العدد الحاليالعدد رقم 45ثقافات

تأثير الكلمة النائمة في الأعماق

في ربيعٍ من رُبى عام 1926، حيثُ الحياةُ تمضي بين زوجين على وتيرة الهدوء الرتيب، وقلب يقرع ولا يُسمع، نشأت القصة… لا كما تُروى في الكتب، بل كما يُحاك المجد في دواخل النفوس الهادئة.

كان الصحفي الأمريكي “جون مارش” رجلاً بسيطًا في ظاهره، كأن لا شِعرَ له في الدم، ولا نثر في الفؤاد. لكنه كان يعيش مع امرأة، لو قُدّر للكتب أن تختار قارئًا، لاختارتها. مارجريت ميتشل، تلك التي لا تقرأ الكتب، بل تلتهمها كما تلتهم النار الهشيم. تقرأ بنهمٍ يوشك أن يكون جوعًا روحيًا، كأنها تبحث في السطور عن ظلّ ذاتها، أو عن ضوءٍ في آخر المتاهة.

وفي لحظةٍ عابرة، وهي تحمل بين يديها كتبًا تكاد تنوء بها الجبال، قال لها زوجها على سبيل التبرم اللطيف، وقد امتزج فيه المزاح بشيء من الحقيقة المبطنة:

«بحق الله يا بيجي، ألا يمكنك أن تكتبي كتابًا بدلاً من قراءة الآلاف منها؟»

كلمة قالها، وما علم أنها سهمٌ أُطلق في عُمق البحيرة، فارتجّ السكون، وتحرّك الموج، واستيقظ شيءٌ نائمٌ في أعماقها.

وهكذا… بدأت مارجريت الكتابة، لا على عجلة، ولا طلبًا لمجدٍ أدبي، بل كأنها تستجيب لنداء قديم في أعماقها. لم تخبر أحدًا، ولم تسعَ إلى تصفيق، إنما كتبت كما تُصلى الصلاة في الخفاء، بروحٍ تتطهر من صمتها.

ومن هذه الخلوة الفكرية، وُلِدت رواية «ذهب مع الريح Gone with the Wind»، ولادة أدبية من رحم التأمل، والنزف، والعزيمة. ولم يكن أحدٌ يتوقع أن روايةً كهذه ستُحدث رجّةً في الوعي الأمريكي، وتتحوّل إلى وثيقة وجدانية لا تموت.

نُشرت الرواية بعد عشر سنين من الكتابة، عشر سنين من الانصهار في الفكرة، من السفر داخل النفس، من التشبث بحلمٍ لا يُرى بالعين بل يُحَسّ بالحرف. وعند صدورها سنة 1936، كانت كالصاعقة الأدبية. مليون نسخة بيعت في عامها الأول! ثم توالت التُرجمات، حتى تجاوزت الثلاثين مليون نسخة، وكأن كل لغة أرادت أن تتكلم بهذا الحلم المكتوب.

«الكتاب الجيّد ليس ما يُقرَأ، بل ما يقرأك» هكذا قال العقاد، وهكذا فعلت رواية ميتشل.

أما المجد فلم يتوقف عند الورق. ففي عام 1939، صار الكتاب فيلمًا، والفيلم صار أسطورة. فيلمٌ استخدمت فيه السينما كل ما ملكت من سحر وعدّة، وكأنها كانت تدين للرواية بالامتنان. فحصد الفيلم حينها أكثر من 390 مليون دولار، وكان ذلك زمنًا كانت فيه التذكرة لا تزيد عن 25 سنتًا. واليوم، عند تعديل الأرقام بحساب التضخم، يُعدّ الفيلم الأعلى ربحًا في تاريخ السينما، بما يعادل 3.4 مليار دولار!

كل هذا المجد؟ نعم… من كلمة.

كلمة قالها رجل لامرأته دون أن يقصد، فأيقظت في نفسها شجرة كانت نائمة، فاهتزّت، وربت، وأثمرت.

«الكلمات ليست مجرد أصوات، بل مفاتيح… قد تفتح بها زنزانة أو تفتح بها سماءً».

– مصطفى صادق الرافعي

وهكذا كانت كلمة «اكتبي كتابًا» هي المفتاح.

نعم، أحيانًا، لا نحتاج إلى معجزة، بل إلى جملةٍ صادقة، تُقال دون تفكير، لكنها تسكن في الصدر كما يسكن الوحي في نبي.

«الكلمة التي تُقال في وقتها… قد تغيّر التاريخ».

– طه حسين

وقد غيّرته مارجريت، لا بحيلة، ولا بجهد خارق، بل بإيمان. آمنت بما في نفسها، وكتبت، وثبتت، حتى غدت الرواية أنشودة قرنٍ كامل.

فمن يدري؟ لعل في أعماقك، أيها القارئ، شيئًا ينتظر كلمة.

كلمة… توقظ فيك ما كنت تظنه نائمًا، وما هو إلا عملاق نائم ينتظر لحظة اليقظة.

«لا تتكلم… إلا إذا كانت كلماتك أجمل من الصمت.»

– جلال الدين الرومي

لكن إذا جاءتك الكلمة التي تُوقظك، فلا تصمت.

اكتب.

تحدث.

اصنع مجدك.

فكلمة قد تصنع رواية…

ورواية قد تصنع حضارة.

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

محمد بن عبدالله الفريح

كاتب ومؤلف عدة كتب- مدير النشر والترجمة في شركة العبيكان للنشر- الرياض

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى