إسهام المستشرقين في التنظير للقضايا الصرفية في اللسان العربي، جون مكارثي John J.McCarthy نموذجًاالباب: مقالات الكتاب
الهام بغداد باحثة في جامعة محمد الخامس بالرباط |
الملخص:
مما لا شك فيه أن اللسانيين الغربيين أسهموا في دراسة المنجز اللغوي العربي صرفًا كان أم نحوًا، فبلوروا تصورًا جديدًا لقضاياه الصرفية غير ذلك التصور الوارد في الدراسات اللغوية القديمة، إيمانًا منهم أن هذا اللسان إنما يخضع في جوهره لقواعد تضبط ما يتحقق صواتيًا، فكان النظر للذخيرة اللغوية ومراحل بناءها على أنها محكومة بعدة مستويات، فليس الفعل الكلامي كما يظهر في حقيقته فعلاً هين الإنجاز وإنما فعل رهين بخوارزميات هي أساس وجوده.
وسنسعى من خلال هذه الورقة تحقيق ثلاث غايات، الأولى تجلية السياق التاريخي والمعرفي للدراسات العربية عند المستشرقين وبيان الأبعاد العلمية الكامنة وراء الاهتمام بقضايا اللسان العربي، أما الغاية الثانية فهي إبراز إسهامات العالم اللساني مكارثي John J.McCarthy في مقاربة البنية الصرفية للسان العربي وكذا تبيان الفرق بين مقاربته والمقاربة التراثية علمًا أننا لا ننكر جهود اللغويين القدماء من حيث المبدأ إذا ما أعيد تنقيحها وقراءتها تبعا لما استجد في الساحة اللسانية.
أما الغاية الثالثة فإنها تكمن في إبراز امتدادات دراسة مكارثي John J.McCarthy والآفاق التي تفتحها أمام اللسانيين العرب منهم قبل الغرب، لأن الاشتغال بتصور يجعل اللسان العربي لسانًا محكومًا بقواعد منطقية تكاد تماثل قواعد الرياضيات سيمكن من حل العديد من الإشكالات العالقة في اللسان العربي.
الكلمات المفاتيح: المستشرقون، القضايا الصرفية، اللسان العربي، جون مكارثي.
مقدمة:
إن قيمة أي دراسة أو قراءة للمنجز اللغوي العربي تكمن فيما تضطلع به من أدوار في الكشف عن إشكالات هذا المنجز التي تنفتح على أسئلة عميقة تتجاوز النظرة السطحية للقضايا إلى التوغل فيما يجب دراسته حقًا. ويفترض في أي دراسة علمية أجنبية لتراثنا اللغوي أن تغني المنظومة اللغوية ما دامت أنها تصدر في سياق علمي وحضاري وثقافي له خصوصية تميزه عن السياق الذي أنتج فيه هذا الموروث، لأنها تقبل عليه وهي محملة بإرث ثري من الأسئلة والأدوات المنهجية، لكن للأسف بعض هذه القراءات قد لا تسلم من أحكام غير علمية ناتجة عن تمثلات ترى في الآخر بكل إنتاجاته أنه لا يرقى إلى مستوى معرفي يضع ما ينتجه في مرتبة الدراسات العلمية، ولكنها تبقى مجرد أحكام لا تؤثر في الثقافة العربية، ولا تقلل من بعض القراءات الغربية التي سعت إلى التعريف بالثقافة العربية والعمل على حل بعض الإشكالات التي تعرفها.
ويعتبر اللساني جون مكارثي John J.McCarthy من العلماء الذي درسوا التراث اللغوي بحياد، إذ سعى بثقافته اللغوية وخبرته اللسانية إلى مقاربة الظواهر في البنية الصرفية في اللسان العربي، للكشف عما يتحكم فيها من قواعد وخوارزميات خاصة وأن المستوى الصرفي في الدراسات اللغوية العربية القديمة ما زال يعرف العديد من الإشكالات.
المبحث الأول: السياق التاريخي والمعرفي للدراسات العربية عند المستشرقين.
الاستشراق مصطلح يدل على الاتجاه نحو الشرق لدراسة كل ما يرتبط به من تاريخ وثقافة ولغة ودين، ويقصد به ذلك التيار الفكري الذي صاغ عدة تصورات عن الشرق وعن العالم الإسلامي والحضارة العربية، وقد اختلفت الآراء حول المصطلح إلا أن الاتفاق يقع على أنه دراسة علمية أكاديمية ذات أهداف موضوعية يقوم بها غير المسلمين عن كل ما يرتبط بالإسلام واللغة العربية وثقافة بلدان المشرق سواء ارتبط الأمر بحاضرها أو ماضيها، إلا أن رواد هذا الاتجاه لم تسلم دراسة بعضهم من الانحياز إلى ثقافتهم الأصلية والانتصار لها لإثبات قوتها، إذ كانت دراستهم لأغراض غير علمية وهذا ما يجعل الدراسات الاستشراقية تضم ثلاث فئات؛ فئة درست وبحثت فقدمت أبحاثًا علمية موضوعية ذات قيمة أنصفت من خلالها الحضارة العربية وثقافتها ولغتها ودينها، أما الفئة الثانية فهي فئة وقعت في المحظور إذ لم تتمكن من اللغة العربية وتاريخ المسلمين بسبب النقص المعرفي والتخلي عن النزاهة في البحث الأكاديمي، وهناك فئة ثالثة كان هدفها من دراسة الموروث اللغوي والثقافي العربي الإساءة إلى كل ما أنتج عن العرب والمسلمين.
