العدد الحاليالعدد رقم 45ثقافات

الجدل وقود الفكر

دعك منه لا خير فيه، إنه إنسان مجادل!، حُكُمٌ كثيرٌ ما تضرب به الأجراس، وتُقرع به الأذان، ويطلق جزافًا على أحد المتحاورين أو المتناظرين، لأنه لا يَقْتَنِع بحجة القرين، ويسقط بين يديه ما يقدمه من دليل، حتى لو كان المحاج قوي البرهان والاستدلال. فما ذنب هذا الُمحاج؛ إذا تمتع بأصول الحجاج، وقوة البيان، وحسن الكلام. فما باله إذا كان المواجه؛ عن الحجاج محايد، وعن الإقناع مناكب!، هي قناعة لدى البعض أن صاحب الجدل مجرد مكابر، يفتعل المقالب، وجدُله يبقى غير محمود ولا مطلوب.

فعلًا من الجدل ما هو مذموم، نَصَّ عليه الشرع في القرآن الحكيم، ووردت فيه أحاديث النبي الكريم؛ قال تعالى: (وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ الزخرف: (58، وقوله: ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ) (غَافِر: 4). وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (ما ضَّلّ قوم بَعدَ هُدًى كانوا عَليهِ إلاّ أوتوا الجَدالَ) (رواه الترمذي وأحمد وابن ماجه والحاكم). فالشرع إذن واضح في دفع الجدل الذي لا رجاء فيه.

بالمقابل فإن للجدل أصل في الشريعة، فهو وسيلة لدعوة الآخر لخير هذا الدين، والقبول بسلطانه القويم، وقد عرف هذا النوع من الجدل بـ “الجدل المحمود”، لما فيه من حسن استماع، وخفض الجناح للوصول للحق المبين، قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل: 125)، أي بالحسنى والرفق واللين، دون فضاضة ولا تعنيف، وإيثار الوجه اليسير، والمقدمات التي هي أشهر.

ويعرّفه ابن حزم بأنّه: «إخبار كل واحد من المختلفين بحجّة، أو بما يقدّر أنّه حجّته، وقد يكون أحدهما محقًّا، والآخر مبطلًا، إمّا في لفظه، وإمّا في مراده، أو في كليهما، ولا سبيل أن يكون كلاهما محقين في ألفاظهما ومعانيهما». فهو يرى؛ أن الجدل هو الحُجج التي يعرضها الطرفان، فالتحاجج عنده هو لب الجدل. ويرى في قوله تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ) (الأنعام: 83): «إن الله تعالى أمر نصًا باتباع ملّة إبراهيم عليه السلام، وأخبرنا تعالى أن ملّة إبراهيم المحاججة والمناظرة، فمن نهى عن المناظرة والحجّة؛ فليعلم أنه عاص لله عزّ وجل، ومخالف لملّة إبراهيم».

وقد أجمع العلماء على مشروعية الجدل؛ فابن حزم رغم تحفّظه على علم الكلام، لم تغب عنه الأهمّية التي يوليها النّص القرآني للجدال، ولعملية النّقد عامة. وقد انتقد الاتجاه الدّاعي إلى رفض الحجاج، وإبطال الجدال، متّهما إياه بالغفلة عن جملة من مفاهيم ومصطلحات في النّص القرآني؛ دال على ألا يقبل قول أحد إلا بالحجّة والبرهان. ويبقى الجدل عنده هو المفاوضة، ومراجعة الكلام بين طرفين؛ للوقوف بالحجة على الحق، ورد الزيف والباطل. ويرى ابن رشد أن فائدة الجدل هو تعليم الجمهور (العلماء)؛ للوصول إلى العلم الحقيقي.

ويرى الفلاسفة أن الجدل هو السّعي للحصول على الحقيقة، والوصول إلى الصّواب من الجواب، وهو في جوهره أسلوب للتّعليم؛ بهدف إدراك الحقيقة، وهي قناعات منطقية وعقلية لا تقبل الميل والانحراف عن قواعد وآداب الجدل.

والجدل الذي نبتغيه، وندعو إليه، هو الجدل المحمود، الذي يُمَحِّصُ المذاهب، ويبين الحق فيها من الفاسد، ويعرض لأدلتها فيكشف الصادق من الكاذب، وينقل المسائل من مقام الظن والشك إلى مقام القطع واليقين؛ استنادًا إلى كتاب رب العالمين. وللجدل المحمود أركان وآداب وشروط؛ بل إن ابن خلدون يرى أن الجدل ليس إلا مجموعة الآداب والأركان. ويرى العلماء أنه يجب على المجادل أن يسعى للوصول للحقيقة، وأن يلتزم الوقار، وعدم الغضب، والتأني، والمقابلة بالوجه للمجادل؛ فإن للجدل نظام كامل وقواعد.

والالتزام بهذه الشروط والقواعد الآداب يقي من الزلل، والجدل العقيم. فلهذه القواعد أثر كبير في ترشيد الاختلافات، وتقديم الحلول، وتقريب وجهات النظر، والتقليل من التصادم، والوصول للحقّ. وقد تدعو الحاجة إلى التحاور مع الآخر لإجاد أرضية مشتركة للتّواصل والتحاور، بدل التنافر والتناحر. فالجدل يسمح بفتح باب الحوار، الذي يُحدث تقدمًا في النقاش، بديلًا عن حالة المراوحة أو التذبذب في المجتمعات، التي تشكو من ضعف أو غياب الجدل والحوار. وأساس الجدل في بعده وحقيقته أسئلة وأجوبة؛ سؤال في مواجهة سؤال، ودعوى في مواجهة دعوى، وعلة في مواجهة علة، ودليل في مواجهة دليل.

الجدل عامل مهم في تحريك الهمم لدى المثقفين والمتعلمين من أجل تحقيق نتاج فكري متنوع، فكل الناس مجادلون، والفرق بينهم؛ أن العامي لا ينتج جدلُه شيئًا، بينما ينتج جدل المثقف والمتعلم؛ فكرًا له قيمته المعرفية، وإِلْزَامِيَتِهِ الخُلقية والاجتماعية. وغياب المثقف والمتعلم عن ساحة الفكر مرده في الغالب ضعف تفاعله مع الجدل الدائر على مختلف المستويات، وعن القضايا المثارة، إما لضعف فيه أو إعراض منه.

وعليه لماّ التزم علماء الأمة وفقهاؤها في أزهى عصورها بآداب وشروط الجدل، انتهى ذلك إلى تدوين مؤلفات تحمل ديباجاتها أو متونها؛ رد مفصل على مسألة أو خلاف أو اعتراض، وقد مس هذا النوع من التأليف مختلف المسائل: لغوية، فلكية، حسابية، فقهية، وفلسفية؛ فبفضل الجدل أنتج العلماء المسلمون الموسوعات العلمية والفكرية، فقد مثّل الجدل وقودًا لحركة الفكر والتأليف.

ويمكن إدراك الأمر بقراءة مقدمات أو ديباجات مؤلفات الفقهاء والعلماء المسلمين، لذلك شغل الجدل العلماء فكتبوا فيه مؤلفات عظام، ومقالات طوال. ورغم ما يحمله هذا المصطلح من مظاهر للتصادم والتخاصم، إلا أنه يبقى دائمًا وسيلة لفتح باب الاجتهاد، دون وضع حد لأفقه أو تضييق لمساره. لذلك ينبغي أن يعطى لمسألة الجدل حكم الضرورة؛ إذ هو في مقام الدفاع عن الحق والعلم.

ولم يكن الجدل عند الفقهاء والعلماء مطلبًا في حد ذاته، أو مجرد ترف فكري، أو سياحة ثقافية دون ضوابط وقواعد، بقدر ما كان أرضية مشتركة لبحث المسائل، وتقديم الحلول، سواء بالتوافق أو التقارب، فقد مثّل وسيلة المقارعة والمجابهة الفكرية لإحقاق الحق، وإبطال الباطل. وهو أسلوب لكسر الخصم المُبْطِل، وتصحيح الأدلة وتمحيصها. واستعمله الأجداد أسلوبًا لتقديم الحق وتِبْيَانِه، وقمع الباطل وتزهيقه، وتنبيه الغافل وترشيده، وخذلان صاحب الباطل وتحجيمه، قال الخليفة العباسي المأمون، وهو صاحب السيف والسلطان: «غلبة الحجة أحب إلى من غلبة القدرة؛ لأن غلبة القدرة تزول بزوالها، وغلبة الحجة لا يزيلها شيء».

والجدل عند المنصفين من العلماء مهما تنوعت ثقافاتهم واختلفت مشاربهم؛ يبقى مبدأ للإثبات والاقناع، وأسلوب للاعتراض على أي ادعاء كاذب. يقول لاري بنجامين ميلر في نظرية الجدل الإسلامي إن العلماء المسلمين: «يرون أن الجدل يوصل إلى الحقيقة، والجدل معتمد عند أتباع الأديان الأخرى، وأنه طريق للحقيقة».

إن غرض الجدل الحميد؛ البرهنة لتحقيق الاقناع، وليس الغلبة والاسقاط. فقد مثل الجدل في تراثنا ثورة على التقليد غير المثبت بالحجة والدليل، كما ظل الجدل وسيلة في بناء المعارف العقلية، وإطار لترسيخ مبادئ نظرية المنطق، وعرض مراتب البرهان. والجدل كأسلوب للتقويم والتصويب يحمل طابع الكونية خدمة للإنسان. وحين غُيّب جدل الحوار؛ اتسعت الشقة، وحدث الصراع، وسالت الدماء، فإبعاد وسيلة الحوار، أو أية وسيلة للنقاش الهادئ دليل على الكبر الفارغ، والتعالي الكاذب، والخوف من مجابهة المخالف في هدوء وتواضع، والواجب أن يُقبل عرضه أو طرحه، الذي بين يديه إن كان للحق حامل، أو ردّه للحق الذي يُعتقد في يسر ولطف، ولا ينبغي رفع شعار الفرقة الناجية؛ كغطاء للتبرير ولتحامل، ولنرفع شعار (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة: 111).

وإنك لتعجب أن ترى أبناء الغرب في الغالب يتحاورون ويتجادلون في يسر واحترام طلبًا للحقيقة والتوضيح، بينما ترى الكثير من أترابنا في جدالهم كأنهم في ملعب ثيران، يستعملون السبّ والشتم والنعال، أو السكوت، والإنكار والتناقض في القول، والانتقال والاستطراد، والعجز عن التصحيح أو الجواب، ويغلب على الجدل والحوار في مجتمعاتنا طرح القضايا وعرضها من دون إحراز إجابات وإثراء لمثل هذه المسائل. وأخيرًا يبقى الجدل المحمود منحة ربانية، وفطرة إنسانية، منذ أن خلق الله آدم، وإلى يوم الناس هذا، فلا يعترض عليه إلا أخرق أو أحمق.

 

المصادر والمراجع

  1. ابن العربي المعافري: أحكام القرآن، ج3، تحقيق محمّد عبدالقادر عطا الله، (بيروت: منشورات محمّد بيضون ودار الكتب العلمية، 2003).
  2. عبد المجيد الصغير: فقه وشرعية الاختلاف في الإسلام، (القاهرة: رؤية للنّشر والتّوزيع، 2011).
  3. عبد المطيري: “الجدل عند الفلاسفة”، جريدة الوطن، العدد رقم 1137، (2006).
  4. عثمان علي حسن: منهج الجدل والمناظرة في تقرير مسائل الاعتقاد، ج1، (الرياض: دار إشبيليا للنشر، 1999).
  5. علي أبو محمد ابن حزم: الإحكام في أصول الأحكام، ج1، تحقيق الشيخ محمّد شاكر، (بيروت: دار الآفاق، د. ت.).
  6. لاري بنجامين ميلر: نظرية الجدل الإسلامي: الاستعمال والقواعد الحجاجية في الإسلام الوسيط، (برلين: سبرنغر للنشر، 2020).
  7. لطيفة كرميش: المنهاج الحجاجي لعلماء الأندلس، (ابن العربي أنموذجا)، مذكرة ماجستير في العلوم الإسلامية، أصول الفقه، (الجزائر: جامعة الجزائر1، 2013).
  8. نصر الدين الشيرازي: أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ج3، تحقيق محمد عبد الرحمن المرعشلي، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1418هـ).
Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

د. محمد صابة

الجزائر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى