من معتقدات وطقوس البدو في كتاب «الرمال العربية» للرحالة الإنجليزي ويلفريد ثيسيجرالباب: مقالات الكتاب
موسى إبراهيم أبو رياش قاص وناقد ومحرر أدبي - الأردن |
يتميز كتاب «الرمال العربية Arabian Sands» للرحالة الإنجليزي «ويلفريد ثيسيجر Wilfred Thesiger» بالإحاطة ودقة الملاحظة والموضوعية على خلاف كثير من كتب الرحالة المتحيزة والمستعلية، التي تنظر للعرب عامة والبدو خاصة نظرة دونية؛ فقد دوَّن الرحالة الذي عُرف عند البدو باسم «مبارك بن لندن» مشاهداته ومسموعياته بموضوعية؛ فكتب عن العادات والتقاليد والمعتقدات، وصفات البدو وأخلاقهم، والصراعات والتحالفات القبلية والسياسية، والجراد والمطر والقحط، والعيون ومجاري المياه، والجبال والتلال والصحراء الشاسعة، والسبخات والرمال المتحركة، والقرى والمدن والتجمعات، والإبل والغنم، والحر والبرد، والزعماء والدهماء واللصوص، وغير ذلك مما تحفل به الصحراء الغنية الساحرة المحملة بالمفاجآت.
وتتناول هذه المقالة المعتقدات والطقوس التي لاحظها الرحالة ثيسيجر قي أثناء رحلاته في سلطنة عُمان وصحراء الربع الخالي والإمارات العربية بين عامي 1945 و1950م.
القبور
قريبًا من منطقة تسمى «الفضون»، زار الرحالة مقبرة، تتكون من مجموعات من القبور، وقال يصفها: «كانت كل منها تتألف من مثلثات، يحوي كل مثلث من ثلاثة إلى خمسة عشر قبرًا، وكل قبر يتكون من ثلاث مصاطب يبلغ ارتفاعها قدمين، ومرتكزة كل منها على الأخرى، بحيث تؤلف قواعدها مثلثًا، وعلى رأس بعض هذه القبور حجر رابع مستدير»(ص69)، ويبدو أن هذا الشكل المثلث الذي يتكرر، يعبر عن اعتقاد ما، أو دلالة دينية، ولم يحدد الرحالة هل القبور أثرية قديمة أم حديثة.
ويقول عن قبيلة «بيت كثير» بأنهم «لا يحفرون لموتاهم قبورًا إلا نادرًا، فهم يسندون جثث موتاهم إلى صخرة أو يضعونها في شق صخرة»(ص69)، وهذا غريب غير مألوف، ويخالف ما تعارف عليه الناس بدفن الموتى، خاصة أن «بيت كثير» مسلمون، ومن المؤكد أنه يوجد سبب وراء هذا الأمر بترك جثث الموتى في العراء.
الزار
يصف ثيسيجر أحد أشكال الزار التي شهدها بنفسه ذات ليلة قرب منطقة «مقشن» في سلطنة عمان، فقد استيقظ على صوت صراخ وصياح، ولما استفسر من رفيقه «ابن قبينة» أخبره أن الفتى سعيد أصابه مس من الجن، يقول: «على ضوء القمر الهادئ، رأيت الصبي، وهو أحد أبناء «بيت كثير»، يجلس القرفصاء فوق نار صغيرة، وقد غطى وجهه بقطعة من قماش، وهو يهتز ذات اليمين وذات الشمال، وتندو عنه صرخات مفزعة، وقد جلس الآخرون صامتين مشدوهين على مقربة منه، وفجأة أخذوا في تلاوة بعض التعاويذ، بينما بدأ سعيد يتلوى حتى سقط أحد أطراف القماش في النار، وهدأت ثورة الصبي شيئًا فشيئًا. وأشعل أحد الحضور قليلًا من البخور في وعاء ثم قربه من أنف الصبي المختفي وراء قطعة القماش، وفجأة بدأ الصبي يترنم بصوت حاد غريب والجميع يرددون كلامًا بعده، وما لبث أن هاج ثانية ثم هدأ، ومال عليه أحد الرجال يسأله أسئلة يجيب عليها وهو في شبه غيبوبة.
