الـعـدالـة والأخـلاقالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-01-31 06:28:07

يوسف نبيل

روائي ومترجم مصري

بيوتر كروبوتكين: فيلسوف روسي وعالم جغرافي

ترجمة: يوسف نبيل

الرفاق الأعزاء!

عنوان محاضرتنا اليوم "العدالة والأخلاق"، وهذا لا يعني بالطبع أنني سألقي اليوم عليكم محاضرة أخلاقية. إن هدفي مختلف تمامًا. لقد أردت أن أحلل أمامكم كيف نبدأ الآن في فهم مصدر المفاهيم الأخلاقية في الإنسان، وأسسها الحقيقية، ونموها التدريجي، وأن أشير إلى ما يمكن ان يُحفّز تطورها اللاحق.

إننا في حاجة ماسة إلى هذا التحليل الآن. لا بد أنكم تشعرون أننا نمر بفترة تتطلب شيئًا جديدًا في بنية العلاقات الاجتماعية. التطور الفكري والصناعي السريع الذي حدث في الفترة الأخيرة وسط الشعوب المتقدمة يجعل حل المسائل الاجتماعية المهمة أمرًا ملحًا. بوسعنا أن نشعر الآن بحاجتنا إلى إعادة تشييد حياتنا على أسس جديدة أكثر عدالة. إذا اختمر احتياج من هذا النوع في مجتمع ما، يمكننا أن نأخذ كقاعدة عامة أن المفاهيم الأخلاقية الأساسية يجب أن تتم مراجعتها كذلك.

لا يمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك، والسبب هو أن النظام الاجتماعي القائم في فترة معينة، بما يتضمنه من مؤسسات وعادات وأخلاق، يحافظ على أخلاقه الخاصة في المجتمع، وكل تغيير حقيقي في العلاقات بين طبقات المجتمع المختلفة يجلب معه تغييرًا يتسق معه في المفاهيم الأخلاقية.

إذا ألقينا نظرة فاحصة على حياة الشعوب في مراحل مختلفة من تطورها، ولنأخذ مثالاً بممثلين للشعوب البدوية الرحالة: المغول والتونجوسيون ومن نسميهم "الهمج". رأت تلك الشعوب أنه من المخزي أن يذبحوا كبشًا ويتناولوا لحمه دون أن يدعوا كافة الموجودين للمشاركة في تناول الطعام معهم. أعرف ذلك من واقع خبرتي الشخصية التي اكتسبتها من ترحالي إلى مناطق نائية في سيبيريا بالقرب من سلسلة جبال سيان. يمكننا كذلك أن نأخذ مثالاً بالبدائيين الفقراء في جنوب أفريقيا: الهوتنتوت. منذ زمن قديم وهم يعتبرونها جريمة إذا بدأ أحدهم في تناول طعامه في الغابة دون أن يصيح ثلاث مرات بصوت عال: "أليس هناك من يريد أن يشاركني طعامي؟". حتى أقل البدائيين تطورًا في باتاجونيا أذهلوا داروين بالسمة الآتية: حتى أصغر كسرة خبز كانت تُقدّم لواحد منهم، كان يُقسّمها بين جميع الحاضرين بالتساوي. علاوة على ذلك نجد بين الرُحل في شمال ووسط آسيا قاعدة تحولت إلى قانون بقوة العادة مفادها أنه إذا رفض أحدهم إيواء مسافر، ونتج عن ذلك موت المسافر بردًا أو جوعًا، يكون لأسرة الراحل الحق في مطاردة من رفض إيوائه، باعتباره قاتلاً، ومطالبته أو مطالبة قبيلته بدفع الغرامة التي تُقررها التقاليد جزاء القتل.

