العدد الحاليالعدد رقم 45ثقافات

مـذابـح الـكـتـب

الكتب «خزائن» المعرفة، حفظت للبشرية «ذاكرتها»، وتراثها المكتوب. وما من أمة نهضت وحلقت ـ عاليًاـ إلا بجناحي العقول الراجحة، والكتب النافعة. ومن مفارقات التاريخ البشري احتضانه مظاهر عشق الكلمة المكتوبة، واقتناء الكتب وتدشين المكتبات. ومع ذلك ارتكب مدمرو الكتب «مذابح» تثبت عكس ذلك، وتمثلت في تدمير، وحرق، وإغراق، ودفن الكتب، و«إبادتها».

«مذابح» الكتب هي: إتلاف متعمد من سلطة حاكمة، أو غازية، أو مجتمعية، أو فردية، أو أخلاقية، أو إيديولوجية. وتشمل الإتلاف الشخصي من أصحابها لأسباب علمية، أو عقدية، أو نفسية، بخلاف الإتلاف غير المقصود من كوارث طبيعية أو نزاعات حربية. أما «إبادة الكتب» (Libricide) فتأتي ضمن إطار الإبادة الجماعية Genocide (الإثنية/ العرقية، والدينية/ الأيدلوجية) والانتهاكات الاجتماعية والثقافية التي تُرتكب أثناء الحروب والاضطرابات الأهلية. وبسبب العواقب الثقافية والاجتماعية الخطيرة اكتسبت محاولة سبر دينامية «مذابح الكتب، وإبادتها» أهمية كبري. وهذه المحاولة لن تنهض بها سطور معدودة بل يلزمها بحوث كثيرة، ودراسات عميقة.

ويعتبر إمبراطور الصين «تشين شي هوانج» (من أسرة تشين الحاكمة في القرن الثالث قبل الميلاد) من أوائل الذين دشنوا ظاهرة «مذابح» الكتب. وعلى الرغم من «الطفرة النهضوية» التي شهدتها الصين في عهده. فقد ربط الأسوار الواقعة على حدود الصين بعضها ببعض، فكان سور الصين العظيم. وله الفضل في تقسيم الدولة إلى ست وثلاثين ولاية ليسهل بسط السلطة عليها. إلا أن عهده ـ وكأغلب العهود الإمبراطورية المتعاقبة ـ اتسم بحرب شرسة وشاملة على إرث الكتب التي سبقت عهده من خمس ممالك مهزومة. فقام «بمجزرته بحرق كل الكتب» تحت شعار مستشاره: «العودة إلى الماضي ضعف، إذًن، علينا محو كل الماضي». فتم حرمان البشرية من نحو مائة ألف كتاب ومخطوط، ولم يبق إلا بعض كتب الزراعة والصناعة.

واعتبرت مكتبة الإسكندرية القديمة «فردوس المعرفة» فهي أول وأعظم مكتبة عرفت في التاريخ. وكانت أضخم بيت (للطباعة) والنشر في العصور القديمة (اليونانية والرومانية). وكانت المتاجرة بالمخطوطات قد بلغت ذروتها في ميناء الإسكندرية (هونج كونج العصور القديمة). وضمت المكتبة ـ في بداياتهاـ حوالي عشرين ألف كتاب ومجلد. ولم يُعرف على وجه الدقة كيف دمرت هذه المكتبة. وحسب كتب التاريخ توجّد ثلاث احتمالات؛ الأول هو «يوليوس قيصر» ـ حين استنجدت به كليوباتراـ فأحرق (عام 48 ق.م.) الأسطول الذي حاصر الإسكندرية. فامتدت النيران وطالت المكتبة، فدمرتها. وقيل إن حرقها كان مقصودًا.. فقد أراد «قيصر» إنشاء مكتبة مماثلة في روما، ونقل مقتنيات مكتبة الإسكندرية إليها، ثم إحراق ما استطاع حرقه. وتراوحت الكتب المحترقة ما بين 40 ألفًا – مليون كتاب. والاحتمال الثاني: هو «ثيوفيلس» بابا الإسكندرية الذي أقدم على تدمير المعابد الوثنية دفاعًا عن العقيدة المسيحية، لكن المرجّح أن التدمير طال أحد المباني الملحقة بالمكتبة ولم يطل المبنى الرئيس لها.

