غادة السمان .. النضال والمنفى من أجل (الحائين) الممنوعتين

نشر بتاريخ: 2015-08-03

فكر – الرياض:

في رواية (يا دمشق وداعًا – فسيفساء التمرد) تتابع الروائية السورية الشهيرة غادة السمان معاركها الأدبية والفكرية من أجل هدف اختصرته بحرف (الحاء) ليشمل عالما سعت إلى تحقيقه يقوم على عمودي وجود هما (الحرية) و(الحب).

والحرية هنا لا تقتصر على مجرد ممارسة الحق السياسي بأشكاله المختلفة بل تتجاوز ذلك إلى وجوه اجتماعية متعددة تجعل الإنسان شبه مستعبد فيها باسم السلطة الذكورية وباسم التقاليد الاجتماعية والمفاهيم التي يسميها البعض دينية.

والحرية هنا لا تنفصل عن (حاء) أخرى بل عن اثنتين هما "الحق" في "الحب".  والحق في الحب لا يقتصر على حق الإنسان في أن يحب ويكون محبوبا وأن يختار توأم روحه ورفيق عمره بل يشمل هنا الإيجاب والسلب. أن تختار من تريده رفيقًا للطريق وأن يكون لك الحق أن تقول له وداعًا فقد انتهت القصة إذا اكتشفت أن توقعاتك وأحلامك لم تكن في موضعها.

وتعود الروائية السورية غادة السمان في روايتها "يا دمشق وداعًا" إلى مدينتها في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، لترسم بدايات التغيير الذي أحدث شروخا عميقة في بنيتها، على مختلف الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتأثير كل جانب على الآخر، وعلى صورة المدينة نفسها.

كما ترسم السمان في الرواية وجوها متعددة للرجل، تتخلل تلك الوجوه عدة عوالم، منها عالم الأدب والصحافة والسياسة والتجارة والمخابرات والأعمال والحرف.

فهناك الأب الواعي المتفهم أمجد الخيال، وهو الذي يناصر ابنته في قراراتها ويشجعها على المضي في سبيلها، وهناك الطبيب المناهلي الذي لا يتوانى عن مساعدة من يلجأ إليه، ويعاني من آلام طفولته ويتمه، ويكون واقعيا في تعاطيه مع من حوله. وهناك الزوج الخائب الذي يريد زوجته خادمة في البيت لا شريكة في الحياة.

كما أن هناك الملازم ناهي الذي يمثل وجه السلطة البشع، إذ يسعى -بعد انقلاب البعث الذي أطاح حينذاك بالسلطة وجاء بسلطة معادية للشعب وتطلعاته- إلى تشويه المجتمع السوري وبث الفرقة بين أبنائه، ويحاول استغلال منصبه للفتك بمن لا يرضخون لإملاءاته ورغباته المجنونة، ولا يتوانى عن المتاجرة بالممنوعات والأدوية المنتهية الصلاحية التي يقع ابنه ضحيتها، وتراه يوزع قائمة الاتهامات هنا وهناك في سبيل الابتزاز والاستغلال.

ثم هناك الأديب الفلسطيني غزوان العائد المسكون بقضيته وعشقه لفلسطين، وجسّد صورة المناضل الفلسطيني المثقف بقلمه وفعله، ويكون نصير المرأة، وتجمعه بزين عدة مواقف ومفارقات ومصادفات فيجدها الأقرب إليه، وهي تتمنع هاربة من تجربة حب ثانية، رافضة الانصياع لقلبها ومتشبثة بإرادته في الحرية التي تصفها بأنها حبيبها الأوحد الأزلي الأبدي.

أما زين الخيال بطلة غادة السمان فقد واجهت المجتمع الذي كان ضاريًا معها في حالتي الإيجاب والسلب. لقد اختارت من تحب وتزوجته متحدية غضب مجتمعها ثم أثارت غضب هذا المجتمع عندما أخذت بزمام المبادرة ومارست حريتها معلنة أنها تريد أن تطلق هذا الذي أحببته في البداية وما لبثت أن اكتشفت أنه تحول إلى شبه جلاد لها وإلى زير نساء وإلى متحكم ذكوري يعيش بعقلية قرون مضت.

ولا يمكن للحرية الاجتماعية أو للظلم الاجتماعي هنا -خاصة عندما تكون الأنثى أديبة كاتبة- من أن يتقاطع مع الاستبداد السياسي أو مع قمع بوليسي يفرضه متحكم برقاب الناس.

كان أمام زين الخيال خياران الأول هو أن تدفع الثمن غاليا من أنوثتها وكرامتها أو أن تختار المنفى إذا كانت حسنة الحظ إلى درجة أن يتاح  لها الهرب إليه.

إنها هنا رمز التحدي ونشر "جراثيم" التمرد والحرية بين النساء ولذا فقد تخلى عنها الجميع إلا أقلية محبة مناضلة. ومن هنا فقد انتهت بعيدة عن دمشق ستينات القرن العشرين.. دمشق التي تعشقها لكنها كانت على رغم الغصة تحب منفاها أي لبنان بحرياته وازدهاره الثقافي في تلك الحقبة.

وتحاول صاحبة "لا بحر في بيروت" في روايتها (منشورات غادة السمان، بيروت، 2015) الانتصار لصورة مدينتها دمشق التي تودعها واقعيًا وتحتفظ بها في خيالها ووجدانها، وتؤرخ للأمكنة الدمشقية قبل أن يطالها العبث والتشويه على أيدي الغرباء عن دمشق، كما تستعمل قاموسا من المفردات "الشامية" التي تضطر لشرحها وتفسيرها للقارئ في الهوامش التي تثبتها.

وعندما جاء والدها الذي كان صديقها وداعمها الرئيسي لزيارتها في لبنان وتوفي بنوبة قلبية وصفت بطريقة مؤثرة وداعها الأخير له عند الحدود اللبنانية السورية ليلا وكيف راقبت وسط دموعها الأضواء الخلفية لسيارة دفن الموتى تبتعد به وسط الظلام وقد حالت بينها وبين اللحاق بالموكب ما أسمته أسوار دمشق اللامرئية.

ودعت موكب الوالد وهي تقول "اقرع الأسوار اللامرئية لدمشق تحت المطر وأنا أنتحب تمردي وأصرخ بوطني: أنت علمتني رفض الذل على طول تاريخك مع الفاتحين فلماذا تريد أن تذلني الآن ... أريد أن أغادرك حين أشاء وأعود إليك حين يحلو لي."

غادة السمان روائية وشاعرة في ما تكتبه وتتمتع بقدرة غير عادية على تحويل كل ما تتناوله من يوميات الحياة أو شؤونها العميقة إلى سرد قصصي مشوق جذاب يشد القارئ إليه بقوة. وهي قادرة على أن تحمل القارئ معها وتنفذ من به من الشأن العادي إلى العميق الإنساني.

رواية غادة السمان هذه هي تكملة أو استمرار لأجواء ما أسمته "الرواية المستحيلة" وجاءت في 204 صفحات كبيرة القطع وصدرت عن منشورات غادة السمان دون ذكر مكان الصدور.

لغادة السمان التي تعيش خارج سوريا ما يزيد على أربعين عملا بين روايات وقصص وغيرها.

في الإهداء الذي حمل عنوان (رسالة حب متنكرة في إهداء) تعبر غادة السمان عن حبها لدمشق مستحضرة ما يروى من قول الخليفة هارون الرشيد لسحابة عابرة "امطري حيث شئت فخراجك عندي".

قالت "أهدي هذه الرواية إلى مدينتي الأم دمشق .. التي غادرتها ولم تغادرني. يوم رحيلي صرخت في وجهي: "امطري حيث شئت فخراجك عندي" وإلى الحبيب الوحيد الذي لم أخنه يوما واسمه: الحرية.. الحرية .. الحرية.."

الرواية ليست سيرة حياة أدبية لغادة السمان لكن فيها الكثير من المشابه لسيرة حياتها.


عدد القراء: 2973

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-