هلْ يستحوذُ الرّوائيُّ، عادةً، على إجازةٍ جامعيّةٍ؟الباب: مقالات الكتاب
أ.د. محمد مرشحة أستاذ مادتي (الأدب المقارن)، و(الآداب العالمية) في جامعة حلب، كلية الآداب |
لعلّ المُدقِّقَ في الِّنتاج القصصيِّ العالميِّ يلحظ بوضوح أن هناك تقنيةً معقدةً ولافتةً في الوقت نفسه نجدها عند كتّاب القصة والرواية في العالم؛ ولذلك فقد أخذ بعضُ النقّاد يطرح أسئلةً عدّة متعلّقةً بالفنّ الروائيِّ وعلاقته بالدرس الجامعي: هل يتطلّب الفنُّ الروائيُّ شهادةً جامعيّةً، أو أن الموهبةَ هي الأساسُ وهي التي ينبغي أن يعوّل عليها المرءُ؟(1)
وهل يُعلَّمُ الخيالُ أو أن الخيالَ لا يتطلّب تعليمًا معيّنًا أو درسًا خاصًا؟
طبعًا لا نستطيع الإجابةَ عن هذه الأسئلة بهذه البساطة؛ ذلك أننا يمكننا الولوجُ إلى أمثلة روائية كثيرة نجد فيها روائيّين متعلّمين وغير متعلمين قد استطاعوا أن يستحوذوا على مفاتيحِ الفن القصصي استحواذًا لافتًا. وأغلبُ الظنّ أن الوصولَ إلى أجوبة مقنعة عن أسئلتنا السابقة تتطلّبُ مقاربةً علميّةً ومتأنّيةً في آن.
ومن المفضَّل أن نُشيرَ إلى أن ممارسةَ فنّ الكتابة تتضمّن عنصرين مهمَّين في الوقت نفسه: فهي حاجةٌ إنسانيةٌ قبل كل شيء، وموهبةٌ فردية. وأما الحاجةُ الإنسانيةُ فهي حاجة تفسّرُ سعيَ الإنسان إلى إرواء تعطّشه عن طريق إخراج ما في نفسه من أفكار وأشياء مُخبّأة ومنتظرة الفرصة المناسبة للتجسد عبر الشخصيات والأفكار القصصيّة. ويخيّل إلينا أن هذه الحاجةَ هي "الموتور" المحرِّك للإبداع القصصي الذي يدفع الروائيَّ إلى إخراج ما في جعبته من معاناةٍ وأشياءَ ليعيش نوعًا من الراحة النفسية في ظل الضغوطات الحياتية اليومية التي تثقل كاهلَ المبدع. ويمكننا أن نسميَ هذه الحاجةَ بأنها فرديّةٌ ونفسيةٌ واجتماعيةٌ في الوقت نفسه.
وتبقى الموهبةُ الفرديةُ هي التي تميّز الكاتبَ من الناس العاديّين؛ إذ لا يمكن أن يكون الناسُ كافةً مؤهَّلين ليكونوا مبدِعين قادرين على صنع عالمٍ أو عوالمَ إنسانيّةٍ متميّزة. وأغلبُ الظنّ أن قضيةَ الإبداع قضيةٌ متّسمةٌ بخصائصَ وإمكانات فوق عادية، أو لنقل خارقة. ولعلّ النقاد يتفقون على أن الموهبةَ تتطلّب شروطًا خاصة واستعداداتٍ أوّليّةً معيَّنة. ولو لم تكن الموهبة شرطًا أساسيًّا لكان بإمكان كل امرئ أن يمتلك القدرةَ على الكتابة الروائية. ومع ذلك، فكل من يحاول اكتشافَ سرّ قوّةِ التأثير الروائيِّ لدى الكتّاب، يبدو له سريعًا أن الموهبة غيرُ قادرة وحدَها على أن تصنع من الناس جميعًا كتّابًا متساويين في الوظيفة الروائية وفي طبيعة التقنية وجودتها. فنحن لا نتأثّر بأفكار نجيب محفوظ وشخوصه مثلاً، تأثّرنا بأفكار طه حسين وشخوصه. إذ يُشكّلُ نوعُ الثقافة عندهما نوعًا من الكفاءة، ويميز حالةً روائيّةً خاصة، وتصنع منهما روائيين يفترقان في الفكر والأسلوب والشخوص، وتتحوّل التجربةُ الواسعةُ –قدر المستطاع- إلى وعي. إن هذا ما يدفعنا إلى الوقوف طويلاً عند الطريقة التي يؤثّر بها شخوصُ الرواية فينا وفي الإبداع الروائي وفي الكتّاب معًا؟
ويؤكد معظم الروائيّين أن هناك ثلاثةَ شروط للكتابة الروائيّة: العمل والوقت وتقنية فنية يمكن اكتسابُها بالتدريج(2). ولا شك في أن العملَ ضروريٌّ وممارسة الكتابة ضرورية للاستحواذ على آلية الكتابة، كما أن الوقتَ هو الكفيلُ بتنمية هذه الآليّة وهذه الموهبة الفردية. وأما التقنيةُ الروائية فتتأتّى بالقراءة المستمرّة والموجّهة.
على أن هناك من النقاد من يثقون بالشهادة الجامعيّة؛ لأن السبيلَ الأوحدَ لإتقان اللغة بشكل تام يتمّ عبر الدراسة الجامعية والحصول على الشهادة. ذلك أن المرحلةَ الجامعيّةَ هي التي تقرّبُ الإنسانَ من لغته كثيرًا فتمكّنه من الاستحواذ على الآلية اللغوية السليمة والجميلة، وعلى الأسلوبِ الكتابي المناسب للفن القصصي في آن؛ كما أن الدراسةَ المنهجيةَ تقودنا إلى التفكير الموضوعي والموسوعي معًا، وإلى الاعتماد على الأدلة والبراهين المنطقية التي تقرّب الإنسانَ كثيرًا من مشكلات العصر والمحيط. إن الدراسةَ الجامعيّةَ بما تحمله من معارف وعلوم إنسانية تقرّب الكاتبَ من أقرانه بفضل القراءة المستمرة. ويخيَّلُ إلينا أننا لن نرى أبدًا كاتبًا روائيًّا أبدع أروعَ روايةٍ في العالم وكان يعيش في صحراءَ وما معه إلا حزمة أوراق وقلم.
فقد يرد أحد على هذا بالقول إن التاريخَ الأدبيَّ يتحدّث عن كتّاب تركوا أعمالاً روائيّةً لافتةً ولم ينتسبوا إلى جامعة ولم يتلقَّوا تعليمًا عاليًا، كميغويل دي سيرفانتس سافيدرا.
حين نتكلم على حياة هذا الكاتب الإسباني نذكر في الوقت نفسه المعاناةَ التي سبّبها الفقرُ وسوءُ الطالع. والحق أنه ولد سنة 1547 وتوفي سنة 1616(3). ويعتقد بيار غينون أنه كان إلى حد كبير عصاميًّا وأنه تمكّن من تحصيل اللاتينية إلى درجة مكّنتْه من تثقيف نفسه بنفسه بعد ذلك، حتى إنه أخذ يقرأ قصاصاتِ الورق المرمية في الشارع(4). وأصدر سنة 1585 روايةً رعويّةً عنوانُها غالاتيا (Galatea)، في حين أن الجزء الأول من روايته المشهورة دون كيشوت دو لا مانشا ( El ingenioso hidalgo Don Quijote de la Mancha ) لن يرى النور إلا عام 1605؛ ثم أصدر الجزء الثاني من روايته دون كيشوت دو لا مانشا عام 1615(5).
صحيح أن دي سيرفانتس كتب هذه الروايةَ المشهورةَ مع أنه لم يتقن إلا اللاتينيةَ ولم يخضعْ لتعليم منهجي، إلا أنه كان يتقن القراءةَ والكتابةَ اللازمتين للاطلاع على نتاج السابقين من أعمال أدبيّة متميّزة. ثم إن الاستحواذ على اللغة اللاتينية في عصره يعني أنه قادر على استقبال ثقافة عصره كلها؛ لأن اللغة اللاتينية كانت لغة العلم والثقافة والمعارف بشكل عام.
وأما إن انتقلنا إلى نماذجَ من الأدب العربي نجد أن هناك عددًا لا بأس به من الكتاب العرب الذين تحدّث عنهم التاريخُ الأدبيُّ وسجّلهم في صفحاته المشرقة ولم يخضعوا لتعليم جامعي عالٍ. وأوّلُ ما يخطر ببالنا عباس محمود العقاد الذي يُعدّ الكاتبَ والمفكِّرَ والناقدَ الأدبي الذي استطاع أن يترك أعمالاً قصصيّةً لافتةً مع أنه لم ينتسبْ إلى جامعة؛ وإنما كل ما نقرؤه عنه أنه علّم نفسَه بنفسه وولج إلى مفاتيح العلوم والآداب بطريقة فردية. ومع ذلك فإن أغلب الناظرين إلى إبداعه يرى أن نتاجه القصصي أثّر في القرّاء ونجح في تأليف قصص تركت بصماتٍ واضحةً فيهم، و أصبح ناقدًا له أثرُه في النقد وأحد ثلاثة أثّروا في الأدب العربي الحديث في مطلع القرن العشرين بنظريات قوية استنبطها نتيجة لثقافات عدّة عربية وغربية. ويذكر الأستاذ عامر العقاد أن العقاد بدأ الشعر وهو في سن التاسعة(6). ولا ينكر أحد تأثيره في عالم الأدب.
الهوامش والإحالات
1 - انظر: مارين فوجيل Marine Vogel : هل يحتاج المرء إلى شهادة جامعية ليكون روائيا؟ مجلة أنكيت Enqete عام 1993.
2 - انظر: نفسه.
3 - انظر: بيار غينون، ترجمة حسيب نمر: سرفانتيس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1979، ص 10.
4 - بيار غينون: المرجع نفسه، ص 11- 12.
5 – انظر:
Encyclopédie, Hachette 1991, p. 217. وأيضًا- Lilian Herlands Hornstein, Leon Edel and Horst Frenz: The Reader's Companion to World, CBS College Publishing 1983, P. 99.
6 - انظر: عامر العقاد: "ما بعد البعد"، دار المعارف بمصر 1965، ص:7.
تغريد
اكتب تعليقك