أما الثالث فإبان فتح مصر، ويُقال إن الفاتح «عمرو بن العاص» رضي الله عنه قد أُمر بحرق المكتبة. وهذه الرواية أتت من مؤرخين عرب متأخرين بنحو ستة قرون على فتح مصر، مثل «ابن القفطي»، و«الملطي»، و«البغدادي»، و«المقريزي» وكلهم من القرن الثالث عشر ميلادي. وقد نقل بعضهم عن بعض دون تحقيق، وتبعهم بعض المفكّرين الغربيين مثل «دالامبير»، و«ديدرو»، و«هيغل»، و«توينبي»، وإن بكثير من التحفّظ. فهيغل يورد «المسألة» على أنها: «إشاعة» مشيرًا إلى ما تلتئم عليه من تناقض مع ما تأكّد من عناية المسلمين «بالفنون والعلوم ونشرها في كل مكان»، ولا تتوافق مع تعاليم الإسلام ولا مع ما اتبعه الفاتحون في البلاد الأخرى. أما المؤرخ «أرنولد توينبي» فلم يتوقف عندها طويلًا واعتبرها «أسطورة، وخبر زائف». كما قدم الباحث الفرنسي «لوسيان بولاسترون» في الفصل الأول من كتابه: «كتب تحترق.. تاريخ تدمير المكتبات» (2010، نقله للعربية هاشم صالح ومحمد مخلوف) شهادة تاريخية عن تلك الفرية وفندها. ويشار إلى أنه في عام الفتح الإسلامي لمصر- عام 642 ميلاديًا- كانت المكتبة قد دُمرت بالفعل ولم يعد لها أثر. وحديثًا.. أعيد تأسيس المكتبة ـ عام 2002ـ باسم «مكتبة الإسكندرية الجديدة».

مذابح بشعة

بينما كان فريق من التتار يقتل المسلمين ويسفك دمائهم اتجه فريق آخر منهم لعمل إجرامي آخر: تدمير بيت الحكمة/ مكتبة «بغداد» وإلقاء كل محتوياتها (أكثر من 300 ألف كتاب، وستة وثلاثين مكتبة عامة أخرى) في نهر «دجلة» حتى تحولت مياهه إلى اللون الأسود من أثر مداد الكتب. وقد كانت أعظم مكتبة على وجه الأرض حينئذ، وتحوي عصارة فكر المسلمين في أكثر من ستمائة عام. جمعت فيها شتي تصانيف العلوم والآداب والفنون الأصيلة والمترجمة عن اللاتينية واليونانية والسريانية والهندية والسنسكريتية والفارسية وغيرها. ملايين الكتب في مكتبة واحدة في زمان ليس فيه طباعة. ولقد أسسها الخليفة العباسي «هارون الرشيد» – رحمه الله- (حكم ما بين 170هـ – 193هـ)، ثم ازدهرت المكتبة في عهد الخليفة «المأمون» (حكم ما بين 198هـ – 218هـ).. وما زال الخلفاء العباسيون بعدهم يضيفون إلى المكتبة الكتب والنفائس حتى صارت دارًا للعلم لا يُتخيل كمّ العلم بداخلها.

