القصة القصيرة وبروتوكولات السرد ما بعد الحداثوي معاينة في مجموعة سايكو بغداد لرغد السهيلالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2017-11-06 22:49:40

أ.د. نادية هناوي

العراق - بغداد

تعزز الكاتبة رغد السهيل في مجموعتها القصصية القصيرة (سايكو بغداد1) المستوى الشكلي بالمستوى المضموني من خلال تركيزها المتواصل على التقانات بطريقة ابتداعية تتوزع بين الاشتغال الفانتازي لبنية السرد عبر توظيف الحلم، وبين الاهتمام باستعمال تقانة الكولاج الذي يقوم على جمع شمل المشتت بوساطة القطع واللصق، مع الانبهار الكبير بطريقة التكرار وفاعليتها في تصعيد السرد وتعقيده.

وهذه التقانات بمجموعها تنضوي ضمن ثيمة مركزية تهيمن على قصص المجموعة كلها وهي ثيمة الصمت وبهذا تصبح الذات السردية بوصفها الشخصية التي تؤدي دور البطولة في القصة عادة هي الضحية التي تلفها الغرائبية بالوجع ، ويلجمها الواقع بالخرس، حارمًا إياها من حريتها وزاجًا بها في دوامة تراجيدية لا نهاية لها وفي ثوب من الكوميديا السوداء الموجعة ..

وينبع إيثار الذات للصمت على البوح من سلبية إدراكها أنها غير قادرة على المجابهة وتلك هي لب معاناتها الإنسانية التي تطفو فوق ذلك التيه في لحظات من الأشياء التي لا علاقة لها بالموضوع كأنها هي صوت الجماعة المغمورة2 ..

ولقد أجادت الكاتبة في الذي أرادت توصيله من أن الذات لن تخرج عن المعتاد إلا والصمت خيارها طارحة أسئلة صادمة وإجابات متهرئة بالتناقض والتضاد واللافهم حيرة وتشظيًا.

وبسبب الصمت غدت الذات السردية كينونة مضغوطة فكريًّا ومقموعة جسديًا في هيأة كيان صوري، ومن الجدير بالإشارة إليه هنا أن المفكر ديكارت بفلسفته العقلية كان قد دحض خيار الصمت واجدًا أن العقل المضمر هو سذاجة لعقل صامت وملازمة لوعي صامت يعتمد كلية على مآثر اللغة. بينما وجد الفيلسوف هوسرل أن امتلاك عالم الصمت ليس هو ذلك العالم الصامت إنه العالم المنطوق المرفوع إلى مستوى الكينونة ولذلك لن يكون الصمت هو الضد للغة3.

وعلى مستوى الاشتغال الفنتازي نجد أن القاصة وبسبب انبهارها بالنظريات العلمية تسعى إلى التجريب السردي وبما يضاهي تلك النظريات وربما يفندها ناسفة مبدأ العلة والمعلول متجهة صوب الفنتزة التي بها تمزج الخيال العلمي بالمخيال السردي، فتهيم الذات في الواقع متوسلة بالفنتزة لعلها تدين الواقع أو على الأقل تحتج على وحشيته وبشاعته.

 وقد تعمد أحيانًا إلى خرق المألوف سلبًا بالخيانة والانتحار والجنون والوهم .. وغيرها من الصفات الموسومة باللااكتراث وعدم المبالاة..

 علمًا إن الذات عندها في الأغلب هي أنثى ساردة كانت أو مسرودة، كما هو الحال في قصة ( قواقع نوح) إذ تلعب الفنتازيا دورًا محوريًا في توليد خيالات الساردة وأوهامها التي يكون القصد منها رفض الواقع المرير عبر جعل البحر معادلاً موضوعيًّا للتاريخ أما قواقعه فإنها أمكنته الأثيرة التي كادت أن تخطف وتزول في دوامة شبيهة بمتاهة جيمس جويس.

وإذ تحاول الساردة عبثًا إنقاذ القواقع من السطو والاختطاف، فإن الحلم سيكون هو وسيلتها الوحيدة التي بها تقطع بؤرة السرد وتؤنسن البحر وهكذا تسود الفنتزة خط السرد فتظهر شخصيات وتختفي أخرى وتتوالى تساؤلات وتتناوب ضمائر السرد الثلاثة..

وتؤدي الفنتزة الموضوعية في قصة (جناحا أنثى) إلى تمكين الذات المأزومة من التحليق لعلها تستعيد مركزها وتستقر في مكانها قالبة مقولة أن العالم يستقر على قرن ثور إلى مقولة استقراره على جناحي أنثى.. لكن البطلة آمنة المستكينة التي نما لها جناحان صارت ترقص رقصة الطائر المذبوح ليتغلب القط الأسود عليها معلنًا إن الظلام والاستلاب وكبت الحريات سيظل يهدد الذات المؤنثة في كل زمان ومكان..

