المتواطئون مع خدمة كشف الهوية

نشر بتاريخ: 2019-03-03

المحرر الثقافي:

الكتاب:  المتواطئون مع خدمة كشف الهوية

المؤلف: أندرياس برنارد

الناشر: S. FISCHER; Auflage

تاريخ النشر: 2018

عدد الصفحات:  240 صفحة

في عام 1987 ظنت أقلية لا يستهان بها من الألمان أن عام 1984 –  حسبما تخيل “جورج أورويل” –  قد بدأ. وبدا التصور المفزع بالخضوع لمراقبة ذات طابع استبدادي قاب قوسين أو أدنى من أن يتحقق. فتشكلت ألف وخمسمائة مجموعة من مجموعات المبادرة  –  بتنسيق من أنصار حزب الخضر –  من أجل التظاهر ضد أمر، بدا بعد مرور ثلاثين عامًا أمرًا تافهًا. حيث تم إجراء تعداد للسكان في مايو عام 1987. ولأول مرة تعيَّن أن تُدمج بيانات تتعلَّق بوضع المواطنين بمساعدة الكمبيوتر.

لقد كان الاحتجاج على ذلك الأمر هائلًا. ووفقًا لما أعلنه رئيس مكتب الإحصاء الاتحادي فإن إحصاء السكان أصبح بقدرٍ ما موضوعًا للنقاش العلني «وهو أمر لم يتوقع أحد من المشاركين في المظاهرة حدوثه». لقد استشهد أندرياس برنارد الأستاذ الجامعي في “مركز الثقافات الرقمية” التابع لجامعة لونيبورج بهذا الرأي وكذلك بالكتاب الاسترشادي المناهض لإجراء إحصاء سكاني والذي حمل عنوان “ما عساهم أن يفعلوا ضد التعداد الدقيق للسكان وإحصاء السكان” والذي بيعت منه  آنذاك مئتي وخمسين ألف نسخة.  وورد فيه أن هدف إحصاء السكان يتمثل في «المراقبة التامة لكل الأشخاص وتوجيه سلوكهم المستقبلي». مرحبًا في عالم “فيس بوك” “Facebook” و”أمازون” “Amazon”! مرحبًا في عام 2018!

 لا يتذكر “أندرياس برنارد” احتجاجات العام 1987 بغرض التهكم، بل لكي يُظهِر كيف تتغير مجريات الأمور عند الانفصال عن النموذج المعرفي للعالم التناظري من منظور اليوم.

 ففي العام 2018  يبوح كل مستخدم لشبكة تواصل اجتماعي بالكثير من تلك المعلومات، التي كانت محظورة قبل ثلاثة عقود بوصفها أداة للتحكم في يد سلطة دولة استبدادية. وكما نعلم اليوم، فإن أغلب مستخدمي المنصات على شبكة الانترنت يجعلون بياناتهم عُرضة لسوء الاستخدام على نحوٍ طائش ورغم معرفتهم بمساوئ ذلك.

لقد جرى في عام 1987 مرارًا وتكرارًا الربط  بين النقد الموجه لعملية الإحصاء السكاني و”عمليات التسجيل الوحشية” التي قام بها النازيون. آنذاك كانت الحرب العالمية الثانية قد وقعت قبل جيل من الزمن بأكمله. واليوم يبدو – حسبما يوحي “برنارد” – أن الماضي قد طوى الأمر.

ويشير الاستعداد للترابط والمراقبة والتنميط في يومنا هذا إلى حدوث تغيرٍ عقلي، لا يزال يشغل اهتمام جيل من المؤرخين المعرفيين. كيف يتأتى أن تصور وجود شبكة الانترنت بوصفها قوة عظمى، تسوق الفرد إلى حالة من القصور – وذلك وفقًا للتخيل الوارد في فيلم الإثارة “الشبكة” للممثلة “ساندرا بولوك” والذي عُرِض  عام 1995 – يمكن أن يتحول بعد أقل من عشرين عامًا إلى وهمٍ فردي بصورةٍ مبالغ فيها؟ كيف يتسنى شرح أن الناس يؤمنون بالآثار المثمرة لشبكة الانترنت رغم الفضائح المخيفة الخاصة بالبيانات والتي وقعت في شركة “كامبريدج أناليتيكا” “Cambridge Analytica”؟ إنهم يؤمنون بتلك الآثار المثمرة جدًا لدرجة، أن الكثيرين اليوم لم يعودوا يتخيلون أو يستحبون حياتهم دون أن يكن هنا الخاصية الاستعراضية، التي تقدمها لهم المنصات الرقمية.

 يبحث “أندرياس برنارد” ذلك الفضاء الضيق في تاريخ الإنسانية، والذي صار فيه من الممكن أن تصبح وسائل الإعلام الرقمية قالبًا يشكل حياتنا اليومية. فعقب كتاب ” أركيولوجية العلوم الانسانية” لـ”ميشيل فوكو” يستعرض “أندرياس برنارد” المسار التاريخي للتقنيات الجديدة لجمع البيانات. يعيد “برنارد” في خمسة فصول تصميم تاريخ نشأتها وانتشارها انطلاقًا من بحث علم الفراسة الذي أجراه “يوهان كاسبر لافاتر” ومرورًا بنظام ” الأنثروبومترية ” الذي وضعه العالم في مجال علم الجريمة “ألفونس بيرتيون” في القرن الثامن عشر وصولًا إلى طرق  التعقب، التي يسلكها الجيش (“GPS”) والشرطة (أصفاد القدم الإلكترونية) وختامًا الجانب الترفيهي المتمثل في “ساعة آبل” “Apple Watch”.

يبدأ الكتاب بالشكل المعرفي ملف شخصي. «حتى عشرين أو خمسة وعشرين عامًا مضت كان السفاحون والمختلون عقليًا وحدهم موضوعًا تتناوله “الملفات الشخصية”. لقد شهد هذا الشكل المعرفي وهذه الخطوط المتشابكة من الأوصاف الخاصة بالبشر في الربع قرن الأخير تحولًا سريعًا وكذلك جذريًا.» ومن يتخلى اليوم عن الفرصة المتاحة في إنشاء ملف شخصي، فإنه يجازف بالتعرض للعزلة الاجتماعية.

يتذكر برنارد أن الكثير من الشباب، الذين ارتكبوا جرائم إطلاق النار بصورة عشوائية، قد أثاروا الشكوك فيهم بسبب عزوفهم عن التواجد على شبكة الانترنت. واليوم  يندرج ضمن السلوك غير المنضبط سلوك ذلك الشخص، الذي ينسحب من ميثاق الملف الشخصي، وليس ذلك الشخص، الذين كان من الضروري إنشاء ملف جنائي له في وقتٍ سابق بسبب سلوكه الشاذ.

ما يسري على تقنية التعقب الموجودة اليوم في كل مكان  (نظام التموضع العالمي) “GPS”  يشبه ما يسري على الملف الشخصي. فسرعان ما انتقلت وسيلة المراقبة التقنية – التي كانت تُستخدَم في التسعينات لأغراضٍ عسكرية ومن ثمَّ جنائية  –  ليستخدمها الناس لأغراض مدنية. حدث هذا على أقصى تقدير مع بداية طرح أول جهاز “آي فون” في الأسواق وذلك في التاسع والعشرين من يونيو عام 2007. يمكن اليوم بسهولةٍ بالغة إعادة بناء ونقل المسارات العقلية والنفسية لمن يستخدم الهاتف الذكي. ومن الغريب أن السواد الأعظم من مستخدميه لا يستاءون من ذلك كثيرًا. حيث أصبح ارتباطهم بالتطبيقات الحديثة للاتصال عن بعد و التي تختص بالتواصل وتحديد قياسات الجسم ارتباطًا متقدمًا جدًا.

 يتمثَّل القاسم المشترك لكل التقنيات، التي يصب “برنارد” تركيزه عليها، في تتبع أصل استخدامها. فدائمًا ما يبدأ استخدامها لسببٍ عسكري أومخابراتي أو جنائي، يزيد من تطورها. ويقال بشكلٍ ارتجالي: ما كان يُكتَب عليه في السابق “احذر، أنت مراقب” نقرأ بدلًا منه اليوم “انتبه، هناك إبداع”. فقد أصبحت التقنيات القمعية آنذاك بمثابة “الأدوات” التحررية اليوم. لكن هل هذا صحيح؟ لا، بالطبع لا. لا يدع “أندرياس برنارد” مجالًا للشك في ذلك. إن تناقض العصر، الذي نحياه، يكمن في صعوبة التحكم في (الذات) والحفاظ على الوعد  بالتمتع بالاستقلال بالتزامن معًا. ومن الصعوبة بمكان أن يتنبأ المؤرخون المعرفيون أيضًا بكيفية تفاعل كلا هذين النموذجين معًا في المستقبل. إلا أن “برنارد” يظل متفائلًا بقوله: “إن الوعد الذي يُمنِّي بتطوير ذواتنا يعد سلاحًا أكثر سطوًة من أي عملية لتوحيد الأفكار.”


عدد القراء: 3234

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-