ولم تقارب مكتبة «بغداد» ـ في العظمةـ إلا مكتبة «قرطبة» في الأندلس. ولقد لاقت نفس مصير مكتبة «بغداد». فعندما سقطت قرطبة (سنة 636 هـ، قبل سقوط بغداد بعشرين سنة) قام «المنتصرون» بحرق مكتبة «قرطبة» تمامًا. وفعلوها مرة أخرى في مكتبة «غرناطة» عند سقوطها، فأحرقوا مليون كتاب في أحد الميادين العامة، فضلاُ عن مذابح مكتبات «طليطلة»، و«أشبيلية»، و«بلنسية»، و«سرقسطة» وغيرها. ولما طـُرد العرب المسلمون من الأندلس، نقل «المنتصرون» هذا «التعصب» إلى «العالم الجديد»، وتم إبادة دمَّر كتب حضارة الآزتيك والمايا. ويفتخر «لاس كازاس» بهذا التدمير قائلًا: «إنني فخور بتدمير كتبهم كلِّها».

وفي القرنين الخامس والسادس للهجرة.. شهد المغرب العربي وبلاد الأندلس حرق الكتب بأمر من السلطة. ففي عهد ملوك الطوائف أحرقت كتب الإمام ابن حزم الظاهري. وفي المغرب ـ سنة 500هـ ـ أحرق علي بن يوسف بن تاشفين أمير دولة المرابطين كتب الإمام الغزالي (لاحتوائها على مصنفات علم الكلام)، وفي مقدمتها كتابه (إحياء علوم الدين). ويذكر أحمد أمين في كتابه (ظهر الإسلام) حوادث حرق كتب الفقهاء في عصر مؤسس دولة الموحدين عبر ما رواه (صاحب المعجب) كشاهد عيان على حرق الكتب بقوله: «وفي أيامه – أي أيام ابن تومرت – انقطع علم الفروع وخافه الفقهاء، وأمر بإحراق كتب المذهب، فأحرق منها جملة في سائر البلاد. وقد شهدت ذلك وأنا بمدينة فاس يؤتى منها بالأحمال فتوضع، ويطلق فيها النار».

كما أحرق الصليبيون (إبان الحملات الصليبية على الشرق) «ثلاثة ملايين» مجلد في مكتبة «طرابلس»/ لبنان عندما وقعت في أيديهم. كما احرقوا «مكتبة بني عمار العامة» في سورية التي حوت ثلاثة ملايين كتاب، معتقدين أن جميع محتوياتها هي نسخ من القرآن الكريم. وهذا بعدما زار القسيس «برترام سنت جيل» قاعة القرآن الكريم حتى أعطى أمرًا بحرقها، وكان للمكتبة أكثر من مائة وثمانين ناسخًا يتناوبون على العمل بها ليلًا ونهارًا. وكرروا الأمر نفسه في فلسطين في مكتبات غزة”، والقدس، وعسقلان. وكما قاموا، سنة 1204م، باستعراضاتهم في «القسطنطينية» والكتب محمولة على رؤوس حرابهم. وكانوا قد أخذوها من «أكبر مكتبة في العالم» آنذاك في «القسطنطينية» نفسها.

مذابح الكتب في القرن التاسع عشر

هاجم البريطانيون (عام 1812) الأراضي الأمريكية الجديدة. وقام الجيش البريطاني ـ في 24 أغسطس 1814ـ بإضرام النار في قبة الكابيتول، فأحرق نحو 3000 كتاب كانت تحتويها المكتبة الفتية. كما كانت خسائر الفرنسيين والألمان الثقافية كبيرة. ففي عام 1870 ـ أثناء الحرب بين بروسيا وجيش نابليون الثالث ـ أكدت مدينة «ستراسبورغ» القريبة من الحدود البروسية (الألمانية) أنها ستقاوم و«ستدافع عن نفسها طالما هناك قطعة خبز، وجندي ورصاصة واحدة». فتلقت ـ ليلة 24 أغسطس 1870ـ قصفًا مُكثفًا أدى لحرق المكتبة التي ضمت حوالي 400 ألف مجلد.

مذابح الكتب في القرن العشرين

قامت الباحثة «ربيكا نوث» بدراسة مُعمقة لمظاهر «إبادة الكتب، تدمير الكتب والمكتبات برعاية الأنظمة السياسية في القرن العشرين» (ترجمة: عاطف سيد عثمان، عالم المعرفة، يونيو 2018، الكويت). وتشير لتنامي حرق الكتب في العهد النازي. حيث شهدت ألمانيا أكبر عملية حرق كتب، تلتها عملية تجريف للعقول الأدبية التي اضطرت للهجرة، والتصدي للنازية من الخارج. فعندما احتفظ أدولف هتلر بالسلطة المطلقة ـ بعد وصول النازيين للحكم مطلع عام 1933ـ بدأ رحلة السيطرة على العقول. ووجدت رابطة الطلاب الحل في أبريل 1933 إذ خلصت إلى أن النازيين سيطروا على الدولة لكنهم لم يفعلوا الأمر نفسه مع الجامعات. وصاغوا شعار «حركة ضد الروح غير الألمانية» ووصلت ذروتها مساء العاشر من مايو 1933. حيث شهد أحد ميادين برلين تجمع حوالي سبعين ألف شخص وقام طلبة (يرتدي معظمهم الزي الموحد لوحدات تابعة للحزب النازي) بنقل أكثر من خمسة وعشرين ألف كتاب (صنفت كغير ألمانية) لتحرق أمام الجميع، وعبر الراديو لتصل الفكرة لكل الألمان. ومن بين محارق الكتب أعمال: هينريش مان، وإريش ماريا ريماركيه، ويواخيم رينجلناتس، وإرنست جليسر، واريش كستنر. وكانت كتب كارل ماركس، ومارسيل بروست، وإميل زولا، وسيغموند فرويد، وأندريه جيد، وماكسيم غوركي وغيرهم بين الكتب المحروقة.

وألقى زعيم الطلاب النازي (23 عامًا)، خطابًا قبل حرق أول مجموعة كتب:«ها أنا ألقي في النار كل ما هو غير ألماني… ألق أعمال هاينريش مان في النيران من أجل الدولة والعائلة والتقاليد والعادات… ما نفعله هو التصدي للروح غير الألمانية». وكان كاتب قصص الأطفال الألماني «إريش كستنر» قد اكتسب شهرة عالمية واسعة.، وشهد بنفسه حرق كتبه في برلين:«كنت أقف أمام الجامعة بين طلبة يرتدون زي وحدة إس إيه ويرفعون الأعلام ورأيت النيران تلتهم كتبنا». والمفارقة أن الشاعر الألماني «هاينريش هاينه» ـ أحرقت أعماله أيضًاـ كتب (عام 1812): «أينما تحرق الكتب، فسينتهي الأمر لحرق البشر أيضًا». ولم تكن واقعة حرق الكتب في برلين هي الوحيدة من نوعها. ففي نفس الليلة قام طلبة في مدن ألمانية بها جامعات، بحرق أعمال الأدباء الذين لا تتوافق أعمالهم مع أيديولوجياتهم. وقبل عملية الحرق بأسابيع قاموا بتجميع أعمال الكتاب والصحفيين من المكتبات العامة ومكتبات الجامعات.

حملة اتحاد الطلاب الألمان ضد الأدب “غير الألماني”، برلين 1933

ومباشرة، بعد الغزو الألماني لبولندا.. أعلن الفيلد مارشال هرمان غيورنغ أن مصادرة جميع ممتلكات الدولة البولندية ستكون لمصلحة الدولة الألمانية ونفعها، أي الرايخ الثالث. ثم أصدرت الحكومة الألمانية مرسومًا بتسليم جميع الكتب البولندية التي يملكها أفراد أو شركات أو جمعيات غير ألمانية إلى السلطات. وجمع عدد هائل من الكتب وأودعت المخازن وخطط لنقل كتب ومكتبات كاملة (كمكتبة البرلمان البولندي) وقطع متحفية قيمة إلى ألمانيا إلى جانب جميع الكتب والمجلات الدورية العلمية. ونهبت المكتبات الخاصة (لاسيما المملوكة للمبعدين من البولنديين) ودمرت واستعملت كمادة خام في مصانع الورق أملًا في «تجويع العقل» البولندي. واستخدمت المكتبات المدرسية في إنشاء الثكنات ودمرت مجموعات الكتب بهمجية.

ودمرت قوات الرايخ الهتلرية «المكتبة الوطنية/ الشعبية» بصربيا خلال الحرب العالمية الثانية عام 1941، فقصفها الجيش بالقنابل الحارقة التي نالت من حوالي 350 ألف كتاب، إلى جانب مدونات من القرون الوسطى، ومجموعة من المخطوطات التركية مع ما يزيد عن 200 كتاب قديم (مطبوع ما بين القرن الخامس عشر- القرن السابع عشر)، وخرائط قديمة، ولوحات فنية، وصحف، والكتب المطبوعة في «صربيا» وما جاورها منذ عام 1832، لتقدر محتوياتها بأكثر من 2,6 مليون كتاب.

مكتبة هولاند هاوس بعد غارة جوية ألمانية 1940

وشهدت مكتبات لندن حرائق فادحة، ودمر أكثر من عشرين مليون كتاب (أتلف ربعها خلال شهر ديسمبر 1940). وأراد هتلر أن «تحرق نيران مدافعه أقصى ما يمكن حرقه في بريطانيا». وتدمير الحروب للكتب والمكتبات بسبب استخدام قنابل حارقة تصل حتى إلى الأقبية العميقة. هكذا أحرقت القنابل الانجليزية ـ الأمريكية خلال يومين (13ـ 15 فبراير 1945) وسط مدينة «درسدن» الألمانية.. فقتل نحو خمسة وثلاثين ألفًا من البشر، لا أحد يعرف كمّ الكتب التي دُمرت. لكن ألمانيا وحدها فقدت نحو 12 مليون كتاب. كما فقدت إيطاليا ـ التي دُكت بالقنابل في الحرب العالمية الثانية ـ أكثر من مليوني كتاب إضافة إلى 39 ألف مخطوط. ولمدة عام (1943-1944).. احتل الألمان مدينة «فلورنسا» التي كانت منشأ عصر النهضة ومهدٍ الفن والعمارة والثقافة «أثينا العصور الوسطى». لكن دُمرت نهائيًا مكتبة أكاديمية العلوم والآداب في فلورنسا عام 1944. أما بلجيكا التي عرفت بالمحايدة أثناء الحرب العالمية الثانية. لكن حيادها لم يمنعها من معاناة تدمير أعداد ضخمة من مكتباتها. وخسرت مكتبات «سان ترود»، و«ثماند»، و«تروناى» أكثر من 70 ألف كتاب (من مجموع 75 ألفًا) كانت تحتويها. ولم ينج من كل مكتباتها سوى «المكتبة الملكية».

قارئ يتصفح كتاب في مكتبة هولاند هاوس في أكتوبر 1940 بعد أن دمرها القصف الجوي الألماني.

وشهدت الصين في القرن العشرين عمليات إبادة للكتب من كل من اليمين واليسار علي حد سواء. فقد دمر الإمبرياليون اليابانيون كتب ومكتبات في الصين أثناء محاولاتهم إخضاعها خلال حربهما ما بين (1937-1945). وأسفرت التخريب والنهب والقصف عن تدمير ما بين 2000-2500 مكتبة، وخسارة 10 ملايين كتاب تقريبًا، منها نحو ربع مليون كتاب ومخطوط قيم إثناء القصف الياباني لجامعة «نانكاي» Nankai عام 1937. وبعد طرد اليابانيين عام 1945 واستيلاء الشيوعيين على السلطة عام 1949 تحولت مذابح الكتب إلى حملة داخلية متواصلة كي «تتوافق كل الكتب مع آراء الحزب الشيوعي الصيني». ولم يعرف تحديدًا كم عدد الكتب والمخطوطات والوثائق التي دمرت غير أن المؤشرات تدل على أن تدمير الشيوعيين قد فاضر الضر الذي أحدثه اليابانيون في الصين: «فمن بين ألاف المكتبات انخفض عددها إلى 400 مكتبة، ومن بين ملايين الكتب في مكتبات شنغهاي اعتمد رفين فقط». وكان «ماو تسي تونج» الذي «وحَّد الصين» أكثر فطنة فيما يتعلق بالتخلص من ثقافة الماضي. فقد «عمَّم قمعًا أخلاقيًّا أدَّى بالأشخاص أنفسهم لإحراق كتبهم أمام جيرانهم». وكان سقوط مدينة يعني تدمير مكتبتها أولًا. وفضلًا عن تدميرها 6000 معبد في «التبت» ألحق بمعظمهم مكتبات تضمنت موروثًا معتبرًا من الحكمة الإنسانية.

الحرس الأحمر الصيني يحرق النصوص الدينية المأخوذة من مجلدات بوذية في المنازل والمعابد، في سونغتشورا، ساحة التدريس السابقة خارج معبد جوكانغ في التبت، أثناء الثورة الثقافية عام 1966.

أما في أمريكا، فقد أمر قاض أمريكي ـ عام 1956ـ بحرق وإتلاف كتب «ويليهام رايخ» (ذي النزعات اليساريّة الفوضويّة) بحضور ووجود عملاء للحكومة الفدراليّة. وعلى جانب آخر.. في احتفالية.. أعتاد أهالي مدينة «كراسنودار» الروسية حرق دمية من القش تعبيرًا عن فرحتهم بالربيع وتوديعهم للشتاء، لكنهم بدلًا من ذلك أقدموا على حرق كتاب الرسام والكاتب الأمريكي «هنرى ميلر» (1891-1980): «ربيع أسود» (1936). وهو من أكثر كتب «ميلر» شعبية، ويعتبر سيرة ذاتية بطريقة شعرية غاضبة وساخرة مما يفعله المجتمع بمبدعه. وجاء في بيان نشطاء جمعية (العالم الروسي): (جاء حرق كتب «ميلر» احتجاجًا على انتشار قيم العالم الغربي المنحط القائم على الدعاية للعلاقات الجنسية الحرة، وفكر سدوم وعمورة لحفز انهيار القيم العائلية). وكان شعار الفعالية: «شتاء نووي خير من ربيع أسود»، وتم سحب الكتب من مكتبات المدينة لتُحرق على مرأى من الناس.

وفي «ليتوانيا».. نظفت قوات تابعة للجيش السوفيتي ـ عام 1987ـ مستودعًا. وأفرغت محتوياته في حقل، وكان من بينها: عدد كبير من الكتب النادرة التي نهبت من مكتبة نبيل بروسي في إعقاب الحرب العالمية الثانية. ومن بين هذه الكتب: نسخة فيتنبيرغ للكتاب المقدس وترجع لعام 1534 (نسخة أولى من ترجمة مارتن لوثر للكتاب المقدس إلى الألمانية)، ونسخة أولى من خرائط «ميركاتور» لأوروبا الغربية ومجلد يعود إلى عام 1785 يضن رباعيات وترية تحمل إهداء الموسيقي الشهير «موزرات» إلى «هايدن».

