
نظرات تصورية مقاربتية إلى فهم القرآن الكريم
إذا لم ينبثق عن الفلسفة واقع يجيب عن تساؤلات الإنسان الوجودية والحياتية والكونية، ولم تعط لهذا الإنسان حقه في الوجود، وأن يبني حاضره ومستقبله على ضوء ما يحلم به ويتطلع إليه، فليست بفلسفة، بل لا تعدو أن تكون مجرد سفسطة، وضربًا من المثالية الفارغة والعدمية المجحفة، فهي في حاجة ماسة إلى تعديل جذري في مسارها التفكري والنظري، وتقويم شامل في بناها المعرفية والنظرية والتصورية…
ولعلّ ما يؤرق كل ذي لب، ويقض مضجعه، أن يجد كمّا هائلاً من الفلسفات على اختلاف توجهاتها، وتباين أيديولوجياتها، وتضارب مذاهبها ومدارسها، تصول وتجول في حقول معرفية عديدة ومتنوعة، وتفرخ نظريات كثيرة ومختلفة في شتى صنوف العلوم والمعارف، وتغوص في الماورائيات والفيزيقيات بحثًا عن الحقيقة الضائعة والحلقة المفقودة.
ويبدو لي أن الفلسفة باعتبارها إعمالاً للفكر والنظر في كل ما يقع تحت حس الإنسان وإدراكاته، أو ما له علاقة بالمدركات الباطنية، فهي تعبد الطريق للإنسان بأن ينهض بكل ما يحقق وجوده، فهي ترسم له معالم الطريق لفتق مواهبه، وصقل تجاربه، وتخصيب إبداعاته…
فالله تعالى قد أحاط الإنسان بالعناية الشاملة، والرعاية الكاملة، وزوده بنعمة العقل، وأغدق عليه بفيض مننه التي لا تحصى ولا تعد، وأودع بداخله فؤادًا وقلبًا ينبضان حياة وحيوية…لذلك كله فإنه تعالى لم يدع هذا المخلوق المكرم يهيم في بحر لجي دامس لا يعرف مبتدأ مشواره في هذه الحياة، ولا يتبين مصيره المحتوم في هذا الكون الشاسع. حيث أضاء دربه الحالك بسراج منير، ووضع مصباحه بين يديه يستنير به في مسيرة حياته، وكان له منهاجًا ودستورًا يسير على هداه، ويتلمس فيه مكامن القوة التي لا تقهر، والعزيمة التي لا تفل.
لقد خصص له الله تعالى في محكم تنزيله مساحات شاسعة للتفكر، وفضاءات أرحب للتعقل وإعمال الفكر والنظر. كما رسم له خطوطًا عريضة، وخارطة طريق لمساره العلمي الطويل، وأعطاه إشارات واضحة ولامعة لا يزيغ عنها إلا هالك…
إن فضاءات القرآن الكريم مفعمة باللآلئ النورانية لا يصل إليها إلا من غاص بحثًا عنها، وسعى جاهدًا في طلبها من أصلها ومنبعها المقدس.
فرغم هذه المساحات التي لا شاطئ لها من المصابيح العلمية، والدرر المعرفية، نجد مع حسرة القلب هناك من يحاول الاستعاضة عنها، بقصد أو بغير قصد، بعلم أو بدون علم، بأشياء أخرى والالتفاف حولها وإعطائها قصب السبق عليها مخلاً بقانون التوزان الذي نبه الله إليه عباده في كثير من آيات التنزيل الحكيم. والأدهى من ذلك يحاول البعض ملء الفراغات الفكرية والمعرفية التي لها علاقة بشؤون الدين والدنيا بثقافة حدودية ظنية اختلافية، وفي بعض الأحيان تكون ارتجالية اعتباطية. وتاه آخرون في أمور وقضايا دينية، وهاموا بأفهامهم النسبية في تناولها ظانين أنها من صلب الدين ومن طبيعة القرآن الكريم. فأخذوا يفصّلون في مسائل الدين وشؤون الدنيا على أهوائهم، ومحصلات تفكيرهم الضيق، وأذواقهم العليلة، علمًا أن القرآن الكريم هو كتاب مفتوحة أبوابه يخاطب كل أصناف البشر باختلاف ألوانهم وألسنتهم وأجناسهم، بدءًا من نزوله على الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فهو يخاطب الجميع تارة بصيغة الخصوص، وتارة أخرى بصيغة يستوي فيها الجميع.
وكل خطاب موجه إلى هؤلاء جميعًا له مبادئه ومنهجه ومميزاته وخصوصياته، وقد يوظف في بعض الأحيان، وفي حالات خاصة عناصر مشتركة بين كل المخاطبين بالنص القرآني المقدس.
ففي القرآن الكريم، مع الأسف الشديد كما قلت آنفًا، مساحات وفضاءات واسعة المدى مازالت بكرًا، ومهجورة من قبل غالبية المسلمين، ولم تلق العناية الفائقة بها، بل الأدهى والأمرّ، لم تجد من يحفل بها، ويدنو من عتباتها بالمفهوم الصحيح. الكل يتشدق بأن الإسلام يدعو إلى العلم، وأن الإسلام هو الدين الذي أعطى الأولية الكبيرة لتعاطي مسائل العلم والبحث في مختلف قضاياه، وألاّ تعارض بين الدين والعلم، وهلم جرا من الكلمات الفضفاضة التي لا قيمة لها في هذا المقام، فهي كلمات حق وتبعاتها خلو من أي أمر محقق على أرض الواقع، وهنا لا أقصد الواقع بمفهومه الضيق كما هو مستكن في كثير من عقول هذه الأمة التي تدعي لنفسها أنها خير أمة من بين الأمم الموجودة على هذا الكون!! أقول هذا الكلام ليس حاقدًا على أحد، ولكن غيرة على الإسلام، وحبي الكبير الذي لا ينتهي لهذا الكتاب المعظم والمقدس الذي أنزل على خير البرية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. فقد جاءنا هذا النبي المبجل بهذا النور الرباني الذي لا ينطفئ سناه إلى الأبد. لكن هذه الأمة، وأخص بالذكر علماءها ومفكريها وعقلاءها ومن بيدهم صناعة القرار، وقوة الإرادة الفاعلة، لم تقدر هذه الأمانة حق قدرها التي وضعها هذا الرسول الأعظم بين أيديهم… علمًا أن من يملك هذه الهبة الربانية الواضحة المعالم، يستحيل أن يتردى في مسارب الجهل، ويسفل إلى قاع مراتب الأمم… فالقرآن من اتخذه رفيقًا في دربه، وعمل به سيبني المجد التليد لبنيه، وستعظم مكانته بين الأمم الأخرى، وسيكون مهاب الجانب، وسيُخطب ودُّه، وسيُقبل عليه في صَغار وذِلّة، وسيلمع نجمه بين المجتمعات المغايرة له.
فللنظر إلى وضعنا الحالي كيف أصبحنا، وكيف صرنا؟ فوضعنا لا يحسد عليه، بل يدعو إلى الرثاء على مكانته الوضيعة التي آل إليها…عار على أمة تحمل بين أيديها إكسير الحياة، وترياقًا لعلل مستعصية، وهي مازالت ترزح تحت براثن الجهل ومخالب الأمية، وأنياب التخلف، ووحشية العولمة والثورة التكنولوجية، ومذلة الأمم المتقدمة…
إن فهمنا لكتاب الله لم ينضج بعد، واهتماماتنا انصبت على جوانب محدودة جدًا، وأقفلنا على أنفسنا في دوائر ضيقة حسرى. واعتبرنا ما توصلنا إليه من خلال ذلك هو الإسلام، وهو ما دعا إليه الخطاب القرآني الكريم. فكانت الكارثة على الأمة الإسلامية. إذ تمخضت عن ذلك أفهام تخندقت في إطارات مذهبية، وتعصبات فكرية، وبرزت على السطوح الفكرية أشكال من التطرف الديني ذات الألوان الطيفية. وكما يقال قديمًا: نسمع جعجعةً ولا نرى طحينًا.
