت حتى القرن التاسع عشر وقد بدأت أول ما بدأت في بريطانيا ثم اتسعت وانتشرت في أوروبا وأمريكا في حقب ومراحل متعاقبة، كل منها أحدث تحولات جذرية في طريقة الإنتاج وتكوُّن المجتمعات ونشوء الاقتصادات العالمية. ولتلخيص مراحل الثورات الصناعية الرئيسية لنبدأ بالثورة الصناعية الأولى بين عامي1760-1840، ولعل من أبرز سماتها المميزة ظهور التحول من الإنتاج اليدوي والزراعة إلى القدرات الميكانيكية باستخدام الماء والبخار كمصادر للطاقة. ولعل الآلة البخارية التي اخترعها جيمس وات في ذلك الوقت هي التي أحدثت ثورة في صناعة النسيج والتعدين ووسائل النقل والمواصلات كالقطارات والسفن البخارية وفي الآلات الميكانيكية مثل مغزل جيني والنول الميكانيكي والتلغراف الذي اخترعه صموئيل مورس مما أدى إلى تحسين وسائل الاتصالات بشكل كبير. كذلك صناعة الحديد باستخدام فحم الكوك والذي ساعد في نمو تلك الصناعة وأدى إلى زيادة كبيرة في الإنتاج بالإضافة لنمو المدن وتعددها واتساعها وتجمُّع السكان حول المصانع مع ظهور طبقات اجتماعية جديدة (عمال ورأسماليون)، كما توسعت وكثرت وتشعبت طرق النقل والمواصلات. وبالنسبة للثورة الصناعية الثانية فقد كانت خلال عامي 1870 – 1914 والتي كان من سماتها البارزة التوسع في عمليات الإنتاج الصناعي وظهور صناعات جديدة بمساعدة محركات الاحتراق الداخلي، كما كان لاكتشاف الكهرباء أثر عميق في تغيير مناحي الحياة الإنسانية وتغيير أنماطها ومستوياتها، ومنذ ظهور ذلك الاكتشاف العظيم سار ركب التقدم والتطور قدمًا مع تطور الاكتشافات والاختراعات التي استجدت تباعًا في مجالات الكهرباء واستخداماتها المتعددة كما واكب ذلك اتساع الشبكات الكهربائية وتطورها وتنوع استخدامات الكهرباء في شتى مجالات الحياة، كما صاحب اكتشاف وظهور الكهرباء اختراع وسائل الإنارة والمصابيح الكهربائية وتشغيل المصانع ومضاعفة الإنتاج، كما أدى ذلك أيضًا إلى تطور صناعة المركبات والقطارات والطائرات وزيادة خطوط التجميع (سلاسل الإنتاج) إلى جانب صناعة الفولاذ ومشتقاته المختلفة ونمو الشركات الكبيرة وتوسُّع التجارة العالمية وزيادة التركيز الصناعي، كما أدى ظهور أشباه الموصلات (الألكترونيات) إلى تطوُّر وسائل الاتصالات كالهاتف والتلجراف والراديو والتلفزيون. كما ساعد ذلك أيضًا في تحسين أداء المنتجات ورفع جودتها وكفاءتها. كما أن اكتشاف النفط واستخدامه كمصدر رئيس للطاقة ساعد في إيجاد الوقود اللازم للإنتاج الصناعي ووفرته وتنوعه. وبالنسبة للثورة الصناعية الثالثة والمعروفة بالثورة الرقمية فقد بدأت عام 1970 ولا تزال آثارها واضحة وبارزة حتى وقتنا الحاضر، ولعل من أهم سماتها البارزة ظهور الإلكترونيات المتقدمة وتقنية المعلومات والحواسيب الشخصية والأتمتة والروبوتات (الإنسان الآلي) والتي استُخدمت في العمليات الصناعية والإنتاج الصناعي وفي تشغيل المعدات والآلات للقيام بمهام معقدة ومتكررة ودقيقة. كما أنَّ من أهم سماتها وخصائصها ظهور الإنترنت (الشبكة العنكبوتية) والتي أحدثت تحولاً كبيرًا في طريقة العمل والتواصل وجمع المعلومات والبرمجيات التي ساهمت بشكل فعَّال في تطور أنظمة الأمان والسيطرة والتحكم والبرمجة. كما ظهرت مصادر الطاقة المتجددة وظهور اقتصاد المعرفة حيث أصبحت المعلومات والابتكار هي المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي وزيادة الانتاج وتقليص الحاجة إلى العمل اليدوي مما ساعد في انتعاش أنشطة أسواق العمل وزيادة الأعمال والوظائف وتقليص نسب البطالة. وبالنسبة للثورة الصناعية الرابعة فقد بدأت في وقتنا الحاضر والتي من سماتها البارزة دمج التقنيات المادية والرقمية والبيولوجية، وطمس الخطوط الفاصلة بينها، مما يتيح إيجاد أنظمة ذكية متواصلة ومترابطة. كما أنَّ انترنت الأشياء (IoT) أدت إلى ربط الأجهزة والآلات بشبكة الإنترنت لتبادل البيانات والمعلومات. كما أن ظهور الذكاء الاصطناعي (AI) والتعلم الآلي (Machine Learning) ساعدا في تحليل البيانات المعقدة واتخاذ القرارات الذكية. أيضًا كان للطباعة ثلاثية الأبعاد دور في تصنيع الأجسام المعقدة وطبقاتها وتجميعاتها، إلى جانب البيانات الضخمة (Big Data) وتحليل تلك الكميات الهائلة من البيانات لاستخلاص والوصول للنتائج المطلوبة.

لقد فرضت الثورة الصناعية الرابعة واقعًا مليئًا بالفرص والتحديات والطلب على المهارات الجديدة مما سيوفر فئات جديدة من الوظائف لم تكن موجودة في السابق وستقضي بطبيعة الحال على كثير من العمليات التقليدية نتيجة الاعتماد على الروبوتات في القطاعات الإنتاجية. ومع إدراك البعض مدى السرعة التي يتغير بها عالمنا مع هذه الوتيرة الهائلة السرعة نحو التغيير، لم يعد المستقبل يحدث بعيدًا بل يسير بسرعة أسرع من الضوء. لقد ارتبط مفهوم الثورة الصناعية الرابعة بالأتمتة وتقليل الأيدي العاملة والتوظيف الأمثل للذكاء الاصطناعي، حيث يقتصر دور العامل البشري على التدقيق والمراقبة، وعليه أسهمت الثورة الصناعية الرابعة بصورة مباشرة أو غير مباشرة في رفع معدل البطالة، حيث إن فرص العمل أضحت منخفضة، بما قد يهدد الاقتصاد ذاته من جراء قلة مساهمة العمالة البشرية في الناتج المحلي الإجمالي حيث من الإمكان أن تحوّل الثورة الصناعية الرابعة الناس إلى روبوتات لتحرم العالم بذلك من روحه وعقله وإنسانيته كما أشارت إلى ذلك بعض التقارير الناقدة للثورة الصناعية الرابعة. إن تقدم التقنية جعل الجميع يعتمد عليها اعتمادًا مطلقًا في كل المجالات وحتى في الشؤون الخاصة، ومنعها من التواصل المباشر مع الآخرين بسبب التزاحم التقني المثير.

إن مظاهر الثورات الصناعية أصابت خصوصية الإنسان البشري واستمتاعه بالحياة بكل أشكال الضغوط والتوترات النفسية. وعليه فقدت البشرية بوادر صحتها الجسدية والنفسية وانخفض معدل الذكاء البشري أو تعطله بين أفرادها منذ أن أصبحت الآلة منارة أو نظامًا يقوم مقام البشر وأصبح الفرد في دور المتلقي حتى في أبسط العمليات الحسابية. وبينما نرى التركيز الإعلامي على أزمة المناخ العالمية في المؤتمرات الدولية واللقاءات العالمية مثل منتدى الاقتصاد العالمي فمع هذا لا نكاد نرى أو نسمع الحديث الإعلامي حول أثر الثورات الصناعية الأربع المتعاقبة التي شهدها العالم الحديث. لقد ارتفعت مخاطر نزع الطابع الإنساني عن التقدم الاقتصادي، لدرجة أننا صرنا نواجه الآن تهديدًا وجوديًا من الناحيتين البيئية والإنسانية. فإذا افترضنا مجازًا أن الثورات الصناعية الأربع ساعدت على تحسين حياة الإنسان وتطوير أساليب معيشته ورفاهيته فهل ستفعل إذن الثورة الصناعية الخامسة الشيء ذاته؟ أو على الأقل تعدّل مسار الثورات الصناعية من الجانب الإنساني وتبقي على مسارها العلمي والتقني؟.

إن الحديث عن الثورة الصناعية الخامسة يمثل مجرد تنبؤ بالمستقبل، ولا بد من اتباع الطريقة العلمية والمنطقية المفترضة في أيّ عملية تنبؤ على كل حال، لكن البعض لا يزال يصر على أن الثورة الصناعية الخامسة المقبلة ما هي إلا عصر ما بعد الذكاء الاصطناعي وتعليم الآلة وأن العالم يحتاج بالفعل إلى ثورة صناعية خامسة لينمو مثل عصر النهضة الجديد، ولا تكون ثورة علمية جافة فحسب بل ثورة توازن تأخذ في مضامينها وتطلعاتها كلا الجانبين  بشقَّيْه العلمي والإنساني حيث من الممكن أن تتميز الثورة الصناعية الخامسة بإبداع وإحساس غير مسبوق يمثل نصيبًا وافرًا من جانب الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى الجمع بين الروبوتات والإنسان في مكان العمل والتقارب والألفة بينهما، ولذلك من الممكن أن تشهد الموجة الخامسة من الثورات الصناعية إعطاء مزيد من المساحة إلى عالم الابتكار والإبداع، حيث ستنقل الأتمتة مستويات الأداء عاليًا مدعومة من الذكاء الاصطناعي. إن الضوء المقبل من منارة المستقبل لهو صعود الثورة الصناعية الخامسة، وعلى عكس الاتجاهات السائدة في الثورة الصناعية الرابعة نحو نزع الطابع الإنساني، فإن أفضل ممارسات التقنية والابتكار يتجه نحو خدمة الإنسانية والبشرية من قبل رواد الثورة الصناعية الخامسة المقبلة التي ستمكّن  للشركات والمؤسسات والمنظمات من تبني أحدث التقنيات وتطبيقها بناءً على هذه التقنيات الباهرة؛ مما يمكنها من التكيف مع المتغيرات العديدة والمختلفة من حولها، كما سيتيح لها وسائل الإبداع والابتكار ليزيد من قدرتها على المنافسة والبقاء والصمود.

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

أ.د. عبد الله بن محمد الشعلان

قسم الهندسة الكهربائية - كلية الهندسة - جامعة الملك سعود - الرياض

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى