المـعـنى والدِّلالـة (Sens et signification)الباب: مقالات الكتاب
يونس حسايني باحث في التداوليات القانونية كلية الآداب والعلوم الإنسانية- تطوان – المغرب |
المـعـنى والدِّلالـة 1 (Sens et signification)
جان كلود جيمار2
ترجمة: يونس حسايني3
ما إن نقترب من مفهومَي "اللغة" و"النص" حتى تصبح مشكلة الدّلالة أساسية، سواءً أكان النص قانونيًا أم غير قانوني. بيد أن مشكلة الدلالة تتفاقم في القانون بسبب حقيقة أن النص القانوني ينقل قواعد قانونية ملزمة عمومًا، وأحيانًا قواعد قانونية آمِرة. ويترتب عن ذلك أن معنى هذا النص وتأويله يصبح محفوفًا بالمخاطر، نظرًا لكونه يحمل آثارا قانونية قد تكون ضارة بالأشخاص أو بالأطراف المَعْنية. وإن ما يحمله الشخص ذو قيمة كونية، في حالة ما إذا كنا نشاطر –على الأقل– وجهة نظر مونتين Montaigne.
وعلاوة على ذلك، فإن السعي إلى كشف غموض المعنى المضمر في الكلمات، واللغة، والنص، وفي القانون كما في أي مكان آخر، يُمثّل مهمة مماثلة لأعمال "هرقل" Hercule أو السعي وراء الكأس. فنحن محاطون بعلامات تحمل حواسّ ومعانيَ ندركها عبر قناة الحواس الخمس، وأحيانًا (...) عبر الحاسة السادسة التي وهبتنا إياها الطبيعة. لكننا لا نستطيع أن نقول كيف، لأننا نجهل تقريبًا كل الآليات التي تسمح لنا بفهم أو استيعاب معنى الأسئلة التي تُطرح علينا باستمرار عن كل شيء. الفكر شبيه بالنص.. ما يزال يفلت من عملية التوضيح التي يمكن للمرء اقتراحها.
تضع اللسانيات الكلاسيكية الخطوط العريضة لحل المسألة؛ من خلال الافتراض. فكلود هجيج4 Claude Hagège، مثلاً، وضع تمييزًا أساسًا بين المعنى والدلالة؛ من منطلق أنّ المعنى Sens ظاهرة خاصة بالنص، كمزيج من العلامات في حالة كلام معينة، في حين أن الدلالة Signification خاصية العلامة La caractéristique du signe . هذا الحل، في نظر جيمار Gémar، لافت للاهتمام ومفيد، بقدر ما يظل مقيدا بالسياق اللغوي؛ سياق النص، وسياق العلامة (اللغوية). لكنها تبقى غير كافية بوجه ملحوظ عندما يتعلق الأمر باقتراح مخطط تفصيلي لنظرية عامة عن المعنى.. عندئذٍ ستشكل اللسانيات عنصرًا واحدًا من العناصر الضرورية التي لا غنى عنها -بالتأكيد للمخاطرة بتفسير-، ولكنها، مع ذلك، غير كافية لجَعْل حل موثوق به لا يأخذ في الاعتبار العوامل، التي لا حصر لها، التي تتدخل في عملية إدراك المعنى. كما أن تعليق جيمار هذا لا يُقصد به المعنى السطحي، الذي يمكن للمرء الاهتداء إليه بمجرد قراءة النص، وفك رموز العلامات اللغوية، ولكن المقصود هو المعنى العميق، الذي قصده بارت R. Barthes بوصفه دلالة، والذي يمكن أن يصل إلى حد "التنوير" L’illumination؛ أي تنوير هنري بوانكري Poincaré Henri [1854-1912] للوصول إلى هذا المستوى العميق من استيعاب المعنى. فمن الضروري الابتعاد عن سياق لغوي صرف (سياق الكلمات)، والذهاب إلى الأشياء (سياق الأشياء)، وإشراك انعكاس معرفي قائم على ما يسمى بـ"العلوم الدقيقة"، وليس الاعتماد على العلوم التخمينية فقط.
وإذا كان الكون محكومًا بقوانين، وصفها الفيزيائيون بوجْهٍ لا يقبل الجدل، فمن الصعب أن نفهم لماذا، وبفضل أي منطق بشري بدلاً من المنطق العلمي (الصغير واللامتناهي). فعلى سبيل المثال، فإنّ معنى كلمة أو مفردة (مصطلح)، أو نص، من شأنه أن يفلت من القوانين الكونية الكبيرة اللامتناهية، ولن تحكمه أيّ قوى أو تفاعلات لا نملك أي فكرة عنها، كما أنها ليست أقل فاعلية في عملية إنتاج اللغة؛ ومِن ثَمّ النص.
ومن هنا، لم يعد بإمكان اللسانيات توفير البيانات والحلول اللازمة والكافية لفهم ظاهرة المعنى، ومحاولة فهمها، أو وصفها على الأقل. فنحن مُحاطون بعلامات تحمل معنى كونيًّا، لا يجب أن تمر عبر قناة العلامات اللغوية لكي تدرك. وحتى لو كانت حواسّنا ضعيفة إلى حد كبير، منذ أصبح البشر من البشر العاقل Homo Sapiens، فإنهم يتعرفون بشكل غير متوقّع، على الأصوات، والحركات، والألوان، والموادّ... دون أي وساطة لغوية. إن معنى هذه الظواهر الطبيعية أو المادية كوني؛ لأنه يميّز "الشيء" الذي يعبّر عنه، ويعترف به البشر/ الإنسان –ولا شك، من قبل بعض الحيوانات–، خارج أي سياق لغوي. إنها إذًا مسألة ذات معنى أولي أو مطلق، مشترَك بين الجميع: قاسم مشترك، لكنه الأكبر.. هذا هو المستوى المعلوماتي Informationnel، وهو المستوى الذي يمْكننا الوصول إليه بالرؤية (أي عن طريق العين)؛ فعندما ترى أوراق الشجر تتحرك، فمعنى ذلك أن الجو عاصف؛ وعن طريق السمع، عندما تسمع صوت الرعد، يمكنك أن تُدرك أن العاصفة على وشْك أن تبدأ (أي إن العاصفة تُهدّد)؛ وعن طريق اللّمس، عندما تسقط قطرات المطر الأولى على أيدينا (ندرِك أن المطر سيهطل بشكل كبير أو قليل، بعد لحظات)...إلخ. وبذلك، نصل إلى المعرفة انطلاقًا من المعلومة، عندما لا نكتفي بالاعتماد على حواسّنا لمعرفة الطقس؛ وعندما نستخدم مقياس حرارة، أو مقياس ضغط، أو مقياس مطر؛ لنعرف بدقةٍ درجة الحرارة أو الضغط أو كمية مياه الأمطار المتراكمة. ويترتب عن ذلك، أن تأويل المعنى، الذي يتم من قِبَل الشخص، يعتمد فقط –وإن بوجه جزئي– على "قراءة" العلامات -اللفظية أو المكتوبة– التي تُنشئ النص؛ لأن هذه القراءة، بالنسبة إلينا، شخصية جدًّا؛ مثل طريقتنا في المشي أو في الكتابة أو في الكلام. لذلك، فإن تأويل نص ما -كما اعتقدنا بشكل حَدْسي- يكون فريدًا من نوعه. ويبدو أن هذا الانطباع تؤكده النتائج التي أحدثتها أعمال أطباءِ الأعصاب وأخصائيّي الدماغ، التي -بناءً عليها- يتطور الدماغ البشري بطريقة فريدة ومبتكَرة في كل فرد على حدة؛ بحيث لا يكون هناك أي تماثل بين اثنين.
وعليه، سيكون لدينا ثلاثة مستويات من المعنى، التي مِن شأنها –من خلال تطعيم بعضها البعض– أن تنتج بيانات أساسية كافية للقارئ؛ لأنها -قبل كل شيء مسألة نصوص مكتوبة- تأتي من النص المقترح بُغية العثور على معناها، قبل الوصول إلى الدلالة كمرحلة أخيرة من عملية تأويله. لذلك، سيكون، هنا، كمرحلتين في هذه العملية التي من شأنها أن تكون خارج اللغويات Extralinguistique؛ أي خارج المرحلتين الأولى والأخيرة.. المرحلة الأولى، كما رأينا، تتمثل في المعنى الكوني Sens Universel؛ هذا الأخير هو ما يشير إلى المعرفة السابقة –"العُدَّة" Le «Bagage» –، التي بدونها لا يستطيع القارئ الوصول إلى المعنى. وبينهما يوجد "المسْند الحر" Le Prédicat Libre و"المسْند المقيّد" Le Prédicat Lié. ومعنى المسند الحر هو معنى موضوعي؛ بحيث إنّ لكل قائمة مفردات، وفي كل لغة ما يعادلها أو يكافئها؛ (فعلى سبيل المثال، نجد كلمة "منزل" = Maison في الفرنسية، ويعادلها في الألمانية Haus، وفي الإنجليزية House، وفي الإسبانية Casa. والأمر نفسُه بالنسبة إلى لفظة "قانون" = Droit في الفرنسية، وفي الإسبانية Derecho، ويُكافِئها في البرتغالية Direito، وفي الإيطالية Diritto، وفي الألمانية Recht، وفي الإنجليزية Law). في حين يكون معنى "المسند المقيّد" هو ذلك المعنى الشخصي الذي يمنحه إياه السياق الخاص، الذي يحدث فيه؛ مثل كذا منزل، ومثل كذا قانون، ومثل كذا نظام قانون في مثل كذا دولة. ومع تقدم القارئ نحو دلالة النص، ينتقل القاسِم المشترَك من العام في البداية إلى الخاص في النهاية. وتَبعًا لذلك، ستكون الدلالة، بناءً على درجة مهارة القارئ، أدنى قاسم مشترك، ولن يصل إليه الجميع على قدَم المساواة. وبعبارة أخرى، إذا ما قُمنا بمقارنة المعنى من زاوية محددة، فسيكون مسطّحًا في البداية، وحادًّا في النهاية.
أخيرًا، وفي نهاية هذه الرحلة، وبعد أن منح القارئ حياة ومعنى جديدين للنص الذي يقرأه -مهما كان الباعث: قراءة بسيطة [أو سطحية] أو ترجمة أو بحث أو متعة أو عمل – ، يصل نتيجةً لهذا التبادل الصامت والطويل إلى الدلالة، سواء أكانت هذه الأخيرة صحيحة أم منحرفة، تقريبية أم مشوّهة؛ فالوضع لا يتغير. إن قيمة النتيجة هي قضية أخرى، ترتبط بمستوى مهارة القارئ، وبقدرته على فهم ما يقرأه؛ ومن ثم تأويله بوجه صحيح.
وهكذا، نكون قد رأينا المخطط العام؛ فإذا ما تم تطبيقه على مجال معين من مجالات العلوم الاجتماعية، مثل القانون، فما الذي يمكن أن يحققه مثل هذا المخطط الشامل؟
الهوامش:
1 - المحور الثالث من مقال "أسس لغة القانون كلغة متخصصة، معنى وشكل النص القانوني"، المنشور في "المجلة العامة للقانون"، العدد 21 (4)، 1990، ص. 732-735. رابط المقال: https://www.erudit.org
2 - جان كلود جيمارJean-Claude Gémar ، أستاذ فخري في جامعة مونتريال Montréal بكندا (كلية الفنون والعلوم)، وأستاذ فخري أيضا في جامعة جنيفGenève ، متخصص في اللسانيات والترجمة وتحديدًا الترجمة القانونية. نشر العديد من الكتب والمقالات في هذا المجال، وكذا في المصطلحات واللسانيات القانونية. كما شغل منصب الأمين العام لهيئة تحرير مجلة ميتا Revue Meta ما بين 1981 و 1995، ومدير مشروع الترجمة والمصطلحات في أوبلف-أوريف Aupelf-Uref ما بين 1979 و 1989. ومن بين إصداراته العلمية نذكر على سبيل المثال:
• Gémar, J.-C. (1987) : La traduction juridique : art ou technique d’interprétation ?, in : Revue générale de droit, 18(2), p. 495- 514.
• Gémar, J.-C. (dir.) (1982) : Langage du droit et traduction. Essais de jurilinguistique, Montréal, Conseil de la langue française.
• Gémar, J.-C. (1983) : Les trois états de la politique linguistique du Québec, Québec, Conseil de la langue française.
• Gémar, J.-C. (1990) : Les fondements du langage du droit comme langue de spécialité. Du sens et de la forme du texte juridique. Revue générale de droit, 21(4), 717-738.
• Gémar, J.-C. (1994) : Fonctions de la traduction juridique en milieu bilingue. Le cas du Canada, thèse de doctorat d’Etat ès Lettres (Université de Toulouse le Mirail).
• Gémar, J.-C. (2001) : « Traduire le texte pragmatique: Texte juridique, culture et traduction », in : Le facteur culturel dans la traduction des textes pragmatiques, Les Cahiers de l’ILCEA 11, Grenoble, Université Stendhal, p. 11-38.
• Gémar, J.-C. et KASIRER, N. (dir.) (2005) : La jurilinguistique : Entre langues et droits. Jurilinguistics: Between law and langage, Montréal, Thémis.
للمزيد، انظر الرابط الآتي: www.umontreal.ca
4 - باحث في التداوليات القانونية، مختبر التأويليات والدراسات النصية واللسانية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، تطوان- المغرب.
4 - Dans son livre célèbre : C. Hagège, L’homme de parole, Paris, Fayard, 1985, P. 215.
5-Qui prend divers noms selon les auteurs. Par exemple, Umberto Eco parle, quant à lui, de «l’Encyclopédie».
تغريد
اكتب تعليقك