تشكلت مثل هذه المفاهيم عن العدالة في ظل النظام العشائري. تلاشت هذه العادات لدينا الآن، منذ أن صرنا نعيش في دول. صار من واجب رجال الشرطة في مدننا الاهتمام بالمتشرد، واصطحابه إلى محل سكن أو السجن أو دار للعمل1، إذا تعرض لخطر أن يتجمد بردًا في الشارع. يمكن لأي منا بالطبع أن يستضيف أي عابر سبيل، والأمر غير مُحرّم، لكن لا أحد يعتبر نفسه ملزمًا بفعل ذلك. وإذا مات عابر سبيل مُشرّد في ليلة شتوية قارسة البرودة من الجوع أو البرد في أحد شوارع أنكوت، لن يخطر على بال أي من أقاربه أن يلاحق القاتل. علاوة على ذلك، قد لا يظهر لعابر السبيل أي أقارب؛ الأمر الذي لم يكن من الممكن أن يحدث في ظل نظام الحياة العشائرية، وذلك لأن العشيرة كلها تُعتبر أسرة له.

أرجو أن تلاحظوا أنني لا أقصد أن أجري مقارنة بين مميزات الحياة في ظل العشيرة وفي ظل الدولة. كل ما أريده وحسب هو أن أشير إلى أن المفاهيم الأخلاقية للناس تتبدل بحسب النظام الاجتماعي الذي يعيشون فيه. ثمة ارتباط وثيق بين النظام الاجتماعي الذي يحياه شعب معين في فترة معينة وأخلاقه.

هذا ما يوضح لنا أنه عندما يشعر أي مجتمع بضرورة إعادة تأسيس العلاقات الموجودة بين الناس، تبدأ لا محالة أيضًا مناقشة المسائل الأخلاقية من جديد. في الواقع سيكون من العبث تمامًا أن نتحدث عن إعادة تشكيل النظام الاجتماعي دون أن نمعن التفكير أيضًا في مسألة إعادة تشكيل المفاهيم الأخلاقية الحالية.

في الواقع تُمثّل المسائل الأخلاقية أساس كافة أفكارنا المتعلقة بالمسائل السياسية والاقتصادية. فلنأخذ مثالاً بعالم اقتصادي يتحدث عن الشيوعية قائلاً: "لن يعمل أحد في المجتمع الشيوعي، وذلك لأن الناس لن يكونوا عرضة لخطر الموت جوعًا". يجيبه الشيوعي قائلاً: "ولماذا يحدث ذلك؟ ألا يدرك الناس أن مجاعة عامة سوف تحل عليهم إذا توقفوا عن العمل؟ الأمر برمته يعتمد على نوع الشيوعية التي سوف تُقدّم لهم". فلننظر إلى أي حد تأثرت حياة المدن بالفعل بالشيوعية المدينية في مدن أوروبا والولايات المتحدة في صورة رصف وإنارة الشوارع، وخطوط الترام والمؤسسات المدنية... إلخ.

يمكنكم أن تلاحظوا كيف تؤدي مسألة اقتصادية بحتة إلى أحكام تتعلق بالطبيعة البشرية. يُطرح سؤال: "هل يمكن للمرء أن يعيش في ظل النظام الشيوعي؟" وينتقل السؤال من المجال الاقتصادي إلى الأخلاقي.

يمكننا كذلك أن نأخذ مثلاً بناشطين سياسيين يتحدثان عن أمر ما جديد في الحياة الاجتماعية؛ عن الأناركية مثلاً، أو حتى الانتقال من دولة استبدادية إلى دولة دستورية. يقول المدافع عن السلطة القائمة: "سيسرق الناس إذا لم تكن هناك يد من حديد تكبح جماحهم". يجيب الآخر قائلاً: "هل يجب عليّ أن أقول من هذا المنطلق أننا نحن أيضًا كنا لنصير لصوصًا لولا خوفنا من السجن؟" هنا نجد السؤال عن النظام السياسي يؤدي إلى تساؤل عن تأثير المؤسسات القائمة على الإطار الأخلاقي للإنسان.

لذلك يظهر الآن اهتمام حقيقي بالمسائل الأخلاقية، ولذلك قررت أن أناقش معكم مسألة الأخلاق؛ أي مناقشة أسس وأصل المفاهيم الأخلاقية في الإنسان.

في الفترة الأخيرة ظهر عدد لا بأس به من الأعمال عن هذه المسألة فائقة الأهمية. لكني سأتوقف هنا عند عمل واحد منها؛ أشير إلى المحاضرة التي ألقاها منذ فترة قريبة البرفيسور الدارويني الشهير المرموق: هيكسلي في جامعة أوكسفورد بعنوان "التطور والأخلاق". بعد التعرف على مضمونها يمكننا أن نتعلم الكثير، وذلك لأن هيكسلي حلّل في محاضرته بدرجة كافية مسألة أصل الأخلاق.

تعاملت الصحافة مع محاضرة هيكسلي باعتبارها بيان الداروينيين، وموجز ما يمكن أن يقوله العلم المعاصر عن أسس الأخلاق ومصدرها، وهي مسألة تعرّض لها تقريبًا كافة المفكرين منذ زمن اليونان القديمة وحتى جيلنا الحالي.

لا تقتصر أهمية المحاضرة الشديدة على أنها عبّرت عن رأي عالم شهير وواحد من المفسرين الرئيسيين لنظرية التطور الداروينية، بالإضافة إلى الأسلوب الأدبي الرائع الذي قدّم به هيكسلي محاضرته، إلى حد أنها اعتُبِرت واحدة من أفضل نماذج النثر البريطاني. لكن أهميتها الرئيسة تعود إلى أنها قد عبَّرت للأسف عن الأفكار التي تحظى بانتشار واسع الآن بين الطبقات المثقفة، إلى الحد الذي يمكننا أن نسميها الآن ديانة غالبية تلك الطبقات.

يمكننا أن نعبّر عن الفكرة الأساسية التي استرشد بها هيكسلي، وعاد إليها مرارًا في محاضرته بقوله: "هناك نوعان من الظواهر أو العمليات تحدث في العالم: عملية كونية طبيعية وعملية أخلاقية تتجلى في الإنسان وحده بدءًا من لحظة معينة في تطوره".

العملية الكونية هي حياة الطبيعة برمتها، بما تشتمله من جمادات وكائنات حية من نباتات وحيوانات وبشر. أكد هيكسلي أن هذه العملية ليست سوى "صراع دموي للأسنان والمخالب، ويغيب أي مبدأ أخلاقي في مثل هذا الصراع المرير من أجل الوجود. "المعاناة قَدَر كافة جماعة الكائنات الواعية وهي تُشكِّل "مكونًا أساسيًا من مكونات العملية الكونية". "أساليب الصراع من أجل الوجود المتأصلة في النمر والقرد تُعبِّر عن سماتهما الحقيقية". حتى في الإنسانية يتبين أن "الاستيلاء المخزي على كل ما يمكن الاستيلاء عليه، والحفاظ بكل وسيلة ممكنة على ما لدى المرء؛ الأمران اللذان يُشكِّلان جوهر الصراع من أجل الوجود هما الأنسب له". الدرس الذي تُعلّمنا الطبيعة إياه إذن هو "درس الشر العضوي". يستحيل أيضًا أن نصف الطبيعة بأنها أخلاقية أو تعرف أي مبدأ أخلاقي، أو أن بوسعها أن تجيب عن أي أسئلة أخلاقية. إنها لا أخلاقية. "الطبيعة الكونية ليست مدرسة لتعليم الأخلاق على الإطلاق، بل على النقيض؛ إنها في الأساس مركز قيادة عدو كل أخلاق". لذلك يستحيل في أي ظرف من الظروف أن نجمع أي ملاحظات من الطبيعة تفسر لنا السبب الذي يجعلنا نصف شيئًا ما بأنه صالح وآخر بأنه شرير. "إن تنفيذ ما نراه من المنظور الأخلاقي جيدًا أو صالحًا هو السير على خط سلوكي يناقض تمامًا كل ما يؤدي إلى النجاح في الصراع الكوني من أجل الوجود". يرى هيكسلي إذن أن هذا هو الدرس الوحيد الذي يمكن للإنسان أن يستخلصه من الطبيعة.

لكن ينتج عن ذلك أمر مفاجئ تمامًا يحدث في المجتمعات العضوية، حيث تظهر لديهم "عملية أخلاقية" لا ندري من أين جاءت، وهي عملية مناقضة تمامًا لكل ما علّمته الطبيعة، ولا تُبقي أولئك من يُمكن اعتبارهم الأكثر ملائمة من منظور الظروف الكائنة، بل تُبقي أولئك من يُعتبرون الأفضل من منظور أخلاقي. هذه العملية الجديدة لا نعرف لها أصلاً، لكنها ليست من الطبيعة على أي حال، ثم بدأت تتطور بقوة القانون والعرف. تُدعم حضارتنا هذه العملية، وتتشكل أخلاقنا عبرها.

ولكن من أين تأتينا هذه العملية الأخلاقية؟

إذا كررنا إجابة هوبز التي مفادها أن المُشرّعين هم من يلهمون الإنسان بالمبادئ الأخلاقية فلن تعني هذه الإجابة شيئًا، حيث أن هيكسلي يؤكد بوضوح أن المشرعين لم يستطيعوا اقتباس أفكارهم من ملاحظة الطبيعة، وأن العملية الأخلاقية لم تحدث أبدًا في المجتمعات الحيوانية التي وُجِدت قبل ظهور الإنسان، ولم تظهر عند الأقوام البدائية. إذا كان هيكسلي محقًا فهذا يعني أن العملية الطبيعية، أي المبدأ الأخلاقي في الإنسان لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون لها أصل طبيعي. يظل التفسير الوحيد الممكن لظهورها إذن هو وجود أصل خارق للطبيعة. إذا كانت العادات الأخلاقية من قبيل اللطف والصداقة والدعم المتبادل وضبط النفس الذاتي إبان الاندفاعات العاطفية، والتضحية بالنفس لم يكن بإمكانها أن تتطور في مجتمعات قبل إنسانية، أو في مجتمعات الأقوام البدائية عاشت حياة جماعية، يتبقى إذن تفسير واحد لها؛ ألا وهو وجود مصدر خارق للطبيعة، أي الوحي الإلهي.

هذه النتيجة التي توصل إليها العالِم الداروني هيكسلي أدهشت بالطبع كافة من يعرفون جيدًا أنه واحد من اللا أدريين، أي أنه غير مؤمن. لكن لم يكن هناك مفر من هذه النتيجة؛ فما دام هيكسلي قد أكد على إن الإنسان لم يكن بوسعه أن يستقي أي درس أخلاقي من حياة الطبيعة، يتبقى تفسير واحد: الاعتراف بأصل خارق للطبيعة للأخلاق. لذلك أسرع جورج ميوارت، الكاثوليكي المخلص والعالم الطبيعي الشهير في الآن ذاته بعد نشر مقالة هيكسلي في مجلة "القرن التاسع عشر" بنشر مقالة في المجلة ذاتها بعنوان "تطور السيد هيكسلي" هنّأه فيها على العودة إلى تعاليم الكنيسة في محاضرته.

كان ميوارت محقًا تمامًا. في الواقع الأمر واحد من اثنين: إما أن هيكسلي محق في تأكيده على أن "العملية الأخلاقية" لا وجود لها في الطبيعة، وإما أن داروين كان محقًا عندما اعترف في كتابه الثاني "أصل الإنسان" - متتبعًا أثر بيكون العظيم وأوجست كونت - بأن هناك غريزة اجتماعية قوية تطورت في الحيوانات القطيعية بتأثير نمط حياتهم القطيعي، وأنها صارت أقوى الغرائز وأكثرها ديمومة، إلى درجة أنها تسود حتى على غرائز حفظ الذات2. وهكذا اتبع داروين شافتسبري في إثبات أن هذه الغريزة كانت قوية في كافة البشر البدائيين على حد سواء، وأنها ظلت تتطور عنده بفضل موهبة الكلمة والعادات والتقاليد الراسخة، حتى صار واضحًا أنه إذا كانت وجهة النظر السالفة صحيحة، فالمبدأ الأخلاقي إذن في الإنسان ليس سوى مزيد من التطور للغريزة الاجتماعية التي تتسم بها كافة الكائنات الحية تقريبًا، والتي بوسعنا أن نلاحظها في كافة كائنات الطبيعة الحية.

ظلت هذه الغريزة تتطور أكثر فأكثر في الإنسان، مع تطور العقل والمعارف المتسقة مع العادات، ثم أدى تطور موهبة الكلمة والفنون والكتابة لاحقًا إلى دعم عادة المساعدة المتبادلة والتضامن بقوة؛ أي اعتماد كافة أعضاء المجتمع على بعضهم بعض. يوضح ذلك إذن من أين ظهر شعور الواجب في الإنسان الذي كرَّس كانط له سطورًا فاتنة، لكنه بعد مرور عدة سنوات لم يستطع أن يجد تفسيرًا طبيعيًا له.

فسر داروين الشعور الأخلاقي بمعرفة الإنسان الوثيقة بالطبيعة. لكن إذا اقتصرت دراستنا للحيوانات على النماذج الموجودة في المتاحف، سوف ننحي أعيننا عن حياة الطبيعة الحقيقية، وسوف نصفها وفقًا لحالتنا المزاجية الكئيبة، ولن يتبقى لنا حينها سوى أمر واحد؛ أن نبحث عن تفسير للشعور الأخلاقي في أي قوى غامضة.

هذا هو الموقف الذي وضع هيكسلي نفسه فيه، ولكن الغريب أنه بعد إلقائه لهذه المحاضرة بعدة أسابيع، وبعد أن نشرها في كُتيّب، أضاف لها مجموعة ملاحظات قضت تمامًا على الفكرة الرئيسة المتعلقة بوجود عمليتين: طبيعية – أخلاقية، تناقضان بعضهما بعضًا. لقد اعترف في هذه الملاحظات بأن بوسعنا أن نلاحظ بداية العملية الأخلاقية في المساعدة المتبادلة التي تُمارس في المجتمعات الحيوانية، وكان قد أنكر وجودها بشدة في محاضرته.

نحن لا نعرف الطريقة التي توصل بها هيكسلي إلى تلك الملاحظة التي تعارض بلا شك أساس ما قدّمه في محاضرته منذ عدة أسابيع. لا يمكننا أن نفترض شيئًا سوى أن ذلك قد حدث بتأثير صديقه البروفيسور بجامعة أوكسفورد رومانز، الذي أعد في تلك الفترة – كما هو معروف – مادة كتاب عن أخلاق الحيوانات، وقد ألقى محاضرة عن هذا الموضوع برئاسة هيكسلي في جامعة أوكسفورد. من الممكن أيضًا أن يكون هناك صديق آخر قد أثر عليه في الاتجاه ذاته. لن ألجأ إلى انقلاب مذهل لتفسير ذلك التحول. ربما تفسير السيرة الذاتية لهيكسلي يومًا ما سبب هذا الانقلاب في موقفه.

من المهم بالنسبة لنا أن نشير إلى الآتي: أي شخص يتعامل بجدية مع التساؤلات عن بذور الأخلاق في الطبيعة سيرى أنه بين الحيوانات التي تعيش حياة اجتماعية، والغالبية العظمى من الحيوانات تعيش هكذا، أدت حياة المجتمعات إلى ضرورة تطوير غرائز معينة إلى عادات أخلاقية متوارثة.

لو لم تتكون هذه العادات لاستحالت حياة المجتمع. لذلك نجد في مجتمعات الطيور والثدييات العليا (ولن أتحدث هنا عن النمل والدُبر (جمع دبور) والنحل التي تعتلي سلم الحشرات) بذور المفاهيم الأخلاقية الأولى. نجد لديها أن عادة العيش في مجتمعات قد صارت ضرورية، كما نجد لديها عادة أخرى: لا تفعل للآخرين ما لا تود أن يفعلوه لك. نجد لديها أيضًا كثيرًا التضحية بالذات من أجل مصلحة مجتمعها.

في حالة الببغاوات نجد أنه إذا شد ببغاء غصنًا من عُش ببغاء آخر، تهاجمه بقية الببغاوات. إذا قام سنونو بعد عودته من أفريقيا إلى أرضنا في الربيع بالاستيلاء على عش سنونو آخر، تهاجمه بقية طيور السنونو التي صنعت أعشاشها في المنطقة ذاتها. إذا غزت أحد أسراب البجع منطقة صيد سمك خاصة بسرب آخر، يطردونها من هذا المكان. هناك حقائق أخرى شبيهة أكدها لنا المؤسسون العظماء لعلم الحيوان الوصفي في القرن الماضي، كما أن لدينا أيضًا ملاحظات كثيرة من ملاحظين معاصرين أيضًا لحياة الطبيعة يمكن للقارئ أن يتخيل مدى كثرتها. لا يعرفها فقط علماء الحيوان الذين لم يعملوا أبدًا في أجواء الطبيعة الحرة.

