العـدل: الميزة الخامسة والأخيرة لتقدم الغربالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-09-26 10:07:08

أ.د. مهند الفلوجي

لندن

ذكَرَ عَمرٌو بن العاص (رَضيَ اللهُ عنه) خَصلةً خامسةً لتقدم الغرب؛ وهي أحسَنُ الخصال وأجْمَلُها، وهي أنَّهم: أمنَعُ النَّاسِ مِن ظُلمِ الملوك أي مُلوكِهم لا يظلمونهم، أي: أنَّهم يَمنَعون الملوكَ مِن الظُّلمِ ولا يسمحون لملوكهم أن يستبدوا ويطغوا، بل يواجهونهم ويمنعونهم من ظلم شعوبهم، أو أنَّهم يَحمُون النَّاسَ مِن ظُلمِ الملوكِ.

وهذه الخصلة استحسنها عمرو (رَضيَ اللهُ عنه) ووصفها بأنها حسنة جميلة! وكأن هذه الصفة هى أعظم ما لديهم وأجملها، وهي التي تأتي بالخصال الأخريات وتحفظها، فالعدل أساس الملك. وهي واضحة عندهم بشكل أوضح من غيرهم؛ حيث إن قوانينهم لا تسمح بتعسف الملوك وطغيانهم في حقهم. حيث لا يظلم الحاكم رعيته، ويعتبر نفسه خادمًا لهم. وثقافة العدل والانضباط القانوني

بل والقوانين ومشتقاتها من الأمانة والصدق والإنصاف موجودة عندهم. وقد استوحت العدل وقوانينه من الشرق الإسلامي.

العدل الإسلامي المطلق

سجل تاريخ 20 رمضان للعام 8 للهجرة، يوم الفتح الأعظم لمكة المكرمة، إذ دخلت فيه قوات المسلمين قوامها 10 آلاف صحابي؛ مكة من جهاتها الأربع في آن واحد، وتم فتح مكة دون قتال. وفي مثل هذا اليوم، عفا ﷺ عن أهل مكة، فقال: ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم وأبن أخ كريم، فقال ﷺ: (أذهبوا فأنتم الطلقاء).

أي عدل عظيم ومرحمة في التاريخ الإنساني حيث أعطي الأمان وعصمت الدماء وحرمت الأنفس وأعلن فيه قانون العدل للطوارئ: (إن من دخل داره فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن). وهو يوم المساواة العادلة، فلا فرق بين أسود وأبيض، يوم ارتقى بلال الحبشي سطح الكعبة مكبّرًا ومؤذّنًا.

والتقى النبي ﷺ بوحشي قاتل عمه حمزة، حين جاء مسلمًا، وذلك بعد إسلام أهل الطائف، قال وحشي: فخرجت معهم حتى قدمت على رسول الله ﷺ فلما رآني قال: أنت وحشي؟ قلت: نعم، قال: أنت قتلت حمزة؟ قلت: قد كان من الأمر ما بلغك، قال: فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني، قال: فخرجت، فلما قبض رسول الله ﷺ فخرج مسليمة الكذاب قلت: لأخرجن على مسيلمة لعلي أقتله فأكافئ به حمزة، قال: فخرجت مع الناس فكان من أمره ما كان، قال: فإذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق ثائر الرأس، قال: فرميته بحربتي فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه، قال: ووثب إليه رجل من الأنصار فضرب بالسيف على هامته. (رواه البخاري). قال الحافظ في الفتح: وعند يونس بن بكير في المغازي وعند ابن إسحاق قال: فقيل لرسول الله هذا وحشي فقال: "دعوه فلإسلام رجل واحد أحبّ إلى من قتل ألف كافر".

واتبع الخليفة الثاني عمر الفاروق (رضي الله عنه) أسوة النبي ﷺ، إذ قابل وهو خليفة قاتل أخيه زيد بن الخطاب (رضي الله عنه) (بحروب الردة) بعد أن أسلم، أبو مريم السلولي.

فقال له: أأنت قاتل زيد بن الخطاب؟

فقال أبو مريم: نعم، يا أمير المؤمنين.

فقال عمر: والله لا أحبك أبدًا، حتى تحبُّ الأرضُ الدمَ المسفوح.

فقال أبو مريم: أو تمنعني بذلك حقًا لي!؟

فقال عمر: لا.

فقال أبو مريم: إذًا، لا ضير يا أمير المؤمنين، إنما يأسى على الحب النساء!!!