نحن لم نتدارس بعد البحث عن الكيفية الناجعة لقراءة القرآن قراءة علمية موضوعية صحيحة، تنطلق من بناء المفاهيم الصحيحة والسليمة للموضوعات التي تطرق إليها الذكر الحكيم، ومن التصورات المستخلصة من طبيعة القضايا والمسائل المبثوثة في فضاءات السور والآيات بدءا من سورة الفاتحة إلى سورة الناس.
فالتجزيئية التفسيرية فكرة مرفوضة أساسا في فهم آي القرآن الكريم، لأن القرآن يجب أن يقرأ ويفهم ضمن كليته، وعدم
فصل موضوعاته عن سياقاتها وأنساقها ومقاماتها. إن النص القرآني وحدة متكاملة ومتفردة.
ولعل من أهم المساحات الفكرية الواردة في القرآن الكريم المهجورة من قبل مفكرينا وعلمائنا وعقلاء أمتنا، والتي نحن في أمس الحاجة التوقف عندها والاهتمام بها، ولم تنل حظها من الدراسة والبحث والتحليل، ويُمَرُّ عليها كعابر سبيل، نذكر من هذه الفضاءات المنسية على سبيل الإجمال لا الحصر: العبادة- التقوى- الشكر- الاستقامة- العدل- العقل- العلم- التدبر- الحرية- التشريع- الذكر- الصدق- الحق…الخ
وتعتبر هذه الموضوعات من أبرز وأهم الغايات العليا في القرآن الكريم تم التغافل عنها أو هُجرت من قبل المسلمين ولما تصبح ثقافة عامة بعد، بل هي تكاد تكون غائبة في تراثنا العربي والإسلامي، فقد تداولها هذا التراث بشكل تجزيئي ومذهبي وبصورة ملتبسة ومضطربة، ولم تعط لها الأهمية اللازمة، ولم ترق إلى مستوى الموضوعات الأخرى التي استأثرت باهتمامهم، وسال لها مداد أقلامهم، ودونت من أجلها المصنفات الطوال، والمجلدات الغزيرة، سواء في علوم القرآن، أو علوم الحديث، أو ما شاكل ذلك في أبواب ومباحث أخرى…حتى وإن تناول بعضهم إحدى هذه الموضوعات فقد درست بكيفية يكتنفها كثير من الغموض، ولم تراع سياقاتها ومقاماتها الكلية، بل طغى عليها الطابع التجزيئي، والشروحات المتكلفة…
إن مشكلتنا اليوم، هي أننا تعاملنا مع كتاب الله بجفاء، ونتلوه بدون تدبر، واستعضنا عنه بأشياء أخرى، وغلّبنا الجانب التراثي المذهبي على أفهامنا ومناطق تفكيرنا، ولم نصطحب القرآن في رحلته الإيمانية، ولم يهتز له كياننا، ولم تتلاحم معه مشاعرنا وأحاسيسنا، وصرنا نحس وكأن هناك قطيعة بينا وبينه رغم أننا، كما قلت آنفا، نتلوه أو نخص له وردًا كل يوم، لأن هذه التلاوة لم تتجاوز حناجرنا، ولم ترق بعد إلى درجة القراءة الفاهمة والمتدبرة والمستكشفة. إننا مازلنا أُسارى لكتب التفسير التجزيئية، ومقيدين بأغلال ما أنتجه التراث الفكري المذهبي. فبدل أن نجعل القرآن الكريم نورًا أمامنا يضيء مسيرتنا العلمية والمعرفية والفكرية والتدبرية، جعلناه خلفنا واستعرنا مصابيح أخرى لتقوم بالمهمة التي نحن نريد تحقيقها.
فشتان بين النور الرباني الإلهي والنور البشري. فحلاوة الشيء يجب تنبع من مصدره. فالذي يرغب في الوصول إلى تذوق حلاوة كتاب الله، والاستمتاع بفيء ظلاله، عليه أن يغوص في أعماقه، ويسبح بفكره وعقله في مياه آياته، ويتأمل بديع أكوانه ومخلوقاته.
إن القراءة السليمة للقرآن الكريم يجب أن تصدر من طبيعته الداخلية، وهذه الطبيعة هي التي تفرض علينا طبيعة المنهج الذي سيساعدنا على ولوج بواطن النص القرآن أو الخطاب القرآني. إنها قراءة فاهمة متدبرة بعيدة عن الهوى، هوى الايديولوجيات الدينية، وتوجهات بوصلة كتب التراث المذهبي الميت، ومن كل هوى سياسي أو من كان على منواله وخيوط نسيجه.
يجب أن نرتقي بالقراءة والفهم والتدبر والإدراك إلى مستوى ما تقتضيه طبيعة القرآن الصافية الناصعة. كما ينبغي، ونحن نتدارس ونتباحث موضوعات التنزيل الحكيم، أن يخالج صدورنا وأفئدتنا شعور وإحساس بعظمة ما يثيره النص القرآني من حقائق ومعلومات دفينة وعميقة، وشعلات نورانية إيمانية تدفئ شغف بحثنا وحرارة تطلعاتنا واستكشافاتنا الفكرية والوجدانية، وكأن آياته المبينة حديثة النزول.
فالحاصل، أننا أقمنا سياجًا سميكًا بيننا وبين التنزيل الحكيم، بحيث لا نحياه قلبا وقالبا فنتفاعل مع ما اشتمل عليه من قيم وتشريعات وشعائر.
إن نهضتنا وتقدمنا والسير قدمًا إلى الأمام نحو المجد والعظمة والتميز لن يتحقق إلا بعودتنا إلى كتاب الله عز وجلّ، والعودة هنا ليس ما يتردد على لسان الفقهاء والعلماء فوق المنابر وفي قاعات المحاضرات في بعض الأحايين، كلام في كلام كأننا نضرب الصفر في فراغ فلن تتغير النتيجة، فالخارج دائما يكون الصفر، وعبثًا ننتظر أن تكون النتيجة إيجابية. فالعودة المقصود بها هنا بمعناها العميق والعملي والتفعيلي.
علينا أن نعرض أنفسنا على كتاب الله عز وجل ونجري الفحوصات الدقيقة والميدانية على ضوء آياته البينات والمبينات، ونتعرف على مواطن خللنا، ثم ننتقد ذواتنا بكل أمانة وموضوعية، ولا تأخذنا العزة بأنفسنا تجاه نواقصنا، فاكتشاف الداء يمهد لنا الطريق للبحث عن العلاج للعلة المحدقة بنا. فالقرآن الكريم هو الطاقة الروحية الربانية التي نستمد منها عناصر قوتنا وصلابتنا وصمودنا وآليات تغيير ما بدواخلنا من علل ونقائص. وهو المحرك لكوامن طاقتنا الداخلية، وهو الذي يزودها بالحرارة والأدوات العملية والحركية والإنتاجية.
فنتيجة الفحوصات تلك، هي التي ستحدد لنا الأسباب المباشرة وغير المباشرة من وراء أمراضنا وعللنا، وبالتالي ستبرز لنا معالم الطريق الصحيح الجاد، وستلهمنا الصواب في انتهاج السبيل الأجدر بالاتباع. فالتغيير ينبغي أن يصدر من الداخل، أي من داخل ذواتنا، لا من ذوات غيرنا، وأن ينطلق من نقطة التعرف على الداء ثم محاصرته لإيجاد الدواء المناسب له دون أن ندعه يستفحل وينتشر في كل جزء من أجزاء أنفسنا. فهي عملية تبدو لنا، للوهلة الأولى أنها صعبة وعسيرة، وتتطلب جهدًا أو جهودًا مكثفة لتحقيق ما ننشده من جراء هذه العملية التغييرية. هكذا قد يبدو للبعض من أفراد أمتنا، ولكن الأمر عكس ذلك…لأن التنزيل الحكيم لم ينزل على أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلا لتتدبر آياته، وتفهم مقاصده، وتعمل بتعاليمه وتوجيهاته، ولا يحجر ويحنط في قوالب جامدة فارغة من الحياة. وهو مفتوح على الجميع، ليؤمن به من يؤمن من الناس عن علم ومعرفة لا عن جهل وإمعة وتبعية عمياء. وهو ليس مقصورًا على فئة مخصوصة دون أخرى، وليست عليه وصاية أحد من البشر…فهو كتاب محفوظ من رب المخلوقات كلها، وهدى وهداية للعالمين جميعًا. وهو صالح لكل زمان ومكان، ولكل الأمم والمجتمعات على اختلاف أجناسها وألوانها وألسنتها ومواطنها. فتبقى كيفية التعامل مع هذا التنزيل الحكيم، وكيفية الإقبال عليه، وطبيعة العلاقة التي تربط المقبل عليه به، والمقصد الذي يحرك الدارس لكتاب الله في الإفادة منه. والنتيجة تكون بقدر القصد المرغوب فيه، وبقدر النفوس المقبلة عليه من خلال هذا القصد، وبمدى سلامة العقول وصحة الألباب التي تتوق إلى اكتشاف خفاياه، واستكناه معانيه، وإدراك بعض حقائقه.
إذا، فنحن أمام مقاصد ونفوس وعقول قد تكون متباينة ومختلفة، ويترتب عن ذلك اختلاف أفهامنا ومداركنا، والحقائق التي قد نتوصل إليها. ولذلك فالأمر يقتضي منا أن تتضافر جهودنا، وتتوحد جميعًا في الاشتغال على كتاب الله علنا نقترب من بعض الحقيقة الدفينة في ثنايا آياته وسوره.
وبموازاة ذلك، يجب إعداد عقول موهوبة، ونفوس زكية، وبناء فكر عادل تواق إلى حب المعرفة والعلم اللذين يشتمل عليهما القرآن الكريم، حتى يتحقق المطلوب الحقيقي من تلاوته، وتدبر آياته.
فإذا أدركنا هذه المقتضيات غاية الإدراك، وفهمناها جيدًا على وجهها الصحيح والسليم بعيدًا عن كل أشكال الهوى، هوى العصبية المذهبية، والوصايات السلبية، والتوجهات التلفيقية، حينئذ نكون قد دنونا بعض الشيء من التصور الفلسفي الذي يقربنا لحد ما إلى فهم روح الفلسفة القرآنية. وبالتالي سيكون لها آثار إيجابية على سلوك الفرد والجماعة في المجتمع الإسلامي.
لابد من إيجاد إطار نظري وفلسفي ينظّر لهذه المسألة. لأنها في غاية من الأهمية، إذ لا يمكننا إدراك مضامين وجوهر تلك الموضوعات إذا لم نتسلح بعقلانية منفتحة على شتى العلوم المعاصرة والحديثة، وعلى كل المستجدات العلمية والمعرفية في مختلف حقول ومجالات المعرفة الإنسانية المنبثقة عن الثورة التكنولوجية أو ثورة المعلومات والمعرفة الرقمية.
إن منطلقاتنا الفكرية كانت غير سليمة. فكثيرا ما كنا، وما زلنا نردد، نحن المسلمين، أن القرآن صالح لكل زمان ومكان، وأنه دستور المسلمين عامة وليس حكرًا على المؤمنين بالرسالة المحمدية فحسب، وأنه كذا وكذا…ودائمًا نختم تلاوتنا له بــــ(صدق الله العظيم) لكننا مع الأسف الشديد، والأسى العميق، اتخذنا هذا القرآن مهجورًا، كما ورد في التنزيل الحكيم على لسان رسوله الكريم: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)[ الفرقان: الآية 30 ].
فعن أي صلاحية نتحدث، وعن أي ريادة ودسترة نتبجح؟!
إنه لأمر غريب، ويدعو للسخرية والضحك. فأين تجليات هذه الصلاحية، وأين هي مظاهر هذه الصّدقية من خلال منتجات أعمالنا، ومجهودات عقولنا في مسيرتنا العلمية والمعرفية، وإسهاماتنا المتميزة بين المجتمعات الدولية في مجالات الابتكارات والاختراعات العلمية والتكنولوجية، وقدراتنا وكفاءاتنا في ميادين الفيزياء والرياضيات والهندسة والكيمياء وعلوم الطبيعة والفضاء وغيرها…؟!
كيف يكون الحال ونحن نلاحظ، وقد كرسنا ذلك واقعيًا، أن العلم الذي تكرر ذكره في مواضع كثيرة من التنزيل الحكيم لم يسلم هو الآخر من التحوير والمزايدة عليه، إذ قسمه علماء المسلمين، سامحهم الله، حسب هواهم وذوقهم وبوصلتهم الموجهة، إلى فرض عين وفرض كفاية، فعندهم كل ما له علاقة بالدين والشريعة فهو فرض عين يجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلمه والاشتغال به والتبحّر فيه، وأما العلم فرض كفاية فهو مرتبط بحياة المسلمين ودنياهم، فإن قام به البعض سقط عن الآخرين، وهنا كانت الرزية القاتلة والمصيبة القاصمة، وكانت الضربة القاضية التي أصابت هذه الأمة في مقتلها، وكان من نتائجها المباشرة ما نراه من آثار التخلف والجمود والخمول والتراخي والتبعية والاتكالية… لأن فهمنا وتصورنا للعلم كان خاطئًا منذ البداية. فالذي يفرق بين الدين والدنيا كمن يفرق بين الروح والجسد، فالله خلق الإنسان وجعل له كيانًا مكونًا من المادي واللامادي في توازن واعتدال وفي أحسن تقويم، وأوجده على هذه البسيطة ليعيش بعقله وقلبه وجسده، وكل هذه الأمور آليات مسخرة للإنسان كي يعبد الله وحده لا شريك له، بمفهوم العبادة الشمولي لا بمفهومها التجزيئي الحسير المنحصر في بعض الشعائر وبعض الأشكال الطقوسية كما توهم بعض علمائنا مع الأسف الشديد.
لقد حدث خلط في تقديرنا للأشياء، وتشاكلت على عقولنا وأذهاننا أمور تراكمت عبر الماضي، وتكلست من خلال مرور الزمن، واعترضت سبيلنا نحو إكمال الطريق للارتقاء والتقدم والتميز بين الأمم الأخرى التي كانت تعيش عصر الظلمات وأحلك أيام زمانها.
وعليه، فيجب علينا تصحيح منطلقاتنا الفكرية والعلمية والفلسفية، وتغيير مناهج وبرامج تعليمنا، وتشجيع البحوث العلمية الابتكارية، ورعاية الطاقات الموهوبة والمبدعة، ولن يتأتى هذا وذاك إلا بعد وجود الإرادة الصادقة في التغيير الداخلي أولاً، ثم بناء وتشييد الأساس والقاعدة التي سيبنى عليها هذا الصرح العلمي الفعال والمنتج…
فالأمة إذا أرادت أن تتقدم وتزدهر، وتحتل مكانة مرموقة بين الأمم الأخرى فلن يقف أمام اختيارها هذا أي معوقات وعراقيل. فبفهمها الصحيح لآيات التنزيل الحكيم والاعتصام به، وبإرادتها الصلبة، وعزيمتها الفولاذية، وتوكلها على الله الراسخ بمفهومه الإيجابي، وأخذها بالأسباب الحقيقية، والعمل بمقتضيات التمكين لنفسها في الأرض، ورغبتها الأكيدة في التغيير، ستصل ولا محالة إلى ما تتوق وتتطلع إليه إن شاء الله تعالى، وبدون ذلك لن تبرح مكانها، وستبقى أبد الدهر بين الحفر، ولن يكون لها قيامة بين الأمم والمجتمعات الراقية والمتقدمة…
عدد التحميلات: 0