إبادة كتب ومكتبات البلقان

ومن بين كل الضربات التي استهدفت تاريخ دولة «البوسنة والهرسك» وثقافتها المتنوعة الروافد.. كان القصف الذي جري في أغسطس 1992 فأحرق المكتبة الوطنية في العاصمة «سراييفو». إنها «رمز سراييفو القديم، وجبل المعرفة»، وأسست عام 1945 في مبني تاريخي رمزي يعود للحقبة الهنغارية النمساوية. وضمت المكتبة الوطنية (كمكتبة مرجعية، وأرشيفية وطنية) جميع المنشورات اليوغوسلافية، ومليونا ونصف المليون مجلد، و155 ألف كتاب ومخطوط نادر، و600 ألف مطبوع مسلسل، ووثائق دولية، ورسائل جامعية، وأبحاث علمية، ومكتبة الكترونية وميكروفيلمية الخ. وتم إبعاد المواطنين عن إنقاذ الكتب من ألسنة اللهب، وقطعت المياه، وعطل عمل رجال الإطفاء. وكافح الناس من أجل إنقاذ كتبهم عبر سلسلة بشرية متصلة لتمرير الكتب. استمرت الحرائق لثلاثة أيام ولم ينج من محتويات المكتبة سوى 10 بالمائة منها. وقد أنكر الصرب مسؤوليتهم عن قصف المكتبة كما أنكروا مسؤوليتهم عن أغلب ما ارتكبوه. بل لقد زعم الزعيم الصربي البوسني رادوفان كارادزيتش: «أن المسلمين هم من أحرقوا مكتبتهم، لأنهم لا يحبون وجود الحضارة المسيحية في مدينتهم، ولم يحبوا المبني المسيحي لهذه المكتبة الذي يعود إلى زمن الإمبراطورية الهنغارية النمساوية، فاخرجوا كتبهم، وتركوا الكتب المسيحية وأحرقوها».

أما في جامعة «سراييفو» (التي تضم 16 كلية) فقدت البوسنة 400 ألف كتاب، 500 مجلة دورية من مكتبات عشر كليات بالجامعة. ولتخيل حجم الدمار الذي حاق بكتب ومكتبات «البوسنة والهرسك» ينبغي النظر لخسائر بلدة واحدة هي «ستولاتش». فلقد ضاعت مخطوطات نادرة تعود للقرن السابع عشر الميلادي، ووثائق تاريخية، ومواد مكتوبة بخطوط مزخرفة بالذهب والألوان أثناء إحراق مكتبة مجلس الجالية الإسلامية، ومكتبة مسجد الإمبراطور، ومكتبة مسجد «بودغراسكا». كما دمرت المكتبات وكثير منها يضم مخطوطات ووثائق وأوراق أقدم العائلات في البلدة ومنازلها. وفي «جانجا» Janja أحرقت المكتبة الشخصية القيمة ثقافيًا التي امتلكها «علي صديقوفيتش» بما تحويه من مائة مخطوطة بلغات عديدة بالإضافة للمبني التاريخي الذي احتواها.

وفي عام 1992 قصف الصرب «المعهد الشرقي في سراييفو». ودمرت أكبر مجموعة مخطوطات إسلامية (أكثر من 5 آلاف مخطوطة شرقية يعود أقدمها إلى القرن الحادي عشر)، وصكوك ملكية، ووثائق قضائية وعثمانية (أكثر من 7 آلاف وثيقة توثق لخمسة قرون من تاريخ البوسنة) في جنوب شرق أوروبا. فضلًا عن تدمير الصرب لما يقدر طوله نحو 481 ألف متر من السجلات وما يعادل صف من صناديق حفظ الوثاق يزيد طوله على نحو 300 ميل. وفي تطور شاذ للبيروقراطية طُلب من المسلمين في «بانجالوكا» الحصول على اثني عشر شهادة للخروج من المدينة بما في ذلك شهادة تثبت تسليمهم كل ما لديهم من كتب.

ليست كتب ومكتبات البوسنة وحدها

بدأت وزارة الثقافة الكرواتية وجماعات متخصصة كاتحاد المكتبات في الترويج إعلاميًا ودوليًا للكوارث الثقافية التي نتجت عن الاعتداءات الصربية. وقد أدرج في أحدي القوائم تدمير نحو 210 مكتبة كرواتية، وعشر مكتبات بحثية، وتسع عشرة مكتبة تذكارية، ومكتبة واحدة خاصة بأحد الأديرة، وعشر مكتبات إبرشية، وثلاث عشرة مكتبة متخصصة، ومثلها من المكتبات العامة، وتسع وعشرون مكتبة مدرسة ثانوية، وثلاث وتسعون مكتبة مدرسة ابتدائية وأدرجت قائمة أخري 370 متحفًا ومكتبة ودار محفوظات أضيرت أو دمرت تمامًا. كما دمرت مكتبة بلدة «زادار» Zadar الكرواتية بسبب قصفها بكثافة. وضمت المكتبة 600 ألف مجلد، 5566 مجلة فصلية، 926 صحيفة، 33 كتابًا (طبع قبل عام 1500)، 1080 مخطوطًا، 370 رقًا، 1350 كتابا نادرًا، 1200 خريطة جغرافية، 2500 صورة فوتوغرافية، 1500 مدونة موسيقية، 60 ألف إعلان. ومع رحيل الجيش اليوغسلافي من ثكنات البلدة أمر القادة الصرب بتحطيم 60 جهاز حاسب آلي، وإحراق كل مكتبة الكلية العسكرية. حيث جُمعت آلاف الكتب في أكوام في ساحة الكلية العسكرية وأطعمت للنار. وقصف الجيش الصربي مدينة «فوكوفار» Vukovar التاريخية فأحالها أنقاضًا. ومن بين أنقاضها مكتبة «تاون ميوزام»، والدير الفرنسيسكاني الذب ضم 17 ألف مجلد (تاريخها ما بين القرن الخامس عشر – التاسع عشر)، ومكتبة فكوفار العامة، وأضرمت النيران في قلعة إلتس القديمة فاختفت محتوياتها. وبالقرب منها في فينكوفتشي Vinkovci ضاعت مجموعة كبيرة من الكتب الفريدة والنادرة والمخطوطات القيمة والوثائق المتعلقة بكتاب المنطقة. وقصفت المكتبة وأحرقت المكتبات العامة في «فوكوفار»، و«فينكوفتشي» حتى سويت بالأرض. فضلاُ عن عدد من المكتبات الشخصية (المكتبة الأوستاشية لايفان لوفرينوفيتش)، وأجبر جيرانه على الخروج لمشاهدة إحراقها.

كتب ضحية الكوارث، وعلماء أتلفوا كتبهم

أتلفت الفيضانات التي اجتاحت فلورنسا عام 1966 حولي مليوني كتاب أغلبها مخطوطات نادرة ثمينة. وفي عام 1988 التهمت النيران زهاء 3,6 مليون كتاب في مكتبة العلوم في لينينغراد. وقد بلغ عدد العلماء الذين أتلفوا كتبهم سبعة وثلاثين منهم: ابن سينا”، والماوردي، وسعيد بن جبير، وسفيان الثوري، وبشر الحافي، وأبو عمرو الكوفي، وأبو حيان التوحيدي، وداود بن نصير الطائي، وأبو عمرو بن العلاء، وأبو الحسن الثعلبي الغطفاني الدمشقي. وقد أفتى ابن الجوزي بجواز دفن الكتب فقال: «إن من دفن كتبه لسبب مشروع كأن يكون فيها أشياء مدخولة لم يستطع تمييزها ولم يشأ نشرها فلا بأس به». وكان أبرز طرق أتلافهم كتبهم عبر: الحرق، والدفن، وغسلها بالماء أو إغراقها، وتقطيع الكتب، و«تخريقها».

وفي الختام: لاضطهاد الكتب والمكتبات تاريخ طويل عبر الزمان والمكان. ولقد تنوعت طرائقه، وتباينت دوافعه، وعظمت نتائجه. وهذه سطور معدودة تكشف مدى «التعسف» ضد الكتاب والمكتبات كونها وعاء من أوعية المعرفة والهوية والتاريخ. ولعل مذابح الكتب عمليات موجهة نحو هادف مُحدد سلفًا ويأتي في إطار الصراعات التي اندلعت بين رؤى متعارضة، لكن ضحيتها ـ دومًاـ كانت الكتب والمكتبات.

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى