العدد الحاليالعدد رقم 43ثقافات

حكايات الكونت لوكانور تُخلّد إرثًا عربيًا في شبه الجزيرة الإيبيرية

يُعدّ “الكونت لوكانور” من أهم الأعمال الأدبية الإسبانية في العصور الوسطى، من وحي قلمه، نسج الكاتب الإسباني “دون خوان مانويل” عام 1335 حوارات ومسامرات شيقة بين بطلي الكتاب: الكونت لوكانور ومستشاره الحكيم باترونيو، يبرز ذلك بشكل خاص في الجزء الأول من الكتاب، الذي يتضمن 51 قصة وحكاية، تُشكّل لوحة فنية غنية تُجسّد مختلف جوانب الحياة في تلك الحقبة الزمنية. تتنوّع هذه الحكايات لتشمل قصص تاريخية ودينية وأخلاقية، فضلًا عن حكايات شعبية مستوحاة من الفولكلور الإسباني. وتُعدّ هذه الحكايات بمثابة نافذة نُطلّ من خلالها على عادات وتقاليد وثقافات الشعوب التي عاشت في شبه الجزيرة الإيبيرية، ممّا يُضفي على الكتاب قيمة ثقافية وتاريخية هائلة. وتُقدّم دروسًا أخلاقية قيّمة. يظهر التأثير العربي بوضوح في العديد من الحكايات المشابهة لقصص “كليلة ودمنة” و”ألف ليلة وليلة”(Moreau De Justo,2018: p.12)  (1) ،، بالإضافة إلى استخدام الأمثال العربية، مما يُضفي على الكتاب قيمة ثقافية وتاريخية كبيرة.

ولد دون خوان مانويل في السادس من مايو عام 1282م في قرية إسكالونا بقشتالة، لعائلةٍ ملكيةٍ عريقة فقد كان إنفانتي (أمير) قشتالة.(2)  نشأ في بلاط عمّه الملك ألفونسو العاشر “الحكيم”، ممّا وفّر له تعليم راقي شملا اللاتينية والعربية. تأثّر بشكلٍ كبيرٍ بالثقافة العربية، ممّا انعكس بوضوحٍ على أعماله الأدبية(3) (Manuel Cacho, 2015) توفي عام 1348 في مدينة قرطبة.

برز دون خوان مانويل كقائد عسكري بارع شارك في العديد من الحملات العسكرية ضد المسلمين، ومارس السياسة بذكاء وشغل مناصب قيادية مهمة في مملكة قشتالة(4)( (Gimenez  Soler: 1931: p.10-13. يُعدّ من أهم كتّاب العصور الوسطى في إسبانيا، واشتهر بكتابه “الكونت لوكانور”، الذي يتضمن مجموعة من الحكايات والمواعظ التي تقدم دروسًا أخلاقية وفلسفية، وتعكس التأثير العربي على الأدب الإسباني(5)(حسن نائل، 1934: ص 20) ، مثال على ذلك حكاية “الأب وابنه والحمار”، والتي تسمى في كتاب دون خوان مانويل “القصة الثانية: ما حدث لرجل طيب مع ابنه ص18″، ويقول فيكتور دى كاسترو  إن قد جمعها المغربي أبو الحسن علي بن سعيد (610/1214-685/1286) -لأول مرة- في كتابه “المغرب في حلي المغرب”.(6) (Castro León, 2018: p.129) انتشرت هذه الحكاية على نطاق واسع في العالم الغربي (القرون الثالث عشر – السابع عشر)، حيث تم استخدامها في البداية كمثال في مجموعات الخطب والأعمال الأخلاقية، ثم أصبحت جزءًا من مجموعات القصص.

نستنتج أن تلك القصة تُعدّ جسرًا بين عالَمين، عالم ابن الخطيب في “أعمال الأعلام” (7) (LA CARRA, 2015: p.129) وعالم دون خوان مانويل في “الكونت لوكانور” ففي رحلة البحث عن إجابة لسؤال “هل كانت هذه الحكاية هي الوحيدة التي استخدمها ابن الخطيب؟”، نكتشف أن ابن الخطيب لم يكن استثناءً في استخدامه للأمثال والحكايات، بل سلك نفس الدرب الذي سار عليه دون خوان مانويل. ابن حزم القرطبي والسفير يشهدان على استخدام ابن الخطيب للأمثال العربية في خطبه وأحاديثه، بينما يشير السفير إلى استخدامه للأمثال من مختلف الحضارات، حيث إن استخدم ابن الخطيب الحكاية ليكشف عن سلوك الشعب غير الممتن والثائر ضد الأمير هشام الأول، محذرًا من مخاطر التمرد على الحاكم.

ففي كتابه “أعمال الأعلام” يروي ابن الخطيب الحكاية كاملة، مع التركيز على تصرفات الأب وابنه المتناقضة تجاه الحمار، والتي تعكس سلوك بعض الناس تجاه حكامهم. ويرى أن تصرفات الأب وابنه تعكس جحودهم ونكرانهم للجميل تجاه الأمير هشام الأول، الذي قدم لهم العديد من الخدمات (8) (Castro León, 2018: p.131).

صوّر دون خوان مانويل في حكاياته تغيير رأي الرجل وابنه حول كيفية حمل الحمار مع كل نصيحة يتلقيانها، معلمًا بذلك أهمية التفكير المنطقي وتقييم الخيارات المختلفة قبل اتخاذ القرار. تتضمن حكاياته دروسًا أخلاقية وحياتية تعكس هويته المتعددة وعلاقته بالعالم الإسلامي. في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، تميزت شبه الجزيرة الإيبيرية بتقاطع التقاليد الثقافية العربية واللاتينية، حيث جُمعت القصص والحكايات ذات الأصول المختلفة ونُشرت كتابةً. هذا التداخل الثقافي جعل تتبع تطور هذه المواد صعبًا. وكما قالت ماريا خيسوس لأكارا، تُبرز الحكايات سمات الأدب في العصور الوسطى وتصعّب دراستها: “تُبرز الحكايات جميع السمات المميزة للأدب في العصور الوسطى وتُصعّب دراستها، مثل عدم وجود قاعدة محددة، وارتباطها بالسرد الشفهي، وحدودها الزمنية غير الدقيقة، وغياب المؤلف في كثير من الأحيان، والنوع الأدبي، واندماج التقاليد […] تُعتبر الحكاية مجالًا مثاليًا لاكتشاف تقاطع الثقافات الشرقية والغربية، الرومانسية، والسلتية، والجيرمانية، الشفهية والمكتوبة”.(9)(أعمال الأعلام ص 12-13)

ما يهمنا أكثر في هذا السياق، خاصة فيما يتعلق بالدراسة التي تعتزم ما نعرضه وهو إبراز الترابط بين التقاليد الثقافية العربية واللاتينية في شبه الجزيرة الإيبيرية بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر. ففي هذه الفترة، بدأت مجموعات القصص والحكايات والأمثال، ذات الأصول اليونانية اللاتينية والهندية والفارسية، والتي انتقلت شفهيًا في الغالب، تُجمع وتُنشر كتابةً، خاصة في أوروبا المسيحية في العصور الوسطى. وبعد مرور هذه المواد عبر العالم العربي، حيث تم تكييفها مع سياقها الثقافي، وصلت إلى أوروبا الغربية في العصور الوسطى وشبه الجزيرة الإيبيرية. وفي رأينا نتيجة لذلك، أصبح من الصعب أحيانًا تتبع مسار هذه المواد وتطورها.

استخدم دون خوان مانويل العديد من الأمثال العربية في كتاباته، تأثّر أسلوبه باللغة العربية، ممّا أضفى على أعماله سحرًا خاصًا. أيضا تميز أسلوبه بالوضوح والسلاسة، واستخدامه للغة العربية المُستعارة في بعض الأحيان. فنشأته في بيئةٍ ثقافيةٍ غنيةٍ بالتأثيرات العربية، حيث كانت إسبانيا في تلك الحقبة خاضعةً للحكم الإسلامي لعدة قرون. تعلم دون خوان اللغة العربية، وتأثر بشكلٍ كبيرٍ بالثقافة العربية، في هذا السياق استخدم دون خوان مانويل الأمثال العربية المترجمة كخاتمة لكل حكاية، ممّا يعزّز ارتباطها بالقصة ويُسهّل تذكرها.

وتعتبر الحضارة الإسبانية نتيجة لذلك الفتح الذي ضم في أحضانه الثقافات الأخرى (النصرانية، اليهودية) نموذجًا حيًا، حيث تنصهر تلك الثقافات في بوتقة واحدة مكونة تلك الحضارة العظيمة، فنرى أن كتاب “الكونت لوكانور “لدون خوان مانويل يقدم شواهد على وجود شخصيات مسلمة موصوفة بوضوح، ممّا يُشكل دليلاً إضافيًا على تأثره بمصادر شرقية، سواء أكانت قريبة أو بعيدة. تُشير جميع القصص (24، 30، 32، 35، 41، 50) إلى أصول شرقية (Manuel Cacho, 2015) .

تُعدّ هذه المعلومات جوهرية لفهم أصول الكتاب، وفي رأينا تكتسب الإشارات إلى المسلمين أهمية خاصة لفهم رؤية دون خوان مانويل، سواء تعلق الأمر بدورهم المركزي في القصص أو تحليلهم الداخلي. مع بعض الاستثناءات، يُحافظ مانويل على تيار الخوف من المسلمين السائد في القرن الثالث عشر، حيث يُصوّرهم كأعداء، سواء من الناحية الدينية أو العسكرية. وبالنسبة للنظرة سلبية تجاه المسلمين، خاصّةً في سياق الحروب. حيث يُصوّرون كأعداء مكافئين للمسحيين، في خضمّ هذه المعضلة، يُقدّم باتروني نصيحته للوكانور للتكفير عن ذنبه، مُشدّدًا على ضرورة التوبة والتخلي عن الغرور، وأن يصبح فارس لله يخدمه ضدّ المسلمين في البر والبحر في القصة 28 لدون لورينزو سواريز غاليناتو ص147 ” سيدي الكونت – قال باترونيو،- كان دون لورينزو سواريز غاليناتو يخدم الملك العربي في غرناطة، وعندما عاد لخدمة ملك قشتالة، الملك فرناندو، قال له بما إنه أساء إلى الله كثير عندما ساعد المسلمين ضد المسيحيين، فلن ينال رحمة الرب أبدًا، وإنه عندما يموت سيفقد روحه”.

وأخيرًا، لا يكتفي مانويل بسرد الحكايات، بل يُدخلنا في رحلة استكشافية لهويته المتعددة، بين مسيحيته وإيمانه بأمجاد الحضارة العربية. يُقدم لنا “الكونت لوكانور” نظرة معقدة على “الآخر المسلم”، ممزوجة بين الرفض والقبول، بين العداوة والإعجاب.

ولكن من ناحية أخرى، يُقدّم بعض المسلمين نماذج إيجابية يُمكن لدون خوان مانويل أن يتماهى معها، مثل ولائهم وثباتهم وتطبيقهم لعاداتهم المتعلقة بالخلافة. ويُظهر هذا التناقض تعقيد العلاقة بين دون خوان مانويل والعالم الإسلامي، حيث تتداخل العوامل الدينية والسياسية والشخصية في تشكيل نظرتِه.

يُجسّد دون خوان مانويل في كتابه هويات متعددة، حيث ينسج على خيوط السرد استراتيجيات خطابية وبلاغية مُختلفة. وتتنوع هذه الهويات ما بين الصورة الذاتية التي يصنعها لنفسه، والدور الذي يُمثّله في سياق اجتماعي معقد، والنظرة التي يُلقيها على “الآخرية” بمختلف أشكالها. ويُظهر لنا دون خوان مانويل كيف تتفاعل هذه الهويات وتتطور بمرور الوقت، مُتأثرةً بالتجارب والتحديات التي يواجهها. ويُعدّ هذا الكتاب شهادة على براعة دون خوان مانويل ككاتب وكمفكر، حيث يُلهمنا للتفكير في مفاهيم الهوية والاختلاف والتفاعل بين الثقافات.

 

المراجع:

 

 (1) Moreau De Justo, Alicia.  “El Conde Lucanor y El Elemento Árabe”, IES N. 1, 2018.

(2)  https://journals.openedition.org/e-spania/24697?lang=en

(3)  Manuel Cacho Blecua, Juan. “El conde Lucanor de Don Juan Manuel. Construcción retórica y pensamiento político ‎”, e-Spania,n.21,2015.

 (4) Gimenez Soler, Andrés. Don Juan Manuel. Biografía y estudio crítico, Zaragoza: Tipografía, La Académica, 1932.

(5) كليلة ودمنة، طبعة محمد حسن نائل، القاهرة، 1934، ط 5.

(6)  Castro León, Víctor. “Confluencia de tradiciones en al-Andalus: Ibn al-Jaṭīb y su versión de la fábula griega de “El lobo y el cordero” y del cuento oriental de “El lobo y el carnero”, Anaquel de Estudios Árabes, 2018.

 (7) LACARRA, Mª Jesús. “El cuento medieval: cruce de culturas”, en Revista de Poética Medieval 29 (2015) .

(8) Castro León, Víctor, op.cit.  (تم ذكر المرجع سابقًا)

(9) تاريخ اسبانيا الإسلامية أو أعمال الأعلام في من بويع من قبل الاحتلام من ملوك الإسلام، تحقيق أ. ليفي بروفنسال، دار المكشوف.

(10) دون خوان مانوييل. الكونت لوكانور، ترجمة: شيماء مجدي، دار إشراقة، القاهرة، 2024.

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى