
هل تعلُّم النحو بات ترفًا؟!
في لقاءٍ على إحدى المحطات الفضائية العربية، استُضيفت سيدة يُقال إنها أستاذة في اللغة العربية، وكانت تطرح وجهة نظرها بأن تدريس مادّتَي النحو والصرف لا يخدم اللغة العربية، ولو كان الأمر بيدها لألغت ذلك كلّه.
ورأت أن أفضل طريقة لتعلّم اللغة العربية هي القراءة، وأن علينا أن نُشبع أبناءنا قراءة، بل نُغرقهم فيها، فهم – على حدّ قولها – سيتعلّمون اللغة بالسليقة.
وكما هو الحال في أي حوار، انقسم الناس في آرائهم بين مؤيّد ومعارض.
لكن، قبل أن نحكم على رأيها بالصواب أو الخطأ، دعونا نبحر في كتاب “كليلة ودمنة”، ونستعرض هذا النص منه:
“قَالَ الْفَيْلَسُوفُ: إِنَّهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَمْرِهِ مُتَثَبِّتًا، لَمْ يَزَلْ نَادِمًا، وَيَصِيرُ أَمْرُهُ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ النَّاسِكُ مِنْ قَتْلِ ابْنِ عِرْسٍ. وَقَدْ كَانَ لَهُ وَدُودًا.”
لذا، دعونا نناقش هذا الرأي بموضوعية وحياد.
ولعلّنا نورد هذا المثال لتتّضح الصورة للعقول:
إن ما قالته تلك الأستاذة الفاضلة لا يعدو أن يكون كمثل رجلٍ أقام وليمةً عظيمة، وأمر بإعداد أشهى الأطعمة وأفضلها، بل أمر بتحضير جميع الأصناف من اللحوم والحلوى والمشروبات، فغدا منظرها يُغري العين، حتى وإن كانت الحاجة إلى الأكل مفقودة.
لكن ضيوفه الكرام، ما إن تحلّقوا حول تلك المائدة، حتى تفاجؤوا بغياب أدوات الطعام؛ فلم يضع لهم مضيفهم الكريم صحونًا يغرفون بها، ولا ملاعق يتناولون بها الطعام، بل إنه قيّد أيديهم!
فهل يقول عاقلٌ بعد ذلك إن هذا المضيف أكرم ضيوفه وأحسن إليهم؟
الجواب حتمًا: لا.
بل إن كل وصف قد يُقال عنه، إلا أن يُوصف بالفهم في أمور الكرم والجود.
وهذا هو حال من يقول: لنتعلّم العربية ونعشقها، ولكن دون أن نبذل جهدًا في فهم قواعدها أو نغوص في أسرار جمالها.
كيف نطالب بفهم اللغة العربية وقراءة كتب مثل “كليلة ودمنة”، ونحن لم نعلّم أبناءنا أن “العَجْلان” صفة تعني المتسرّع، وأن الصفة تتبع الموصوف في الإعراب؟
فلا يصح أن يُقال: “شاهدتُ الرجلَ العَجْلانُ”، لأن الصفة لا تتبع الموصوف المنصوب إذا جاءت مرفوعة.
إن معرفة النحو والصرف وإعراب الجمل ليست ترفًا، بل واجبٌ على كل عربي يعتزّ بلغته ويفخر بها.
كيف يستقيم اللسان إن لم نتعلّم مواضع الحركات؟ وكيف نضبطها إن لم نتعلّم أصول النحو والصرف؟
إن اللسان العربي الفصيح لا يثقل عليه ذلك، أمّا من خالط لسانه اللحن والعامية، فهو من يستثقل قواعد اللغة.
ومثل قول هذه الأستاذة، قولُ من يرى في دقة المدقّق اللغوي تشدّدًا لا مبرّر له.
فمن لا يرى بأسًا في كسر المرفوع أو نصب المجرور، عليه أن يُراجع فهمه لمحبّته واعتزازه بلغته.
بل إن كثيرًا ممن يكتبون اليوم عن ضياع اللغة العربية، كانوا بالأمس من أشدّ المعارضين لصرامة المدقّقين اللغويين في جامعاتنا!
وهم أنفسهم مَن أفرزوا كتّابًا وأدباء يلحنون في خطاباتهم المتلفزة، وهم المسؤولون عمّا نراه اليوم من أخطاء تعجّ بها الصفحات الثقافية.
وإن كنتُ من الذين لا يحبّون الشدّة، إلا أنني أراها ضرورية في تعلّم اللغة العربية، خاصة في جامعاتنا.
ويحضرني في هذا السياق موقفٌ لأستاذ جامعي – بروفيسور في قسم الإدارة – وبّخني بسبب خطأ لغوي في رسالتي، مما دفعني إلى إعادة الرسالة، والحرص الشديد على ألا يكون فيها أي خطأ لغوي.
ومن هنا تعلّمت أن أحرص على سلامة رسالتي العلمية، وأن أعرِضها على أكثر من مدقّق، بل أن أراجع ما أكتب بأعين فاحصة بعد كل مدقّق.
ولن تُحرَم اللغة العربية من التألق والبقاء، ما دام في ظهرها مثل هذا الأستاذ الجامعي.
عدد التحميلات: 0