
التفسير الجندري للتاريخ
في مقالاتي عن كتابة التاريخ تناولت قضية النقل المختلف للحادثة الواحدة، وأثره على تصور كلي للحدث التاريخي، وهو أمر يختلف عن تفسير التاريخ الذي يمثل نوعًا من قراءة التاريخ والبحث في النظام الذي يحكم سيرورة أحداثه.
هناك عدة قراءات وتفسيرات للتاريخ، يقوم بعضها على التفسير المادي والذي ظهرت فلسفته في البداية عند هيغل ثم تطورت عند ماركس في الماركسية الذي يرى أن حركة التاريخ يتمثل في صراع الطبقات الطبقة الفقيرة والطبقة الغنية، في حين أن هيغل كان يرى أن حركة التاريخ تتمثل بالجدلية، وهي أن كل حدث يحمل في داخله ما يناقضه، ويتطور هذا الجزء حتى يصبح هو الأساس، الذي يحمل في داخله بدوره جزءًا يناقضه، وهكذا تدور حركة التاريخ.
في حين أن هناك التفسير الديني الذي يرى أن التاريخ يقوم على الصراع بين الأنبياء والمصلحين من جهة، والمستكبرين والجبابرة من جهة أخرى، يستبدون بالأرض حتى تمتلئ فسادًا، فيبعث الأنبياء ويقوم المصلحون يواجهون ذلك الفساد حتى يتم لهم ما يريدون ثم يعود الفساد من جديد حين يطول العهد بحركة الإصلاح، فيحتاج الأمر إلى حركة أخرى.
غير أن التفسير المادي ليس بالضرورة أن يكون وجهًا واحدًا، فكما اختلف بين هيغل وماركس هناك تفسيرات مختلفة، وأطرفها التفسير الجندري لأحداث التاريخ الذي يقوم على أن يبحث عن الأسباب المتصلة بالجندر سواء كان ذكراً أو أنثى للتاريخ.
نجد هذه القراءة على وجه التحديد لدى مضاوي الرشيد (الأستاذة في جامعة لندن) في قراءتها للأحداث التي وقعت للشيخ محمد بن عبدالوهاب في العيينة ثم في الدرعية في كتابها “أكثر دولة ذكورية”، إذ تربط بين خروجه من العيينة بأمر من أمير الأحساء آنذاك بحادثة رجم المرأة، وترى أن قيامه بذلك هو الذي أدى إلى إخراجه، وتؤكد هذه الوجهة ببحثها عن أسباب سياسية تبرر هذا الإخراج، فتقول: إن السبب هو قيامه بذلك دون أذن من السلطة السياسية في تلك الحقبة وإنما اجتهد بذلك اجتهادًا فرديًا.
ربما يكون لدى الدكتورة مضاوي مصادر شفوية لا أعلمهما ولم تشر إليها في حديثها ذلك وقد يكون ذلك من قبيل التفسير أيضًا، إلا إن ابن بشر يورد قصة إخراجه من العيينة وموقف أمير الأحساء منه بعد حادثة الرجم ثم يعلق تعليقًا مختصرًا لكنه مهم إذ يقول: “فعظم أمره بعد ذلك، وكبرت دولته”.
إذًا الأمر لا يتصل لدى ابن بشر بحادثة الرجم إلا من الناحية الزمنية، فقد أدى مع غيره من الأعمال المختلفة التي قام بها إلى تعاظم أمره، وظهور دولته وليس مرتبطًا ارتباطًا خاصًا بحادثة الرجم، وهذا يعني أن السبب في إخراجه هو المكانة الكبيرة والمنزلة التي احتلها ابن عبدالوهاب ونفسه عليها أمير الأحساء. وأما موضوع الاستئذان من السلطة السياسة فلا قيمة له لأنه لم يكن هناك سلطة مركزية أصلاً في تلك المنطقة، والذي يقرأ تاريخ ابن بشر (بتحقيق د. محمد الشثري) يرى كيف كان أهل القرى في تلك الأنحاء يسطو بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضًا دون نكير أو أدنى عناية من السلطة المركزية سواء كانت في الأحساء أو سواها. (وقد قرأت فيه أن النواصر من المذنب سطوا سنة 1140 في الفرعة، ونهبوا ذرة أهل أوشيقر وأكلوها).
وعلى هذا نستطيع القول إن التفسير النسوي للتاريخ يظهر ابتداءً من ربطها حركة الشيخ ابن عبد الوهاب بحادثة الرجم، ليس بوصفها تطبيقًا لحد من حدود الدين ولكن بوصفها موقفًا من المرأة، ويتجلى هذا الأمر بقولها: “إن دولة السعوديين الوهابية في القرن الثامن عشر قد ولدت من حادثة ضد امرأة”. (الترجمة من عندي)
أفهم أن الدكتورة الرشيد “امرأة”، ولديها صلة خاصة بهذه الأحداث، فحين ترى هذا الدور للمرأة وتأثيرها في بناء الأحداث فهي بصورة أو بأخرى ترى نفسها، وهذا ما يعزز القول بتأثير الجندر على قراءة الأحداث. الأمر اللافت للانتباه أن الكاتبة في الوقت الذي تربط بين إخراج الشيخ ابن عبدالوهاب من الدرعية بحادثة الرجم، لا تذكر بعد ذلك سبب الإخراج إلا ما ذكرته سلفًا هو أنه لم يستأذن، وهذا سبب سياسي. لكنها لا تذكر بعد ذلك هل كان لنفوذ المرأة وأهلها صلة بذلك، وهل كانت المرأة من سواد الناس أم من سراتهم حتى استدعت غضب أمير الأحساء، إذا كانت هذه الحادثة هي السبب الحقيقي؟ هذا التجاهل يتوافق مع رأيها في أن إخراجه بسبب “امرأة” أي بسبب كونها امرأة، وأن موقف ابن عبدالوهاب منطلق من الموقف من المرأة، وهذا يعني لو أن الذي اعترف رجل -في رأيها- لم يكن الشيخ سيوقع عليه العقوبة التي أوقعها على المرأة.
لكن السؤال مرة أخرى، إذا كان ابن عبدالوهاب قد أخرج من العيينة بسبب هذه المرأة، وهذا ما أدى إلى القضاء على دولته في تلك المنطقة (الدولة هنا بمعنى الظهور والانتشار)، فكيف تكون السبب وراء ولادة الدولة السعودية الوهابية؟ ربما تكون وراء لمعان نجم الشيخ واشتهاره. مع أن ذلك لم يكن مرتبطًا على وجه الخصوص بهذه الحادثة، وإن كانت دولته الحقيقية لم تكن في العيينة وإنما كانت في الدرعية منطلق الدولة السعودية، وهذا يعني أن هذه الحادثة لم يكن لها تأثير إيجابي على الشيخ ودعوته، إلا أن الأستاذة ذهبت هذا المذهب لتؤسس عليه فكرتها اللاحقة.
واضح أن الدكتورة الرشيد تقرأ حادثة الرجم بوصفها تحيزًا ضد المرأة، وتربط بين إخراجه من العيينة، وهذه المرأة، وواضح أن التحيز ضد المرأة من خلال هذا العرض مرتبط بالشيخ ابن عبدالوهاب وحده، بناء على أنه لقي جزاء فعلته تلك وهي الطرد والإخراج من القرية التي هو فيها، لكنها تستدرك هذا الاحتمال (وهو الفصل بين موقف المجتمع النجدي في ذلك الوقت وموقف الشيخ من المرأة)، وتؤكد على أن سبب إخراجه ليس متصلاً بالغضب من الحادثة، وإنما بسبب أن تصرفه بإزاء هذه الحادثة تصرفًا فرديًا.
والإشكالية أنها بعد ذلك تربط انتقاله إلى الدرعية بامرأة الإمام محمد بن سعود، وتقول بأنها هي التي كلمت الأمير، وأثنت على الشيخ وما يقوم به من أعمال، ويقدمه من مواعظ، ومع أن هناك روايات مختلفة لانتقال الشيخ إلى الدرعية من أهمها أنه لما “عظم أمره وكبرت دولته” -على حد تعبير ابن بشر- كان الناس في القرى المجاورة قد تسامعوا به، وحين نزل الدرعية، زاره من كان قد سمع به، وتحدثوا معه، وعرضوا عليه البقاء في الدرعية، (وهذا خلاف رواية ابن بشر) ولكن لأنهم من سواد الناس، ولتجربته السابقة، لم يأخذ كلامهم مأخذًا جادًا، ثم زاره بعد ذلك وربما بدعوة من محبي الشيخ أخوا الأمير ثنيان ومشاري، وليس بالضرورة أن يكونا في وقت واحد، وكانا من محبي العلم، فتحدثا إلى الشيخ وأعجبا بما يقول، وقررا أن يحادثا الأمير محمد بن سعود بأمر الشيخ وأن يعرضا عليه استبقاءه في الدرعية، إلا أنهما ترددا بذلك خوفًا من غضب الأمير إذا علم أنهما قد التقياه دون إذن منه، وكان الأمير رجلاً مهيبًا -كما يقال- فقررا أن تكون مفاتحته في الموضوع عن طريق زوجته، التي ستقول: إنها “سمعت بهذا المطوع القادم من العيينة، وأن الناس يذكرونه بالخير، فلو يبعث ثنيان ومشاري يشوفونه ويأتون بخبره، فقد يكون خيرًا لنا”. قبل الأمير محمد بن سعود المشورة وطلب من أخويه مقابلة الشيخ، وأخبراه على استيحاء أنهما قد قابلاه ولم يسمعا منه إلا قولاً حسنًا، فقرر الأمير مقابلة الشيخ والحديث معه.
من الممكن القول إن الكاتبة قد اعتمدت على تقنية التلخيص، أو أنها اعتبرت أن تأثير امرأة الأمير كبير، وأنه هو الذي جعله يقبل كلام ثنيان ومشاري، إلا أن المشكلة الحقيقة ليست من صاحب الأثر الأكبر في موقف ابن سعود من ابن عبدالوهاب؛ زوجته أم إخوته، وإنما المشكلة الحقيقية وهي التي تدور عليها فكرة الفقرة المتصلة بهذا العنوان: “التراث التاريخي؛ البعث الديني والجندر”.
ذهبت الدكتورة الرشيد إلى أن شعبية الشيخ واندماجه في مجتمع الدرعية قائمة على تعاطف النساء، وإلى انتشار دعوته بينهن من خلال شبكة العلاقات النسائية بزوجة الأمير، هذه النسوة بدورهن قمن بإقناع أزواجهن بالترحيب بالشيخ وقبول دعوته. هنا سيأتي سؤال مفصلي، ومنهجي، إذا كان ابن عبدالوهاب لا يختلط إلا بالرجال -كما ذكرت الأستاذة- وهؤلاء النسوة يغلب عليهم الأمية والجهل، ولا يجدن القراءة أو الكتابة، فكيف يتمكن من معرفة دعوة الشيخ وتشكيل وجهة نظر حولها، والاقتناع بها حتى يتمكن من إقناع أزواجهن بعد ذلك؟
لم تطرح الموضوع بهذه الصورة، لكنها أشارت إلى ما يمكن أن يكون السبب العامل في جذب انتباه النساء واهتمامهن بالشيخ ودعوته، المتمثل بحادثة الرجم، والتي تمثل بالنسبة لهن موقفًا من النساء الخارجات عن النظام الأخلاقي -كما تقول- الاجتماعي، ليس بوصفهن ضد هذه السلوكيات بحد ذاتها وإنما بما يمكن أن يؤثرن على أزواجهن، فهؤلاء النسوة قد يوقعن أزواجهن بالضلال، ويسببن لهن انعدام الأمن في الزواج.
إذاً هذا الموقف من الشيخ ودعوته من وجهة نظر الدكتورة ليس بسبب الوعي بقيمة الإصلاح الاجتماعي، ولا بسبب الموقف من السلوكيات المحرمة دينيًا من قبل هؤلاء النسوة، وإنما بسبب الخوف من أن يذهب أزواجهن إلى تلك النساء، وأن ينافسنهن (النساء الغير منضبطات أخلاقيًا) على أزواجهن.
وهي وإن أوردت هذا السبب بصيغة الاحتمال، وهي الصيغة التي كان يسميها القدماء صيغة التمريض، فإن الربط بين النساء في الدرعية والمرأة في العيينة يبين أهمية هذه النظرة لديها، وهي أن إعجاب النساء في الدرعية قائم على موقفه من المرأة في العيينة ليس أكثر.
ومع أنها أقامت مقابلة بين المرأة التقية والمرأة “المنحلة” -إن صح التعبير- في رأي المجتمع إلا أن هذه المقابلة ليست ذات بال في تحديد موقف المرأة الذي يتلخص بالخوف على أزواجهن، والحذر من منافسة هؤلاء النسوة لهن عليهم. خاصة وأن الدكتورة مضاوي أكدت أن شعبية ابن عبدالوهاب كانت قائمة في المقام الأول على النساء، وهذا يعني أن هذه المقابلة لا قيمة لها في موقف المجتمع على وجه الخصوص لأن المجتمع بوجهه الذكوري غائب عن المعادلة، وأن موقف زوجة الأمير هو استجابة لموقف الشيخ من المرأة في الدرعية، هذا الموقف الذي تحدد بأنه يحارب المرأة “المنحلة” لأجل أن يحافظ للنساء على أزواجهن.
إذا كانت الكاتبة ترى أن موقف المرأة التقية المتحمسة للدعوة بسبب الخوف على الرجل، والمشاعر الأنثوية البحتة وليس له صلة بالوعي السياسي أو الاجتماعي، أو بما يقدمه من أفكار حيال التوحيد والعقيدة، فهل هناك تشييء للمرأة أكثر من هذا؟ لأن موقف النساء من الشيخ كما تصفه الدكتورة هو موقف بيولوجي بحت يقوم على غيرة الأنثى على الذكر وليس ناتجًا عن وعي اجتماعي لدى تلك النسوة؛ كأن يخفن على تفكك الأسرة، وضياع الأطفال أو السقوط في دائرة الفقر ومن ثم الانجرار نحو السلوكيات الخاطئة، وهذا ما يجعلها منحصرة في دائرة الجسد بوصفه مادة أي شيء.
عدد التحميلات: 0