وهذا الخليفة عمر الفاروق يأتيه رسول الروم يبحث عن قصره ومقر قيادته، فلا يجده، فيرشده الناس إلى شجرة يستظل بظلالها أمير المؤمنين "عمر" وهو نائم هناك، بل حرس ولا استخبارات فالعدل هو أعظم حارس، فيعجب الرسول ويقول قولته الشهيرة عن عمر: (لقد حكمت، فعدلت، فأمنت، فنمت)

فيا لعدالة الإسلام التي لولاها لما عرف التاريخ الإنساني معنى العدالة بهذا المفهوم الراقي الصافي. يقول عز من قائل:

(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ) المائدة:8.

قَوْلُهُ تَعَالَى: (َٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ)، أي: كونوا له قَائِمِينَ بِالْعَدْلِ قَوَّالِينَ بِالصِّدْقِ، أَمَرَهُمْ بِالْعَدْلِ وَالصِّدْقِ فِي أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، (وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ)، أي لا يحملنَّكم بغضكم لقوم على ترك العدل معهم بسبب عدواتهم، وقوله:

(ٱعۡدِلُواْ)، في الأولياء والأعداء، قوله: (هُوَ)، أَيْ: العدل، قوله: (أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ)، أَيْ: للفلاح واتِّقاء النّار، (وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ).

ولبيانُ خُطورةِ القضاءِ بين النَّاسِ بغَيرِ علْمٍ، وأنَّ مَصيرَ ذلك إلى النَّارِ، جاء في الحديث النبوي:

(القُضاةُ ثلاثةٌ، اثنانِ في النَّارِ، وواحدٌ في الجنَّةِ، رجلٌ علِمَ الحقَّ فقضَى بهِ فَهوَ في الجنَّةِ، ورجلٌ قضَى للنَّاسِ علَى جَهْلٍ فَهوَ في النَّارِ، ورجلٌ جارَ في الحُكْمِ فَهوَ في النَّار) [صحيح ابن ماجه للألباني]

فلا يَتولَّى القضاءَ إلَّا العُلماءُ العارِفونَ بأحكامِه وضَوابطِه، وقد حذَّرَ النَّبيُّ ﷺ من القضاءِ بغَيرِ علْمٍ، أو بالهوى، كما بيَّنَ فضلَ القضاءِ بالعدْلِ عن علْمٍ. "القُضاةُ ثَلاثةٌ"، أي: حُكْمُ القُضاةِ في الآخِرةِ أنَّهم ثلاثةُ أنواعٍ، "اثنانِ في النَّارِ"، أي: مَحكومٌ لهما بها، "وواحدٌ في الجنَّةِ: رجُلٌ علِمَ الحقَّ، فقَضى به؛ فهو في الجنَّةِ"، أي: إنَّه لم يعمَلْ بهواهُ، بل أنفَذَ حُكمَ اللهِ واتَّبعَ الحقَّ،

"ورجُلٌ قَضى للنَّاسِ على جهلٍ؛ فهو في النَّارِ"، أي: لا عِلْمَ عنده بأحكامِ القضاءِ.

(ورجُلٌ جارَ في الحُكْمِ؛ فهو في النَّارِ)، وهو الَّذي يعلَمُ الحقَّ وخالَفَه واتَّبعَ هواهُ.

وحين يطالب رئيس الدولة وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب بدرعه من يهودي ادعى أنه درعه، يختصمان إلى شريح القاضي. ولعدم اكتفاء الأدلة (البينة) يحكم القاضي بالدرع لليهودي! فيسلم اليهودي ويشهد الشهادتين، ويقر أنه درع علي بن أبي طالب، فيهب أمير المؤمنين درعه لليهودي بعد اسلامه!!!

وللخليفة الثالث "عثمان بن عفان" (رضي الله عنه) مقولة: (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)، فلا بد من الشرطة لتنفيذ قوة القوانين الرادعة. ولا بد من العقوبات، فـ(مَن أمن العقوبة أساء الأدب)، كما يقال.

وفي الحديث: (يا أبا هريرة، عدل ساعة أفضل من عبادة ستين سنة؛ قيام ليلها، وصيام نهارها. ويا أبا هريرة، جور ساعة في حكم أشد وأعظم عند الله عز وجل من معاصي ستين سنة)، ضعفه الشيخ الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب.

وأورده السخاوي في المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة ح 858 بلفظ: (لعمل العادل في رعيته يومًا خير من عبادة ستين سنة ..).

تنسب إلى الإمام ابن قيم الجوزية مقولة رائعة تدل على خلاصة التعمق في أمور الحكم والسلطة:

"إذا خيرت بين إمام كافر عادل، وإمام مسلم ظالم، فإنني أختار الإمام العادل الكافر، لأن عدله لي وكفره عليه، أما الآخر فإسلامه له وظلمه علي". وابن القيم هو تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية الذي قال: "حاكم كافر عادل خير عند الله من حاكم مسلم ظالم"

قال: وأمور الناس إنما تستقيم في الدنيا مع العدل الذي قد يكون فيه الاشتراك في بعض أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق، وإن لم تشترك في إثم. 

ولهذا قيل: (اللّه ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة).

وليس في قول الإمامين شطط، فالظلم من أشد الكبائر عند الله تعالى، وجاء في الحديث القدسي فيما روى رسول الله ﷺ:

(يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا).

فالأصل هو الإيمان مع العدل (سواء بسواء)، فإن لم يكن، فالدنیا تصلح بالكفر والعدل، ولا تصلح بالإیمان والظلم.

ومن آيات القرآن (شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ) (وَزِنُواْ بِٱلۡقِسۡطَاسِ ٱلۡمُسۡتَقِيمِ) أي بالعدل، اقترض الغرب مفردة القرآن العربية قسط أي Just، وقسطاس أيJustice   للغة الإنجليزية. ومن هذا المعين الإسلامي العادل، نهل الغرب سقياه واغترف مفردات مشاربه.

وضعت إحدى أعرق معاهد التعليم العالي في العالم جامعة هارفارد الأمريكية الشهيرة، وضعت آية قرآنية عند مدخل كلية القانون (الحقوق) التابعة لها Harvard Law School، توصف الآية بأنها واحدة من أعظم التعبيرات عن العدالة في التاريخ. إذ تم تعليق الآية 135 من سورة النساء على جدار يواجه المدخل الرئيس للكلية، مُكرّسًا لأفضل ما قيل في وصف العدالة:

)۞ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ وَإِن تَلۡوُۥٓاْ أَوۡ تُعۡرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا( النساء، الآية: 135.

  “O you who have believed, be persistently standing firm in justice, witnesses for Allah, even if it be against yourselves or parents and relatives. Whether one is rich or poor, Allah is more worthy of both. So follow not [personal] inclination, lest you not be just. And if you distort [your testimony] or refuse [to give it], then indeed Allah is ever, with what you do, Acquainted.”  Surat An-Nisa 4: 135

تأسست جامعة هارفارد عام 1636، كأقدم مؤسسة للتعليم العالي في الولايات المتحدة، تأسست في كامبريدج، ماساتشوستس Cambridge, Massachusetts. وفي عام 2019، احتلت كلية الحقوق بجامعة هارفارد المرتبة الأولى عالميًا، وفقًا لموقع التصنيف العالمي Top University. وأشارت عميدة كلية القانون (الحقوق) "مارثا مينو Martha Minow"، إلى أن "الكلمات على هذه الجدران تؤكد قوة فكرة العدالة وعدم كبتها. إنها تشهد على تشوق البشرية للعدالة والكرامة من خلال القانون".  تستكشف الآية القرآنية عالمية العدالة وقوة الحقيقة. إذ يتناول القرآن أهمية "الصدق في الشهادة". ونزلت سورة النساء في المدينة المنورة بعد هجرة النبي من مكة عام 622م، حيث الحاجة لمعاملات الدولة الإسلامية.

وهنا أقول: قل ما شئت عن استعلاء الرجل الغربي الأبيض على سائر الأعراق الأخرى والبلدان بعقليته الاستعمارية (colonial mentality) وعن عنصريته المقيتة، وعن التاريخ الطويل في ظلم واستعباد الشعوب الأخرى وامتصاص ثرواتها، وبث الفتن والصراعات ليُبقى تفوق الرجل الغربي على سكان العالم الآخرين، مبررين تعاملهم الشاذ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ). نعم، هذا سلوك الغرب مع الأجانب، أما سلوك الغرب مع شعوبهم، ففي قمة الأخلاق والتحضر والتمدن والتكافل الاجتماعي والاقتصادي وحقوق الإنسان (معيار مزدوج). وسلوك الغرب مع شعوبهم هو (بيت القصيد) الذي يعنينا. والصواب يؤخذ به وإن جاء من عدوٍ بغيض (ولا يجرِمنّكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا) المائدة:8.  فالقانون في الغرب العلماني واللاديني يهدف لخدمة جميع مواطني الغرب (خدمة البلاد والعباد). وجميع المواطنين في الغرب سواسية (حكّامًا ومحكومين) أمام قوة القانون Power of Law، لكن تعاملهم مع باقي سكان العالم يختلف، إذ القانون المستخدم هو شرع القوة وقانون الغاب (Jungle Law) أي أن دول الغرب تحكم بمكيالين: بقوة القانون مع شعوبهم، وقانون القوة مع الشعوب الأخرى.

وللمظلومين جميعًا أفرادًا وشعوبًا، خلق الله اليوم الآخر للمحكمة الإلهية، وشرّع فيها الجزاء: الجنة أو النار، حيث النار عاقبة الظالمين جميعًا، إذ يقفوا ويُحاسَبوا أمام الله الحاكم العادل خالق الكون ومالك يوم الدين. فالحياة الدنيا فانية والآخرة هي الباقية. وفي الحديث النبوي: (ثلاثٌ لا تُرَدُّ دعوتُهُم: الصَّائمُ حتَّى يُفطرَ، والإمامُ العادلُ، ودعْوةُ المظلومِ تُحمَلُ علَى الغَمامِ وتُفتَحُ لها أبوابُ السَّماءِ ويقولُ اللهُ تباركَ وتعالى وعزَّتي وجلالي لأنصرَنَّكَ ولَو بعدَ حينٍ). 

وفي رواية: (ودَعوةُ المَظلومُ يَرفَعُها فوقَ الغَمامِ يومَ القِيامةِ)، أي: فوقَ السَّحابِ، (وتُفْتَحُ لها أبوابُ السَّماء)ِ ويقولُ، أي: الرَّبُّ عزَّ وجلَّ: (وعِزَّتي لأنْصُرنَّكِ ولو بعدَ حينٍ)، أي: لو بعدَ مُدَّةٍ وزَمنٍ، وهذا تَحذيرٌ شَديدٌ، وإنذارٌ ووَعيدٌ للظَّالمينَ؛ ولعَظَمةِ أمْرِها تُفْتَحُ أبوابُ السَّماءِ لها نفْسِها، أو للمَلَكِ الَّذي يرفَعُها. وهو سُبحانَه لعلَّه يُؤجِّلُ العُقوبةَ؛ لأنَّه حَليمٌ؛ لعلَّ الظَّالمَ يرجِعُ عن الظُّلمِ والذُّنوبِ إلى إرضاءِ الخُصومِ والتَّوبةِ. وفي الحديثِ: (أنَّ اللهَ سُبحانَه يُمْهِلُ الظَّالمَ، ولا يُهْمِلُه).

في دراسة مستفيضة (في 37 صفحة) أجراها أكاديميان أمريكيان بارزان من جامعة جورج واشنطن عنوانها:

 How Islamic are Islamic Countries (كيف هي إسلامية الدول الإسلامية؟) نشرت بمجلة الاقتصاد العالمي

Global Economy Journal Vol. 10, No. 2, (2010) by S S. Rehman and H Askari. (1)

للعلاقة بين الدين والاقتصاد والمالية والسياسة والقانون والسلوك الاجتماعي تداخل معقد صار موضع اهتمام بعد 11 سبتمبر 2001. تتبنى الدراسة تطبيق التصور القرآني، وممارسات وأقوال النبي محمد ﷺ ووضع 12 مؤشرًا لقياس "إسلامية" الدول والشعوب الإسلامية وغير الإسلامية، ويقيس التزام 208 دولة بمبادئ الإسلام ومفاهيمه وقيمه باستخدام أربعة مؤشرات فرعية تتعلق بالاقتصاد والقانون والحكم وحقوق الإنسان والسياسة والعلاقات الدولية. وجوهر المجتمع الإسلامي أنه نظام قائم على القواعد، تتمحور حول مفهوم العدل. حيث التدابير واسعة لمعالجة ندرة الموارد وتحقيق التوزيع العادل للثروة والموارد تندرج تحت عنوان العدالة وتشمل:

 أ) تعزيز الأخلاق والقيم الأخلاقية مثل العدل والمساواة والصدق وما إلى ذلك؛

ب) الأدوات الاقتصادية وأدوات مثل الزكاة والصدقة وقوانين الميراث والملكية.

جـ) تنمية القدرات المؤسساتية والإرادة السياسية لضمان ذلك.

وفي جوهر العدالة يقع مبدأ الإنصاف، والحصافة المالية، واحترام الملكية والحقوق.

"تصدرت أيرلندا العالم في القيم الإسلامية مع تأخر الدول الإسلامية" حيث تمثل أيرلندا أفضل تجسيد للقيم الإسلامية المتمثلة في الفرص والعدالة، وإن تعاليم القرآن يتم تمثيلها بشكل أفضل في المجتمعات الغربية منها في الدول الإسلامية، التي فشلت في تبني قيم إيمانها في السياسة والأعمال والقانون والمجتمع.

أعلى الدول "بمنظور مؤشرات الاقتصاد الإسلامي والقيم الاجتماعية التي تعكس سياسات هذه الدول وإنجازاتها - هي أيرلندا والدنمارك ولوكسمبورغ والسويد والمملكة المتحدة ونيوزيلندا وسنغافورة وفنلندا والنرويج وبلجيكا وهم العشرة الأوائل". وماليزيا أول دولة ذات غالبية مسلمة تحتل المرتبة 33، بينما الدولة الأخرى الوحيدة في أفضل 50 دولة هي الكويت في المرتبة 48. واحتلت السعودية 91 ومصر 128. 

وحسب قول المؤلف (الأستاذ بالشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن): "فإن الدول الإسلامية تستخدم الدين كأداة لسيطرة الدولة". وقال: "يجب التأكيد على أن العديد من الدول التي تدين بالإسلام وتسمى إسلامية هي دول جائرة وفاسدة ومتخلفة وهي في الحقيقة ليست" إسلامية "بالمنظور الإسلامي الأصيل". وقال (إن القوة والعدوان كأدوات لحل النزاع مقابل الحوار والمصالحة، وقبل ذلك، انتشار الظلم من أي نوع، هو دليل ظاهري على أنه ليس مجتمعًا إسلاميًا).

وبالعدل، صارت بريطانيا ودول الغرب أفضل مكان للتقاعد في العالم، حيث التكافل الاجتماعي والضمان الصحي وحيث يعطى الأجير أجره بالكامل كباقي السكان البيض على قدم المساواة والقانون، وأي عمل إضافي يكافأ بالمال كما تعاقب المخالفات بالعقوبات المالية لا الجسدية.

أقول: إن كان الإسلام عبادات ومعاملات، فجوهر الدين هو المعاملات تحديدًا، ولهذا تقدم الغرب علينا بسبب معاملاتهم المبنية على قيمنا ومفاهيمنا الإسلامية (تبناها الغرب وافتقدناها نحن). قارنها اليوم بأمة العرب والإسلام التي أنزل عليها القرآن، والتي تقرأه صباح مساء حكامًا ومحكومين، لكنها اليوم لا تزال تعيش في ظلم وبغي عصرًا بعد عصر، بل وتنتقل من حقبة ظلم لآخر، ومن بغي سابق لبغي لاحق.

حين كان الأمير "شارلس" وأمه الملكة "إليزابيث" يناقشون أن سكان المملكة المتحدة صار فيه ملايين المسلمين مع ملايين السود والهندوس وملحدين وطوائف أخرى تداخلت جميعها في نسيج السكان البريطاني، مما جعل أحد ألقاب الملكة/الملك (حامي الدين المسيحي Protector of Christian Faith) باهتًا ومتحيزًا ولا يعكس حقيقة مكونات الشعب، فوافقوا لحذف هذا اللقب غير العادل وتحويله إلى (حامي الأديان Protector of Faiths). هذا، وفي نفس الوقت والتاريخ كان نوري المالكي رئيس وزراء العراق بكل بطوائفه وموزائيكه المتنوع يتحيز علنًا ويقول: "أنا شيعي قبل أن أكون عراقي"!!!

يا لدورة الزمان!!!  كان أستاذ كلية طب بغداد وجراح القلب المشهور "يوسف النعمان" دومًا يقول في سبعينيات القرن الماضي: (سافرت لأمريكا وكنت حمارًا، فرجعت من أمريكا بعد أن صرت آدميًا)!!!

إن قوله تعالى: (أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّٰلِحُونَ) الأنبياء :105 إنما هو هنا صلاحُ في إدارة الأرض، وكأن الأرض في الدنیا یرثھا من یُحسن إدارتھا. من هنا جاءت مقولة الإمام محمد عبده: "رأيت في أوروبا إسلامًا دون مسلمين، وفي بلادي مسلمين دون إسلام".

رغم أننا كثيرًا ما نسبّ الغرب وندعو عليهم بالويل والثبور على المنابر، لكن سعادة كثير من المسلمين كانت في الغرب!!! فكل ما في حياتنا من إنتاجهم، ولولاهم لفتكت بنا الأمراض، وعدنا إلى مرحلة ما قبل الزراعة، بل ربما هلكنا جوعًا. وما زال الناس يهرعون إلى بلادهم سراعًا، طمعًا في حياة كريمة، وتعليم جيد، وقبل هذا وذاك، طمعًا بجو الحرية والديموقراطية الذي يحفظ كرامة الإنسان هناك.

ومن إفرازات العدالة (ولو صوريًا) موضع للتنفيس السياسي في الغرب، فمثلا في لندن هناك ركن المتحدثين  Speakers' Corner  إذ يقع في الركن الشمالي الشرقي من هايد بارك Hyde Park near Marble Arch tube station قرب محطة مترو ماربل آرك.  إنها أقدم منصة حية لحرية التعبير في العالم. كما أنه مكان تقليدي للتجمعات والاحتجاجات. يجتمع تجمع فريد في هايد بارك كل يوم أحد من منتصف النهار تقريبًا حتى بعد حلول الظلام. الجميع مدعوون للانضمام للمناقشات والمناظرات. يسمح بالتحدث في أي وقت خلال ساعات عمل الحديقة، أيام الأحد فقط.

هناك مفارقة بين الغرب الأمريكي والغرب الأوروبي؛ ففي أمريكا يرخص حمل السلاح خلافًا للغرب الأوروبي. في أمريكا (بلد اللحم والجريمة) يُعدّ القتلُ السبب الرئيس للوفاة في الولايات المتحدة؛ وفقًا لمكتب التحقيقات الفيدرالي، هناك 21,156 حالة قتل وقتل غير متعمد للعام 2022 بمعدل 6.3 جريمة قتل لكل 100000أمريكي.

وفّر العدلُ في الغرب الأوروبي الأمن والأمان للناس جميعًا، حيث حرمة حمل السلاح، لدرجة أن رؤساء الدول والمسؤولين يسيرون بالشوارع من دون حماية أحيانًا. تذكر مقولة رسول الروم عن عمر الفاروق: (حكمت، فعدلت، فأمنت، فنمتَ).

فاليوم، صار قادة الغرب هم أهل العدل والإنصاف. أدناه: منظومة القيم الغربية مع شعوب الغرب، مستخلصة (بتصرّف) من قيم بريطانيا وأمريكا الأساس وبطيفها المتنوع للحياة الكريمة، حيث العدل والإنصاف يتداخل مباشرة وبصورة غير مباشرة في القيم جميعاً: 

1. الفردية individualism والاعتقاد بأن كل شخص فريد وخاص وأهمية الخصوصية privacy

2. العدل وتكافـؤ الفرص  justice and equal opportunities.

3. الراحة المادية للجميع  material comfort for all 

4. الديمقراطية (بأدواتها ومشاريعها) مع الحرية (مثلاً حرية التعبير والتملك) democracy and freedom.

وتندرج تحتها التسامح الديني tolerance واحترام المعتقدات المختلفة.

5. العلوم والتكنولوجيا  science and technology   

6. التقدم والتغيير progress and change (ثقافة التغيير للأحسن Culture of Change for the better).

7. المنافسة competition الشريفة المحمية بسلطان القانون.

8. إمكانية التنقل mobility (العمودي (اجتماعي /اقتصادي) وكذلك التنقل المادي).

9. التطوع volunteerism والإيمان بمساعدة الآخرين والإحسان philanthropy والعمل الخيري والجمعيات.

10. العمل والكفاءة والإنجاز action and achievementوقياس النتائج التركيز على الوظيفة والبراغماتية (العملي الواقعي).

والغرب هنا عملاق في ثقافة الإعلانات Business Advertisement is a Culture وعولمة التسويق Marketization and Globalization وكأن الغرب قارون العصر الحديث، ولعل ميزانية شركة واحدة بالغرب تعدل ميزانية دول مثلاً شركة إينرون Enron بلغت ميزانيتها $67.503 billion  بينما بلغت ميزانية أفغانستان بعد الغزو الأمريكي ما يعادل $11 million دولار (بقدر ثمن طائرة هيلوكبتر واحدة).

في دولة الإسلام تاريخيًا، كانت وحدة الجنس البشري في أبهى صورها، فلا أفضلية لعرق دون آخر، كما في خطبة الوداع: أفضلكم عند الله أتقاكم، وكما في الحديث النبوي (أن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم). ولكن اليوم، أصبح الغرب كعبة القاصدين والمهاجرين من شتى بقاع العالم، إذ صار يضاهي الشرق الإسلامي الذي تعلم منه (والتلميذ يبزّ أستاذه أحيانًا) وأمسى الغرب بوتقة انصهار الأعراق كلها  Cosmopolitan والكل مساهم في بناء الوطن والقانون حسيبهم ورقيبهم؛ وإن كانوا يحسنون الظن بمواطنيهم (فالكل برئ حتى تثبت إدانته، كما في الإسلام الحقيقي لا المعاصر).

وصارت قصص المُخبر البريطاني شرلوك هولمز شائعة لإحقاق العدل عن طريق علاقته بشرطة سكوتلاند يارد. وفي أمريكا شاعت قصص المحقق الأمريكي الذكي كولومبو مكتشف الجريمة والإقتصاص العادل من المجرمين.

وفي مسلسل كولمبو Columbo: a case of immunity 1975 يقتل القائم بأعمال سفارة عربية (دون ذكر اسمها) يقتل أحد أفراد السفارة لمآربه الخاصة، فيقوم كولمبو باكتشافه، وحين يُفتضح أمره أمام الملك (عند زيارته لسفارته بأمريكا)، يطلب المجرم القائم بالأعمال (والذي كان يتبجح بالحصانة الدبلوماسية) يطلب من كولومبو أن يُحاكم في أمريكا، لأنهم أكثر عدلاً وإنسانية من بلده!!؟؟

ولعل من صور العدل الغربي رغم خطاياه، التسوية التاريخية بقيمة 75 مليون دولار (53 مليون جنيه إسترليني) مُنحت لشقيقين أسودين من ولاية كارولينا الشمالية مسجونين لأكثر من ثلاثة عقود بسبب جريمة لم يرتكباها، إذ لفتت الأنظار للإدانات الخاطئة. أدين هنري ماكولوم وأخوه غير الشقيق ليون براون Henry McCollum and his half-brother Leon Brown مرتين باغتصاب وقتل فتاة عمرها 11 عامًا عام 1983. وفي عام 2014، أدى ظهور أدلة الحامض النووي الجديدة  new DNA evidence إلى تبرئتهم والعفو الكامل. وحُكم أن يتلقى كل منهما 31 مليون دولار كتعويض - 1 مليون دولار عن كل سنة في السجن - و13 مليون دولار كتعويضات عقابية punitive damages. ويمثل المبلغ أكبر تسوية مشتركة في قضية إدانة خاطئة في تاريخ الولايات المتحدة!!!

والعدل يدخل في إرساء دعائم "القاعدة الاقتصادية"، وذلك بالحد من عدم المساواة باستهداف التكافل الاجتماعي وإعانات البطالة، كما يدخل العدل في تنويع الاستثمارات. وفي تصريح جميل لصاحب السمو الأمير "محمد بن سلمان"، قدم فيه رؤى شاملة طموحة تحولية للتنافس نحو الأفضل وبدون تقاعس لفتح الآفاق الجديدة والوصول لهدف الرؤية بسرعة وبقوة السلطة التنفيذية في القوانين والإعلام وقطاعات الدولة. استحث فيها الأمير "محمد بن سلمان" على ضرورة إنشاء صندوق الاستثمارات العامة ليكون مرشدًا للإنفاق المالي والنمو بالقطاعات الخاصة، وضرورة تنويع المصادر للدخل المادي، إذ أن الطلب على النفط بدأ بالانخفاض مقارنة بالماضي، ومع الزمن صار النفط (بالكاد) يغطي حاجات السكان المتزايد، مما يشكل خللاً اقتصاديًا، ولا تعدّ الدول النفطية غنية بالنفط وحسب، بل يجب أن يُقاس غناها بكمية وتنوع مواردها نسبة للسكان، فلا بد من تنويع الاقتصاد بتنويع الموارد المالية الأخرى (عدا النفط) من التعليم والتعدين والخدمات والاستثمار والسياحة والتي قد تكوّن 90% من الفرص المهدورة. ولا بد من صناعات تحويلية للنفط ولا بد من الاعتماد على النفس في تصنيع الأنابيب والسفن مما يوفر فرص استثمارات كثيرة. ولهذا كانت تسهيلات المملكة العربية السعودية لذوي المهن، فكانت شركة "المراعي" للألبان وشركة "عصرة" لزيت الزيتون، وغيرها من شركات تضاهي أرقي الشركات العالمية.

وهذا يتفق مع رؤية الغرب فيما يسمى بالحوكمة الجيدة Good Governance وهيكلة الاقتصاد مع الحسبة Audit ووضع الإستراتيجيات والميزانيات budgets وترجمتها عمليًا (لخدمة البلاد والعباد) في الإسكان، فلكل بيت ماء وغاز وكهرباء مع الإعالة بشقق حكومية مجانية council houses؛ وتقليل البطالة بالسكن والمال إنما هو مؤشر عدل لتقدم الغرب. ومن المقولات الإنجليزية أن يكون الإنسان: Thrifty, Nifty and Crafty أي مقتصد، ذكي، وداهية!

 وتحت مظلة العدل، الكل مطالب بتقديم مجهود للبناء للإفاقة بعد المصيبة. وبالعدل تبذل المساهمات الخيرية لرحمة الناس والحد من عدم المساواة بينهم. وبوجود 5% قواسم مشتركة لأجل المصلحة العامة يصبح الود بينهم 95% (عكسنا نحن العرب المسلمون فرغم وجود 95% قواسم مشتركة يكاد ينعدم الود بيننا).

