أمراض المجتمع الباكستاني برواية لنديم أسلم
فكر- الرياض:
حين وصل الجنرال محمد ضياء الحق إلى سدة الحكم في باكستان عام 1977 وفرض الأحكام العرفية هاجرت عائلة الكاتب الباكستاني نديم أسلم إلى بريطانيا، وكان في سن الـ14.
في مدينة يوركشاير اضطر والد أسلم إلى العمل في جمع القمامة كي يعيل زوجته وأطفاله، أما هو فاضطلع بتدجين اللغة الإنجليزية التي كان يجهلها كليا قبل أن يكتب بها في سن الـ27 روايته الأولى "صراخ طائر المطر" (1993).
وكانت رواية أسلم رواية حنينية بقدر ما هي مريرة، لكنها لم تنل حقها من الاهتمام لدى صدورها، ولعل هذا ما يفسر إعادة نشرها مؤخرا في لندن بالتزامن مع صدور ترجمتها الفرنسية عن دار "سوي" الباريسية.
حكاية طغيان
تنقلنا أحداث الرواية إلى باكستان في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، حيث كان القمع سائدا على يد "جنرال دموي" لا يسميه أسلم أبدا في نصه، لكن لا يصعب علينا التعرف إلى محمد ضياء تحت ملامح هذا الطاغية الذي "لن نتمكن من طرده إلا بالديناميت".
"أحداث الرواية تنقلنا إلى باكستان في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، حيث كان القمع سائدا على يد "جنرال دموي" لا يسميه أسلم أبدا في نصه، لكن لا يصعب علينا التعرف إلى محمد ضياء تحت ملامح هذا الطاغية الذي "لن نتمكن من طرده إلا بالديناميت""
وفورا يزرع الكاتب الخوف بسرده الذي ينقلنا إلى بلدة صغيرة بدأ يرتفع فيها صراخ طيور "بابيهاس" المهاجرة التي تعلن عودتها نهاية فصل الجفاف الطويل وبداية فصل الأمطار.
ففي الصباح -الذي تنطلق فيه أحداث الرواية- نرى إمام أحد المسجدين الموجودين في البلدة مولانا حافظ يتحضر لإعلان خبر مقتل القاضي أنور على يد مجرمين مجهولي الهوية.
وتدريجيا يتبين لنا أن هذا القاضي كان "فاسدا حتى النخاع"، ومتواطئا مع النظام وعنيفا، إذ لم يتردد خلال الحملة الانتخابية الأخيرة في كسر معصمَي أحد المناضلين "تحت ذريعة أنه جهز راية مرصودة للمعارضة".
ولكشف ملابسات مقتله سيسلم التحقيق لمفوض الشرطة أزهر الغريب عن البلدة والمذنب في نظر أهلها، لأن عشيقته باكستانية من الديانة المسيحية.
الفساد هو محرك الرواية الرئيس، ليس فقط ذلك الذي ينخر القضاء الباكستاني، بل أيضا الفساد الذي يزدهر على جميع مستويات المجتمع، وتعززه تلاعبات رجال السياسة وابتزازاتهم ورشاواهم وتزويرهم لنتائج الانتخابات.
وفي هذا السياق، نتعرف إلى الطاغية المحلي مجيب علي الذي ينظم بلا كلل حملات عقابية ضد خصومه، وإلى أخيه أرشاد علي الذي يحتل منصب وزير الإعلام ويرشو جميع الصحفيين باستثناء سيف عزيز القادم من العاصمة إلى البلدة للتحقيق بمسألة أخرى مثيرة، والذي سيفضل في النهاية مغادرة هذه البلدة على الخضوع للتخويف الذي ستمارسه السلطات المحلية ضده.
أشباح الوطن
من فصل إلى آخر، يطارد أسلم جميع أشباح وطنه الأم الذي يبدو مستسلما للخرافات البدائية والتعصب الأعمى والتشدد الديني تحت عين الإمام حافظ الذي يسعى جاهدا إلى إغلاق صالة السينما في البلدة ومنع أهلها من اقتناء التلفزيونات لـ"ترويجها صورا مخلة بالأخلاق"، وفي الوقت ذاته يظهر للقارئ حكيما ومعتدلا يستعين تارة بنصوص دينية، وتارة أخرى بالمنطق لتلطيف تشدد أهالي بلدته وردعهم عن أي سلوك عنيف.
"أسلم قدم في "صراخ طائر المطر" شخصيات واقعية نشاركها أفراحها وأحزانها ونختبر معها صعوبة العيش وكسب الرزق في عالم تتحكم الدكتاتورية بجميع مفاصله"
كما ترد حكايات الشعب الباكستاني البسيط الذي يمد أسلم له يدا أخوية في روايته، ويظهر لنا من خلال حفنة من الشخصيات المؤثرة التي تبدو في حالة تناغم مع محيطها كمعلم المدرسة الذي يعشق حكايات "كانتربوري"، أو الحلاق الذي يستقبل الجميع في صالونه الوضيع ويواظب على الاستماع إلى إذاعة "بي بي سي"، أو بعض الأطفال الذين نستمع إلى وجهة نظرهم في فصول أو صفحات مرصودة لهم ومكتوبة بأسلوب المتكلم.
باختصار، قدم أسلم شخصيات واقعية نشاركها أفراحها وأحزانها ونختبر معها صعوبة العيش وكسب الرزق في عالم تتحكم الدكتاتورية بجميع مفاصله.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد في رواية أسلم الأولى، بل تثير فضولنا قصص كثيرة تثري حبكة هذا العمل الذي يشكل نموذجا في السرد المشدود على ذاته والكتابة المجردة من أي تنميق أو حذلقة أسلوبية.
ومن هذه القصص نذكر قصة الأكياس البريدية الخمسة التي تتضمن رسائل موجهة إلى أهل البلدة وبقيت تائهة 19 عاما بسبب حادث قطار قبل أن تصل إلى مكتب البريد، رسائل سيخاف بعض وجهاء البلدة من وصولها إلى أصحابها لأسباب مختلفة ومثيرة، نترك لقارئ الرواية متعة اكتشافها.
الجزيرة
تغريد
اكتب تعليقك