ما فوق الفن المعاصر.. محرقة الفنون الجديدة
المحرر الثقافي:
الكتاب: "ما فوق الفن المعاصر.. محرقة الفنون الجديدة"
المؤلف: يوسف الريحاني وفاطمة الزهراء الصغير
الناشر: دار الحكمة، الصندوق العربي للثقافة والفنون، بيروت
بدعم من الصندوق العربي للثقافة والفنون ببيروت، صدر عن سلسلة "هامش" التي يشرف عليها مختبر بكيت لفنون العرض المعاصرة بتطوان بتعاون مع الناشر دار الحكمة، الكتاب الرابع بعنوان "ما فوق الفن المعاصر- محرقة الفنون الجديدة" لكل من الفنانين يوسف الريحاني وفاطمة الزهراء الصغير.
جاء الكتاب مرفقاً بصور بالألوان لأعمال فنية عالمية وعربية؛ ليسد حاجة ملحة بالمكتبات العربية لدراسات تطبيقية حول الفن المعاصر وأشكاله الجذرية التي تجتاح متاحف العالم في شكل أشبه بالهولوكوست الذي أتى على أشكال الفن الحديث التقليدية من صباغة ونحت ورسم لصالح أخرى جديدة وملتبسة ويصعب تصنيفها.
لو سألنا أي فرد بغض النظر عن عرقه أو لغته أو موطنه: أي شيء ينهكك؟ سيجيب لا محالة: السرعة، وأيضا هذا الجديد المتمخض عنها الذي يبدو وكأنه بلا نهاية. قد نكون في عقدنا الرابع ولكننا إزاء تسونامي التغييرات الهائلة يداهمنا شعور وكأننا عشنا حياة كبيسة برغم السرعة التي يمر بها الزمن. كان الفنان ربيع مروة صادقاً حينما أطلق على إحدى أعماله الأدائية عنواناً مثيراً للمفارقات: (الحياة قصيرة ولكن الأيام جد طويلة)؛ فنحن بالفعل نعيش في عالم يتعاقب فيه الجديد كل يوم بينما تقل فيه باستمرار حاجتنا للقديم.
في ظل هذا التيار الجارف من التغيرات المتواترة، تحياً مجتمعاتنا الناطقة بالعربية وتتخبط وسط سيل من المستجدات وقد أنهكتها الممانعة ومقاومة الموجات الجديدة، معظم فئات مجتمعنا المطبوع بالمحافظة تكافح اليوم ضد تحولات تعصف بكل شيء وتمزق بلا رحمة نظم القيم الموروثة. قال البعض هو طوفان يعصف بقوارب الأمان في مجتمع ذي خصوصية متفردة: (معتقدات، أسرة، عادات متوارثة)، ورأى آخرون ذلك عنوان أزمة للأمة إن لم نقل انهياراً لها وكارثة ألمت بها؛ ولكن لو تعالينا موسعين زاوية النظر وكأننا على متن طائرة درون Drone تلتقط المشهد من أعلى، فسندرك دون عناء بأننا لسنا وحدنا في هذا المأزق وإن كنا أكثر ممانعة من غيرنا؛ فهذا المد العاتي من التغيرات المتلاحقة هو إعلان حتمي عن استنفاذ المجتمع الصناعي لأدواره، لصالح موجة ثالثة من الحضارة اصطلح توفلر Toffler على تسميتها بموجة ما بعد التصنيع تجتاح العالم برمته.
كانت المجتمعات العربية والإسلامية على الدوام مجتمعات قبلية في غاية القوة والعنفوان، تمكنت فيما مضى من إنشاء إمبراطورية شاسعة يقر الجميع بدورها في مرور الفكر البشري الكوني من الظلمات إلى عصر النهضة؛ ولكن المشكلة تكمن اليوم في إيجاد معادل لهذه القوة من خارج هذه المنظومة القبلية؛ تدفع بمثل هذه المجتمعات التي تعد بالكثير إلى القبول بالجديد الذي يبدو في عصر الميديا وكأنه لا يريد أن يتوقف أبداً. أصبح التغيير تقليداً يومياً في معيشنا المعاصر حتى صرنا مرغمين على الفقدان والنسيان؛ عاشت الأجيال التي سبقتنا على نمط واحد لا غير، فهناك مثلا من قضى حياته كلها لا يعرف وسيطاً للموسيقى غير أسطوانة الفينيل Vinyle؛ أما اليوم فسرعان ما انتقلنا من الشريط الممغنط إلى القرص المدمج ثم وبسرعة أكبر إلى الأيبود I pod وإم بي3 MP3 قبل أن تتكفل الهواتف الذكية بهذه المهمة. من منا لا يزال يتذكر شكل الهاتف النقال الأول الذي استعمله في نهاية التسعينات، وكم من جيل من هذه الهواتف النقالة مرت علينا في اتصالاتنا ثم تغيرت بلمح البصر لتصل بعد عقدين إلى ما هي عليه اليوم من شاشات ذكية متصلة بالعالم؛ وبدورها هذه الأخيرة تستعد لتخلي مكانها لجيل مجسم من شاشات رباعية الأبعاد على وشك اكتساح الأسواق.. هي سمة عصر لا يترك للجديد أن يستقر على حال إلا لفترة قصيرة ليس إلا.
والفنون بدورها لم تسلم من حمى التغيير الجذري الذي أفضى بها بعد خمسين سنة من ظهور الفن المعاصر إلى أشكال غير مسبوقة، تستعصي على التصنيف وتقاوم الأرشفة والمتحفة. فما اعتبرناه في السابق أشكالاً فنية جديدة كالإنشاءات الفراغية Installation والبرفورمانس Performance صارت اليوم من الكلاسيكيات المعاصرة والشائعة جداً مقارنة بالديجتال الذي تدخل في كل شيء..
وليس هذا الكتاب سوى محاولة متواضعة لمسايرة بعض من هذه التغييرات؛ فالأكيد أننا نعي دون عناء بأن الفنون العربية الراهنة قد شهدت تحولات هائلة فقدت معها مراكز تقليدية مواقعها الريادية لصالح حواضر جديدة هي بمثابة واحة للفنون بالعالم؛ كما تغيرت معايير السوق وتحولت وظائف المتاحف، وتراجعت أسماء رائدة لصالح أخرى شابة، وتبوأت الفنون الجديدة مكانة محورية ضمن مخططات التنمية لدى دول ربما لم يكن لها تاريخ فني عريق في هذا المجال، ولكن العبرة في مجتمعات ما بعد التصنيع بالصيرورة لا بالماضوية.. بالهروب لا بالتجدر.
قد تبدو مهمة هذا الكتاب بسيطة ولكنها في الحقيقة جد معقدة؛ اعتباراً لكون أن أي تفكيك لموضوعه يظل مجرد حصر مؤقت قد تعصف به تغيرات جديدة ربما تحصل في الغد القريب ولا يمكن التكهن بها وهذا طبيعي جداً، لأننا لو كنا على يقين تام بما ستحمله لنا الأيام لما سميت هذه الصيرورة الزمنية بالتاريخ كما يفضل عبدالله العروي أن يردد دائماً؛ لكن يكفينا التطلع إلى إنجاز حصيلة مؤقتة مدعومة بأطروحات تزحزح المنظورات السائدة عن نقاط ارتكازها، وتتطلع إلى صياغة السؤال الإشكالي حول آفاق ومستقبل هذه الفنون الجديدة بالعالم العربي، فمن الأسئلة الجديدة كما رأى ريجيس دوبريRégis Debray تنهض الأجوبة التي لا تستمد عظمتها إلا من سمة النقصان.
وربما بسبب هذا التعقيد كان ضرورياً في التأليف والتركيب، التوسل بخبرات متمايزة ومناهج قد تبدو متنافرة: (التزامني مجاوراً للتعاقبي/ الوصف مع التحليل/ الأكاديمي والميدياتيكي..) وبدون ذلك كان يستحيل وضع القارئ العربي في صلب مجال واسع يلامس كل التخوم: (الميديا/ الاستعراض/ الترفيه/ البحث وفن العيش)، كل ذلك طبعاً ضمن استراتيجية لغوية تروم المكاشفة بعيداً عن لغة الخشب المنفرة للقراء ومتحدية نخبوية آلهة المعاني وأصحاب الألواح. وكنتيجة، قد يعترض المؤرخ مثلما قد يعترض الفنان والناقد وقبلهم نبي الحداثة؛ ولكنهم في النهاية ومهما توزعت اختصاصاتهم تجمعهم صفة القارئ الذي إليه يتوجه هذا الكتاب، محسساً بقيمة مبدأ القبول بالجديد، ومتحديا أخلاقيات التيئيس والتشاؤم غير قابلة للتبرير.
ستجد مجتمعاتنا طريقها نحو غد أفضل بطريقة لن تخطر على بال أكثر المثقفين العضويين تشاؤماً؛ ومعظمنا في هذه الجماعة اللغوية الناطقة بالعربية منذور في النهاية إلى الارتماء في صيرورة العصر (النيوليبرالي) ولن يشكل ذلك بتاتاً أي خطر على وجودنا، على العكس سيعضده ويقويه؛ ففي عصر الموجة الثالثة للحضارة حيث يزداد توحد منظومة القيم الكونية يوما بعد يوم، يصير سؤال الجديد والقبول به مسألة وجود وبقاء لا مجرد فضول فكري.
تغريد
التعليقات 1
مزيدا من العطاء
اكتب تعليقك