لم أفهم شيئًا مما دار في الجلسة من أسئلة وأجوبة، فقد كان الحديث بلهجة (المهرة)، وبعد أن أعطى (البخور) للمرة الثانية ذهبت عنه اللوثة، وتمدد لينام، ولكنه لم يلبث أن أفاق وأخذ يبكي بمرارة، ويئن كأن به ألمًا مبرحًا. وتجمع الرفاق حوله يرتلون حتى هدأ وعاوده النوم. إن الاعتقاد في بدعة (الزار) عميق في بعض الشعوب، ويعتقد الكثيرون أنه نشأ في الحبشة أو أواسط أفريقيا، ولكنني أعتقد أن ميلاده كان في جنوبي شبه الجزيرة العربية.. لقد علمت من رفاق الرحلة أنهم لكي يبعدوا الأرواح الخبيثة عمن به مس لا بد من استعمال لهجة (آل مهره) والمعروف أن أجداد (آل مهره) كانوا يقيمون أصلًا في بلاد الحبشة» (ص82).
ما شاهده ثيسيجر هي طقوس شعبية يعتقد هؤلاء البدو أنها تطرد الأرواح الشريرة، وهي منقولة على الأغلب من الطقوس الأفريقية، ويعود انتشارها بين البدو إلى جهلهم بتعاليم الإسلام وتحريمه لهذه الطقوس، وقد يكون ما أصاب سعيد حالة نفسية، خاصة وأنه صغير السن، وزالت بسبب الاهتمام الذي أبداه الجميع وحرصهم على شفائه.
وقـريبًا مما حصل مع سعيد، حدث مع «ابن قبينة»، فعندما مرض عالجه الرحاله بما تيسر عنده من أدوية، واســـتعـــــاد صحـــته بعض الشيء وبعد ذلك، يقول ثيسيجر: «تجمع حوله آل رشيد وهم يرتلون الأدعية ويطلقون الرصاص، ثم قاموا برش الدقيق والبن والسكر في قاع الجدول، وذبحوا عنزة ورشوا من دمها عليه طردًا للأرواح التي آذته، وبعد هذا أعلنوا شفاءه التام» (ص132).
وهي طقوس قريبة من طقوس الزار، هدفها طرد الأرواح الشريرة، وهكذا كانوا يُرجعون سبب معظم الأمراض إلى الأرواح الشريرة والجن لجهلهم، وعدم وجود أطباء مهرة عندهم، وبعدهم عن المدن والحواضر.
الحوطة (الحرم)
لاحظ الرحالة ثيسيجر أن «مقشن» في سلطنة عمان، تعتبر «حوطة» بمعنى «حرم»، ولذا لا يجوز فيها قطع الأشجار أو جزء منها، وكذلك صيد الأرانب، وقد تكون هناك محرمات أخرى، ولكن لم تسنح له الفرصة لملاحظتها، يقول: «من عادة البدو أن يقطعوا أطراف الشجر كي يطعموا إبلهم، ولكنني لاحظت أن أشجار (اللفف) لم تكن مقصوصة، وذلك راجع إلى أن «مقشن» مما يطلق عليه اسم (حوطة) أي لا يجوز قطع الأشجار فيها، ولعل مثل هذه الأماكن كانت في الزمن الماضي دور عبادة مقدسة لإحدى الفرق الدينية، وكان البدو يحذرونني من اقتطاع شيء من أطراف هذه الأشــــجــار خــــوفًــا مما يجره مثل هذا العــمل على صاحبه من نكبات قد تنتهي بالموت... ومما يجدر ذكره في هذه المناسبة، أن صيد الأرانب محرم كذلك في «مقشن» ولهذا يتجنبه البدو»(ص84).
قد يكون ما ذكره الرحالة صحيحًا بأن «مقشن» كانت فيما مضى مركزًا دينيًا، وكالعادة تضع الطائفة الدينية قوانينها ومحرماتها، وقد يكون هذا المنع مرتبط بالبيئة كون المنطقة صحراوية جافة، وربما توجد أسباب أخرى تحتاج إلى بحث وتنقيب لمعرفتها.
التشاؤم من الغربان
التشاؤم من الغربان معروف عند البدو وغيرهم في مناطق كثيرة، فالغراب يرمز إلى النحس والفأل السيء كما يعتقدون، وقد كان ثيسيجر شاهدًا على حالة طريفة؛ فبينما كان جالسًا على بساط الرمال مع رفيق رحلته «ابن قبينة»، يقول: «نعب غراب فجأة، وقد أخذ يطير حولنا، فصاح «ابن قبينة»: يا غراب، إلحق أخاك.. ثم طار غراب آخر، فضحك «ابن قبينة»، وقال: إن غرابًا واحدًا يجلب النحس، أما غرابان فلا»(ص97).
وهذا من لطائف الأمور، فالغراب الواحد شؤم، أما الغرابان فلا، وكأن نحسًا يطرد نحسًا، وقد أحسن البدو أن وجدوا للنحس دفعًا، وحولوا التشاؤم إلى فأل حسن، وذلك مشروط بالطبع بظهور قرين الغراب، وإلا عشش النحس، وحل التشاؤم والخوف من الآتي، وذلك يقلق البدوي، فلكل شيء رسالة أو إشارة أو رمز، يفسرونه حسب الأحوال، ولكن لا يهملونه.
الأضرحة
أضرحة ومقامات الأنبياء والأولياء لها مكانة عظيمة عند الجميع، وخاصة عامة الناس، يلجأوون إليها ويتبركون بها، ولها طقوس قد تختلف من بلد إلى بلد، وقد شهد الرحالة ثيسيجر بعض هذه الطقوس، يقول: «وعند مغادرتنا (الريضات) مررنا بقبر قديسة مسلمة تدعى (ولية الله رقية) وقد أصبح ضريحها مزارًا، وما أن وصلنا إليه حتى طاف صاحباي حوله، وقبَّل كل منهما يده اليمنى بعد أن لمس بها أحجار القبر. ثم تركا بعض حبوب البن إلى جانب الضريح. وهذه عادة البدو عندما يمرون بالأضرحة التي تنتشر في هذه البلاد كي يستطيع المسافر الفقير أن يستخدمها»(ص141).
فالطواف بالأضرحة والتبرك بلمسها من طقوس زيارة الأضرحة في كثير من البلدان، وجميل ما ذكره بأنهم يتركون بعض حبوب البن لينتفع بها الفقراء الذين يؤمون المكان، كنوع من التكافل، وربما للإيحاء بأن صاحبة الضريح ذات بركة وكرامات.
وشهد الرحالة حالة أخرى، فقد هاجم اللصوص مخيم لقوم يسمون «المناهل»، وقتلوا بعض رجالهم، فلجأ القوم مع إبلهم ونعاجهم وماعزهم إلى مقام النبي هود (ص135)، وكأنهم يحتمون به، ويلجأون إلى حماه، وفي المقابل كأن اللصوص يحترمون ذلك ولا يعتدون على من لجأ إلى المقام.
سقوط العصا
لكل شيء عند البدو دلالة، وكل حدث هو إشارة، واعتقدوا ذلك بما تراكم لديهم من خبرات، وقد تصدق وقد تكذب، ولكن لا يمكن الإيمان بها على إطلاقها، ولكن البدو يؤمنون بذلك، ويروي ثيسيجر ما حدث معه شخصيًا، يقول: «وحدث أن وقعت مني عصاتي، وإذا بابن قبينة يبادرني قائلًا: حقيقة يا مبارك إن هذا لكثير. ولو أنني كنت مكانك لطلقتها حالما أعود. إن البدو يعتقدون أن الرجل إذا وقعت عصاه، فمعنى ذلك أن (امرأته تخونه!)»(ص149).
فسقوط العصا من الرجل المتزوج علامة على خيانة زوجته حسب اعتقاد البدو أو بعضهم، وهذا من العسف الذي لا يمكن أن يأخذ به عاقل، ولكنها اعتقادات، إن لم يُؤخذ بها فإنها تثير الشك عندهم.
النظافة
وعلى الرغم من شح الماء في الصحراء إلا أنهم يحرصون على غسل أيديهم قبل حلب النوق، كما فعل الشيخ «خويطم»، يقول ثيسيجر كشاهد عيان: «كانوا يعتقدون أن ضرع الناقة يجف فيه الحليب إذا ما استخدمت أيدٍ قذرة في حلبه، أو استعمل وعاء غير نظيف في احتوائه. وربت الشيخ على جذع الناقة، وأخذ يتحدث إليها، ويهيب بها أن تدر الحليب، وفعلًا أعطت الناقة قرابة لترين من الحليب»(ص102).
وهو اعتقاد له ما يعززه من التجربة، فإحساس الناقة باليد النظيفة يختلف عنه باليد القذرة، ومن هنا تستجيب لليد النظيفة، وتنزع إن لمست ضرعها يد قذرة، وهذا مما يُحسب للبدو، ويوافق الفطرة وما جبل عليه الناس من حب النظافة.
الأفعى والكنز
تنتشر الخرافات والأساطير في البيئات الفقيرة البعيدة عن مراكز الحضارة، وهي بين البدو أكثر حيث يعم الجهل، فقد روى ثيسيجر أن بركة تعرف باسم بركة عيون، كان البدو يعتقدون «أن أفعى كبيرة تعيش في البركة، وأن هذه الأفعى تبتلع عنزًا عندما ترد القطعان ماءها للشرب»(ص66)، ولعل هذا من مبالغات البدو أو أنهم يرجعون غرق الماعز أو فقدانها إلى ابتلاع الأفعى لها.
ومن ناحية أخرى، وكما هي الاعتقادات في كثير من الدول، فإن الكنوز المدفونة حلم يراود الكثيرين، وخاصة الفقراء، وفي صحراء عُمان يعتقد الأعراب بأنه في وادي «دفن» يوجد خندق زعموًا أن به كنزًا مدفونًا (ص72). ويبدو أن الحلم بوجود الكنز يبقيهم على قيد الأمل، وانتظار الغد الأجمل.
هذه المعتقدات والطقوس بحاجة إلى دراسات متخصصة لمعرفة أصولها وجذورها، وتأثيراتها على حياة البدو، وهل بقيت حية إلى يومنا هذا أم اندثرت بفضل العلم والوعي، وانهيار الحواجز بين البدو والمدينة.
وختامًا، لا بد من الإشارة إلى أن الكتاب ترجمه بتصرف محمد محمد عبدالقادر، وصدر عن الدار القومية للطباعة والنشر في القاهرة، ثم صدر في طبعات أخرى في القاهرة وأبو ظبي وغيرها. وهو للرحالة ويلفريد ثيسيجر كما أسلفنا، الذي ولد سنة 1910 وتوفي عام 2003، وقام برحلات إلى الحبشة والسودان وجزيرة العرب وإيران والعراق وباكستان وغرب أفريقيا، وأصدر مجموعة من الكتب منها: «عرب الأهوار»، «حياة من اختياري»، «أيامي في كينيا»، «وسط الجبال: رحلات في آسيا»، «عالم يختفي».
تغريد
اكتب تعليقك