وتقف الذات في قصة (أنف التفاحة) مكتوفة اليدين أمام هلعها وهي ترى الوطن يتقسم ويغدو كأنه التفاحة التي ما عدنا قادرين على رسمها .. وبالسؤال "أين الأنف المثلث في الخارطة؟"4 تتحول التفاحة إلى ترميز للانتماء والاحتواء وقديمًا كانت التفاحة ترمز إلى الوليمة التي تخاصمت الإلهات عليها والتفاحة الذهبية هي العالم الذي تشكل من الأضداد لكن التفاحة في القصة تغدو هي الخارطة التي يبغي الابن رسمها فتختلط الرؤية على الوالد "نعم يا ولدي ارسمها كما هي بالكتاب هكذا ويحرك القلم على ورقة بيضاء تأبى أن تطاوع فيها الخطوط يسقط القلم .."5 

 وتتشظى الذاتان اللتان تكونان على طرفي اتصال هاتفي بين داخل العراق وخارجه في قصة (شجن المانوليا) بالمفارقات الساخرة فتؤنسن زهرة المانوليا بتحولات تشتت بنية السرد بين موضوعة الانفجار وموضوعة السيجارة.

وتنفرد قصة (أرانب بغداد) بكونها عبارة عن قصص قصيرة جدًّا اجتمعت في متوالية سردية، والذات فيها تبدو عاجزة عن الاحتجاج على الموت الجماعي فتؤثر الصمت ويسهم استعمال الفعلية المضارعة في توكيد ديمومة عجز حيوات القصة وتعاستها.

وتتحول حيوات قصة (أحذية مجنحة) إلى ديكة ودجاج وطيور، وبفنتازية تسارع النساء إلى ارتداء أجنحة يطرن بها إلى القمر أما الساردة بضمير الأنا فتظل في منأى عن الفنتزة لكونها تجد ذاتها منفصلة عن الأخريات منكفئة على نفسها بفردانية تعزلها عما حولها وهي تبحث عن حمارها" أحببت حمارًا نعم أحببت حمارًا" أما هي فلا يهمها سوى التواجد قرب نقاط التفتيش لعلها تعثر على هذا الحمار.

وبهيام فنتازي يتحول الجنون إلى رسالة توجهها بطلة قصة (كرنفال عقلي) إلى المجتمع الذي ألجم طموحاتها متنقلة في المدينة بانسيابية كحسناء تسير هائمة عارية حتى إذا التف حولها الجمهور أضرمت النار فيهم "هي لم تكد كيدا كانت فاكهة لذيذة اللذة تستحق المغامرة آدم يعترف: لماذا كل هذا اللغط أنا الذي اخترت؟ فاكهة لها ذيل يمتد على مدى العصور أحيانًا خيوط رفيعة تفصل بين التابع والمتبوع أحواء هي التي تتبع الإيقاع؟ أم الإيقاع كله ترسمه حواء؟ أي حواء وأي آدم وأي إيقاع القضية فيها كرنفال". ص103

ولا غرو أن تطرح الشخصية تساؤلات تبغي من ورائها أن لا تعبأ بالآخرين لأجل أن تنصرف إلى حلمها في التحرر والحرية وهذا تدليل رمزي لقوة الجنون حين يكون كرنفالاً لانطلاق العقل وهو ما يتعالق مع حادثة حرق الشاب التونسي بو عزيز لنفسه احتجاجًا على قمع الحريات أذبان ثورات الربيع العربي أما هنا فإن الجسد الأنثوي يرمز للحرية التي يكون في أوارها استنهاض للإمكانيات النسوية وقدرتها على التغيير.

وتهيمن الفنتزة الدرامية في قصة (وهم إيقاع) باستباق وميتا سرد كي تنسف التراث الذكوري ممثلاً بابن حزم وحمامته لتحل محله الأنثى وقد غدت هي حمامة ما بعد الحداثة.

وتكون الفنتازيا صادمة في قصة (حارس الورق) لكون الذات معوقة بالخوف على الكتب من جرذ مزعج" آه يا بورخس كان عليك أن تدلني على الطريق الحقيقي لمكتبة بابل"6 مع تساؤلات وتناصات لأسماء روايات ويعم العوق ليصل إلى الوطن فلا يغدو إلا مستحقًا الخيانة وتموت دجلة وأبو نواس والحلاج وتنتهي القصة بمشهد لحلم غير منته حيث السارد يرى كتبه تمشي على الأرض هاربة وقد نبتت لها أجنحة وطارت.. وجرذ كبير قابع فوق الفردوس يقضم الورق بهدوء..

وعلى الشاكلة نفسها من الترميز يوظف الحمار في قصة (أحذية مجنحة) تأثرًا بالطريقة التي وظف فيها الحمار رمزًا في الأدب كما في كتاب الحمار الذهبي أو كتاب التحولات لابوليوس الذي انقلب بفعل السحر العنيف إلى حمار..

ولأن الإنسان المعاصر لا يستطيع أن يتجاوز الزيف والبلاهة والتخاذل لذلك صار كيانًا مزيفًا وقد جسدته الكاتبة في شكل نزوع كافكوي يقوم على التحول اللاواعي المفنتز حيث يتضاد التصور بما يعاكسه "سأراه اليوم أنني واثقة لأن تيشخوف وإن لم يكن حمارًا إلا إنه مفكر من طراز متميز"7 .

وما من تلهف فكري إلى الانتظام والترتيب، ولا تناغم كوني نحو التنظيم إلا وتسعى القاصة إلى تفخيخه ولغمه من خلال التحول الفنتازي في هذه القصة وكأن القاصة تحاول استعادة بدائية الصور الرمزية، على شاكلة ما كان يفعل لويس كارول في أليس في أرض العجائب أو بورخس في أحلامه الفنتازية "فالديوك منتوفة الريش إلا بعض ريشات منتصبة فوق الأعراف أما الدجاجات فبلا أجنحة ربما تعرضن إلى طفرة وراثية جعلتهن جميعًا على هذه الهيئة. شعرت باختناق وضيق في التنفس بحلقت بالوجوه كلها باحثة عن شبه ما لحماري شعرت كأنني كائن غريب بينهم لست من فصيلتهم"8.

والبغية من وصف البشر بهذه الصور اللامعقولة هو تعبير رمزي عن التشويه والتحول الذي طال الذات الإنسانية فضلاً عن السخرية من حالة الارتباك والقبح التي عمت الحياة المعاصرة وهكذا يتحول مجرى قصة أحذية مجنحة من التكلم إلى الخطاب "أطلب منكم مساعدتي في البحث عن حماري وهو سيتكفل بقضية الطيران من كافة الزوايا والأجنحة والأحذية والألبسة لكن أرجوكم ألا تخلطوا بينه وبين حمار الحكيم فحماري عراقي أصيل"9. 

وتنحى قصة (الموت بالآجل) نحو الميتاسرد الذي يشتغل على تيار الوعي باستعمال التكرار على طريقة أرنست همنغواي، مستعملة عبارة (كان فقيرًا معدمًا يتحرك في المكان) التي تضعها أينما وردت في القصة بين قوسين كبيرين.

 وعلى الرغم من قصدية الفنتزة والتدويم إلا إن الصمت يغدو هو الأكثر بلاغة من الكلام "حرت بأي شيء أرد عليه للصمت دوي أكبر من أي ردة فعل عندي"10.

ولا يقتصر التوظيف التقاني على مستوى الداخل نصي، بل يتمادى إلى الخارج نصي أيضًا إذ تعمد الكاتبة بقصدية واعية إلى مزاوجة التكرار بالكولاج عبر تقطيع القصص وإعادة لصقها في الغلاف الخلفي لتغدو بمجموعها عبارة عن قصة قصيرة جدًا تم تكثيفها من مجموع القصص القصيرة الداخل نصية ..

وبالتكثيف السردي تجتمع عنوانات القصص العشر مع بعضها فيكون المتحصل في النهاية (سايكو بغداد) على نهج عولمي ما بعد حداثوي فيه الصمت هو البروتوكول القصصي الذي هو بمثابة اصطناع سردي على حد تعبير أمبرتوايكو يجعل الشخصيات ذواتا تحلم بواقعية مرمزة بالفنتازيا ومتناصة أيضًا مع الخيال العلمي.

 

الهوامش:

1 - سايكو بغداد قصص، رغد السهيل، دار الأدهم للنشر والتوزيع، مصر، طبعة أولى، 2013

2 - ينظر: الصوت المنفرد مقالات في القصة القصيرة، فرانك اوكونور، ترجمة د. محمود الربيعي، ومراجعة محمد فتحي، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1969/42

 3 - ينظر: المرئي واللامرئي، موريس ميرلوبونتي، ترجمة سعاد محمد خضر دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، الطبعة الأولى، 1987/ 163ـ 164

4 -  م .ن/ 31

5 -  م .ن/ 30

6 -  سايكو بغداد/ 132

7 -  م .ن/ 83

 8 -  م .ن/ 90

9 -  م .ن/ 97

10 -  ينظر: م .ن/  69ـ 87


عدد القراء: 6592

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-