لذلك يمكننا أن نقول بكل تأكيد أن الأخلاق الاجتماعية والدعم المتبادل قد تطورت في العالم الحيواني، وأن الإنسان البدائي قد لاحظ هذه السمة الرائعة في حياة الحيوانات، كما هو واضح من تقاليد وعقائد أكثر الشعوب بدائية3. كما يمكننا الآن من واقع دراستنا لبقايا الشعوب البدائية أن نجد أن الأخلاق الاجتماعية لا تزال تتطور لديهم. علاوة على ذلك، ومن واقع هذه الدراسة نكتشف لديهم مجموعة كاملة من العادات والتقاليد الكابحة للرغبات المعارضة لبعض الأشخاص، كما نكتشف أيضًا بداية فكرة المساواة.

في الواقع تُشكّل فكرة المساواة أساس الحياة العشائرية. مثلاً إذا أسال أحدهم في عراك دماء عضو آخر في القبيلة نفسها، لا بد أن تُسال دماؤه أيضًا بالقدر ذاته. إذا جَرح شخص من قبيلة أخرى يكون من حق أحد أقارب المصاب، بل يكون ملزمًا، أن يجرح الجاني أو أحد أقاربه جرحًا بالحجم ذاته.  القاعدة التوراتية: وَإِنْ حَصَلَتْ أَذِيَّةٌ تُعْطِي نَفْسًا بِنَفْسٍ، وَعَيْنًا بِعَيْنٍ، وَسِنًّا بِسِنٍّ، وَيَدًا بِيَدٍ، وَرِجْلًا بِرِجْل، وَكَيًّا بِكَيٍّ، وَجُرْحًا بِجُرْحٍ، وَرَضًّا بِرَضٍّ" لا يزال حفظها أمرًا مقدسًا حتى الآن لدى كافة الشعوب التي تعيش حياة عشائرية. أما عين لسن، أو جرح قاتل لجرح سطحي ستكون مخالفة للمفهوم الحالي للمساواة والعدالة. فلتلاحظوا أيضًا أن هذا المفهوم قد تجذر بعمق في وعي الكثير من القبائل البدائية، حتى أن الصياد إذا أراق دماء مخلوق ما يشبه الإنسان في رأيهم، مثل الدب، يريق أقاربه بعضًا من دمائه لتحقيق العدالة لجنس الدببة. ظلت عادات أخرى كثيرة شبيهة من بقايا الأزمان السالفة موجودة حتى في المجتمعات المتحضرة إلى جانب قواعد أخرى أخلاقية سامية4. لكن هناك مفهوم آخر يتطور تدريجيًا في الحياة العشائرية. على الإنسان الذي ارتكب إساءة أن يبحث عن كفارة، ويُلزم أقاربه بأن يتوسطوا له من أجل هذه الكفارة.

إذا نظرنا عن كثب إلى هذه التصورات البدائية عن العدالة، أي المساواة، سنرى أنها لا تُعبّر في النهاية إلا عن قاعدة: "لا تعامل قريبك بطريقة لا تود أن يعاملك بها"، وهذا بالضبط ما يُشكّل بداية كل فلسفة أخلاقية.

لكن هذا لا يكفي. بوسعنا أن نجد وسط أكثر القبائل بدائية أساسًا أسمى من ذلك. يمكننا مثلا أن نأخذ مثلاً بالقواعد الأخلاقية للأليوتيين الذين يمثلون فرعًا من واحدة من أكثر القبائل البشرية بدائية ألا وهي الإسكيمو. نعرفهم جيدًا بفضل عمل الإنسان الرائع: المبشر فينيامينوف، ويمكننا أن نعتبر هذه القواعد مثالاً لمفاهيم الإنسان الأخلاقية في فترة ما بعد العصر الجليدي؛ خاصة أن بوسعنا أن نجد قواعد شبيهة لدى أقوام بدائية أخرى. في مثل هذه القواعد يمكننا بالفعل أن نجد شيئًا يتجاوز حدود العدالة البسيطة.

لدة الأليوتيين نوعان من القواعد: أوامر واجبة التنفيذ، ونصائح بسيطة. المجموعة الأولى هي تلك القواعد التي ذكرتها في بداية هذه المحاضرة، المؤسسة على مبدأ معاملة الجميع بشكل متكافئ؛ أي العدالة والمساواة. هنا نجد المتطلبات الآتية: مهما كانت الظروف لا تقتل أو تجرح عضوًا من قبيلتك، وضرورة مساعدة رفيقك في القبيلة، وتقاسم الكسرة الأخيرة معه، والدفاع عنه ضد أي هجوم، واحترام آلهة قبيلتك... إلخ. هذه القواعد لا تحتاج حتى إلى التذكير بها، فهي تُشكّل أساس الحياة العشائرية.

إلى جانب هذه القوانين الصارمة لدى الأليوتيين والإسكيمو هناك بعض المفاهيم الأخلاقية لا تُشكّل أوامر بل مجرد نصائح. لا يتم التعبير عنها بصياغة: "عليك أن تفعل كذا". تحت إطار هذه المجموعة تندرج النصائح، ويقول الأليوتي: "من المخزي ألا تفعل كذا".

مثلاً من المخزي ألا تكون قويًا كفاية، وتضعف في وقت بحثك عن الطعام بينما يتضور كافة أعضاء قبيلتك جوعًا بدرجة أو بأخرى.

من المخزي أن تخاف خوض البحر في وقت الرياح القوية، كما أنه من المخزي أن تنقلب من على قاربك وأنت لا تزال في المرفأ؛ بتعبير آخر: من المخزي أن تكون جبانًا، وألا تكون بارعًا ولا تستطيع مناضلة العواصف.

من المخزي أن تخرج إلى الصيد مع رفيقك ولا تعرض عليه الجزء الأفضل من الغنيمة؛ بتعبير آخر من المخزي أن تكون طماعًا.

من المخزي أن تلاطف زوجتك في حضور الغرباء، ومن المخزي جدًا عند المقايضة أن تُحدّد ثمن بضاعتك. البائع الأمين هو من يوافق على القيمة التي يقترحها المشتري. على الأقل كانت هذه هي القاعدة العامة ليس بين الأليوتيين وفي ألاسكا وتشوكشي في شمال شرق سيبيريا وحسب، ولكن أيضًا بين غالبية السكان الأصليين في جزر المحيط العظيم.

ما يريد الأليوتيين قوله من قاعدة: "من المخزي ألا تكون قويًا، حاذقًا، كريمًا كالآخرين" واضح تمامًا. إنهم يريدون أن يقولوا: "من المخزي أن تكون ضعيفًا؛ أي ألا تكون مساويًا من الناحية البدنية والذهنية لغالبية الناس"؛ بتعبير آخر إنهم يدينون من لا يفون بمبدأ المساواة المرغوبة، أو على الأقل المساواة المرغوبة بين كافة رجال قبيلة معينة. "لا تظهر ضعفًا يجعلك تحط من قدرك".

يتم التعبير عن الرغبات ذاتها في الأغنيات التي تنشدها نساء الإسكيمو في كل جماعة صغيرة في الليالي الشمالية الطويلة، متهكمات من الرجال الذين لا يستطيعون الظهور بالمظهر اللائق في حالات كالمذكورة سابقًا أو الذين يغضبون دون سبب واضح، أو يبدون نكدين أو مثيرين للسخرية من أي جانب.

نرى إذن أنه بالتعود على مبادئ العدالة البسيطة التي ليست في الحقيقة سوى تعبير عن المساواة أو تساوي الحقوق يطرح الأليوتيون مواقف ومُثُل معروفة. إنهم يعبرون عن الرغبة في أن يسعى كافة أعضاء القبيلة إلى التمتع بالقدر ذاته من القوة والذكاء، وأقل حد من الغضب، وأكبر حد من الكرم. تُمثّل هذه النماذج السلوكية التي لا تصل بعد إلى درجة القواعد شيئًا أكبر من فكرة المساواة البسيطة. إنها تُظهر السعي صوب التطوير الأخلاقي. نجد هذه السمة حتمًا لدى كافة الشعوب البدائية. تعرف هذه الشعوب أنه في الحيوانات الاجتماعية تندفع أقوى الذكور إلى الدفاع عن إناثهم وأطفالهم، وأحيانًا يُضحّون بأنفسهم، كما تمتدح هذه الشعوب في حكاياتها وأغانيها أولئك من دافعوا عن أنفسهم في صراعهم مع قوى الطبيعة أو الأعداء، ومن يموتون غالبًا في هذا العمل البطولي. إنهم يؤلفون مجموعات كاملة من الأغاني عن أولئك من أظهروا فائضًا من الشجاعة أو الحب أو المهارة أو البراعة أو دقة الحركة من أجل الآخرين دون أن ينتظروا شيئًا في المقابل.

يتضح إذن أن "العملية الأخلاقية" التي تحدث عنها هيكسلي، بدأت أولا في العالم الحيواني، ثم وصلت إلى الإنسان، وبفضل التقليد والشعر والفن ظلت تتطور أكثر فأكثر حتى وصلت إلى أسمى درجاتها في أبطال الإنسانية وبعض معلميها. مجّدت الأشعار عند كافة الشعوب أولئك من كانوا مستعدين للتضحية بحياتهم من أجل الآخرين، ووصل هذا التمجيد إلى دين القدماء. صارت هذه الفكرة بالإضافة إلى فكرة المغفرة للأعداء، بدلاً من ضرورة الانتقام العشائري، أساس البوذية والمسيحية، قبل أن تتحول المسيحية إلى ديانة الدولة، وترفض سمتها الرئيسة التي تميزها عن بقية الأديان.

هكذا تطورت المفاهيم الأخلاقية في الطبيعة بصورة عامة، ثم في الإنسانية.

 

الهوامش:

1 - مرافق كانت توفر مأوي وعملا لغير القادرين على إعالة أنفسهم ماديًا. (المترجم).

2 - من المعتاد تسمية العادات التي تأكدت في عالم الحيوانات أو البشر إلى درجة أن صارت تُورّث غرائز.  هكذا هو الأمر مثلاً أفراخ الدجاج الصغيرة التي تخرج من البيض في بيئة مصطنعة دافئة دون أم. ما إن تبدأ في الخروج من قشرة البيضة، حتى تبدأ حفر الأرض بقدميها مثل كل الدجاج والديكة. (المؤلف).

3 - خصصت بضعة صفحات في مقالتي "الأخلاق في الطبيعة" المنشورة في مجلة "القرن التاسع عشر" في مارس 1905 لهذا الموضوع المتعلق بتبني الإنسان البدائي للقواعد الأخلاقية الموجودة في عالم الحيوانات. (المؤلف)

4 - بدأت تظهر بالطبع منذ أقدم أزمنة الحياة العشائرية عادات تخرق فكرة المساواة. اكتسب الشامان الساحر، العراف، والقائد العسكري تأثيرًا بين أقرانهم حتى تكونت رويدًا رويدًا طبقات السحرة والكهنة والشامانات والمقاتلين، واكتسبت بتأثير جمعياتهم السرية أفضلية واضحة عن بقية الناس. ثم بدأت تتكون أُسر خاصة في القبيلة، حيث كانت الزوجات من أسرى قبيلة أخرى أثناء الحروب الشاملة، أو كانت الزوجات تُجلب اختطافًا. في ظل هذه تكون هذه الأسر الجيدة تأسست اللامساواة، وصار لعبض أفراد الأسرة أفضلية دائمة، وليست عرضية على بقية الأفراد. لكن حتى في مثل هذه الظروف بذلت القبيلة كافة جهودها – ولا تزال - لتحد من قدر اللامساواة، ونرى مثلاً عند النورمان أن القائد العسكري (الملك) إذا قتل أحد أفراد الحاشية، يتعرض للعقوبة ذاتها التي يتعرض لها أبسط أفراد الحاشية إذا فعل المثل، أي أنه يتوجب عليه أن يتوسل السماح من أسرة القتيل، وإذا غفروا له يدفع الغرامة المعتادة. لمزيد عن هذه العادات يمكنكم مراجعة عملي "المساعدة المتبادلة". (المؤلف)


عدد القراء: 1470

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-