وهناك قصة نجاح أمة: استسلمت (ألمانيا) للحلفاء بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية عام (1945م) وكانت حطام دولة. الشعب في حالة احباط وانهيار تام، منازل بل مدن كاملة سويّت بالأرض بما فيها المدارس والمكتبات والمستشفيات.

وحملت قوات الحلفاء معهم المصانع والآلات ودمروا ما تبقى من البنية التحتية بشكل كامل.

كان الشعب عبارة عن نساء وأطفال وشيوخ. انتشرت فكرة الانتحار حينها، ثم تلاها فكرة النهوض من الصفر بقيادة النساء في غياب تام للحكومة. وسميت النساء: نساء المباني المحطمة.

بدأت النساء والشيوخ بهذه الظروف بجمع الأنقاض لإعادة بناء البيوت وجمع الكتب والأوراق من تحت الأنقاض لفتح المدارس، كتبوا على بقايا الجدران المحطمة شعارات تبث الأمل وتحث على العمل:

- لا تنتظر حقك.

- أفعل ما تستطيع.

- أزرع الأمل قبل القمح.

وكانت الفترة بين عاميّ (1945-1955م) مرحلة إعادة الإعمار وبالأمل والإيمان يصنع النجاح.

- ألغيت العطل الرسمية.

وأضيفت ساعة عمل إضافية سميّت: (ساعة من أجل ألمانيا).

وفي العام (1954م) فازت (ألمانيا) بكأس العالم لكرة القدم، وكانت أصابع أقدام اللاعبين تخرج من أحذيتهم المهترئة.

والفترة (1955-1965م) كانت مرحلة بناء المصانع. تم استقدام عمال (أتراك) لإعادة الإعمار، وكتبوا شعارًا للعمل:

- جديّة + أمل.

والفترة (1965-1975م) ظهرت رؤوس الأموال ورجال الأعمال، تكفّل كل رجل أعمال بخمسين شابًا وشابة يعلمهم ويدربهم على بناء الوطن والنهوض به. كانت مهمة الجميع هي بث الأمل والإصرار على التطوّر والتقدم والحضور بين الأمم المتقدمة ...

هل يمكننا أن نعمل كما فعلت (ألمانيا) إذ انبعثت من تحت الرماد، لِـنصبح أمة محترمة بين الأمم؟

أم نبقى من دول من العالم الثالث المستهلكة؟!

إن مفتاح التقدم هو بأيدينا متى آمنا أن بالإمكان الوصول لدرجة أرقى. فبالاستقراء الأولي، نرى أن فرنسا بَنت واستقت تقدّمها في ظل إيديولوجيات مختلفة: من نظام إقطاعي مرورًا بالثورية ورجوعًا إلى ديكتاتورية نابوليون وانتقالاً إلى الديموقراطية. وألمانيا مرت بذات المراحل تقريبًا، وكذلك انجلترا، وحتى أمريكا بَنَت تقدّمها في ظل حرب ضروس بين الشمال والجنوب؛ وكذلك روسيا بَنَت تقدّمها في ظل القيصرية مرورًا بالشيوعية ووصولاً إلى الليبرالية؛ والصين تخلصت من تخلفها في ظل الشيوعية وتقدمت بالانفتاح الاقتصادي واقتصاد السوق. ليس التقدم رهينًا بإيديولوجيا معينة بقدر ما هو رهين بالقدرة على بناء المجتمع، وإنشاء توافقات أساسية على مشروع مجتمع ومؤسسات تنظر للمستقبل، وتستلهم من إيجابيات الماضي المشرق (لا سلبياته كما في المقولة الإنجليزية: Don’t recycle negative past أي لا تقم بتدوير الماضي السلبي)، فالذي يريد ترميم حياته، بدون رؤية مستقبلية إنما يعمل على تعقيدها أكثر. فالفشل يكمن في ضبابية الأفق، والتخبط العشوائي والفشل في التغيير، التقدم هو امتلاك فكر إيجابي مؤمن بأن الإنسان قادر بنفسه على الفعل، وعلى التأثير في المستقبل (إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ ) الرعد، الآية:11. وكما في الحديث (الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها) ولا يهمه من أي وعاء خرجت!

الهوامش:

 

1- Global Economy Journal Vol. 10, No. 2, (2010) by S S. Rehman and H Askari.

https://islamicity-index.org/wp/wp-content/uploads/2015/11/how-islamic-are-islamic-countries.pdf


عدد القراء: 1376

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-