وقد عرف الاستشراق ظهور عدة مدارس لكل منها طابع يميزها؛ فالمدرسة الفرنسية من أهم المدارس الاستشراقية، إذ قامت بإنشاء مدرسة اللغات الشرقية الحية سنة 1795 تحت رئاسة المستشرق سلفستر دي ساي الذي يعد عميد الاستشراق الأوروبي، وقد زاد الاهتمام بالموروث الثقافي اللغوي العربي بعد أن أنشئت كراسي في المعاهد والجامعات الفرنسية لدراسة اللغات الشرقية، ومنها اللغة العربية والدراسات الإسلامية، كما يوجد بمكتبة باريس الوطنية أكثر من سبعة آلاف مخطوط عربي ونوادر من الآثار الإسلامية1. أما المدرسة الإيطالية فقد نشأت لتحقيق أغراض دينية ثم تطورت لتحقيق أغراض تجارية وغيرها، لتقوم بعد ذلك بالتركيز على الدراسات العربية والإسلامية بجمع المخطوطات العربية النادرة2 وإذا كانت هذه المدرسة قد جمعت في اهتمامها بين اللغة والدين فإن المدرسة الروسية قد سخرت دراساتها للأدب العربي فلم يكن الاستشراق بدافع الصراع الديني، وقد عمد رواد هذه المدرسة إلى تأسيس جامعة خاركوف سنة 1804م لتدريس اللغات الشرقية وجامعة قازان لتدريس الألسنة سنة 1811م التي ما زالت قائمة إلى يومنا هذا، وكذلك الأمر بالنسبة للمدرسة الألمانية إذ لم يكن اهتمامها بعيدا عن هذا الاتجاه إذ أصدر المستشرقون الألمان العديد من المجلات كـ"مجلة الإسلام" التي صدرت عن معهد اللغات الشرقية بجامعة هامبورغ وتهتم هذه المجلة بالتعريف بالموروث الإسلامي والعربي.
ويرجع اهتمام الغربيين باللغة العربية والإسلام إلى القرن الثاني عشر الميلادي، تحديدًا عندما قام بطرس المبجل بنقل القرآن الكريم إلى اللاتينية. وقد شهد القرن الثالث عشر الميلادي محاولات كثيرة في هذا الباب. من قبيل وضع معجم لاتيني عربي، أو معجم مفردات اللغة العربية. لقد كان اهتمام الغرب باللغة العربية بادئ الأمر لأسباب تبشيرية؛ إذ كان جل الذين اهتموا بالعربية رجال دين مسيحيين، أمثال ريموندوس مارتيني، وريموندوس لولوس، وبيدرو ألكالا الذي نشر سنة 1505م معجمًا عربيًا إسبانيًا ونحوًا للعربية موجهين للعمل التبشري3. وقد تعزز الاهتمام باللغة العربية ذاتها مع نشوء الحركة الإنسية في اسبانيا وإيطاليا وساهم ظهور حروف الطباعة العربية في تعزيز هذا التوجه؛ حيث قامت مطبعة المديتشي بنشر كثير من المؤلفات العربية من قبيل القانون لابن سينا والعناصر لأقليد ومؤلفات ابن رشد."4
ويمكن القول بأن الاستشراق له دور كبير في تقديم خدمات جليلة من خلال طرحه مجموعة من الرؤى تتعلق بالتراث العربي الإسلامي وتسعى إلى فهم خصوصياته، وبالتالي محاولة التعريف بمختلف مجالاته وميادينه المعرفية والعلمية التي من المفيد أن يطلع عليها الآخر ويتبين الجهود المبذولة في إرسائها. لذا أمكننا أن نعتبر أن الاستشراق حركة فكرية إيجابية من شأنها خدمة الموروث العربي والتعريف به في الوسط الغربي وبيان أوجه التفرد والتميز في مختلف مكوناته؛ لذا اعتبرنا أن جهود المستشرقين في هذا المجال عمل محمود يمكن أن يقدم إضافة إلى الأدب العربي وغيره من المجالات المكونة للحضارة العربية الإسلامية.
غير أن الثابت والأكيد أن الاستشراق هو تخصص العلماء الغربيين المهتمين بالدراسات الشرقية على اختلاف مجالاتها وتخصصاتها، ومحاولة رصد مواطن الإبداع فيها؛ فتنوعت تبعًا لذلك جهودهم وحاولت أن تلامس المجالات والتخصصات المختلفة التي تكونه5، وقد كانت الكثير من الدراسات التي أقيمت حول اللسان العربي دراسات ناجحة خاصة ما ارتبط منها بالمجال اللغوي، وذلك لأن الدارس المتعلم للغة العربية يكون أقرب إلى إشكالاتها لأنها كانت عائقًا أمام تعلمه لقواعد هذا اللسان، فلا يكون له بعد أن تبحر فيها وتشرب قواعدها إلا أن يجد حلاً لكل ما يمكن أن يعيق من سيأتي بعده مقبلاً على تعلمها.
وقد تميز المستشرقون بالجد والتعمق في كثير من دراساتهم، ولأنهم يدرسون تراثًا بلغة بعيدة عن لغتهم، وتتصل بحضارة وثقافة مختلفة عن ثقافتهم، فإنهم يضاعفون الجهد بسد هذه الثغرة وحتى لا تظهر بعض الهفوات في دراستهم، ومع أن العرب هم الأقدر من غيرهم على هذه الدراسات، إلا أن ما توصل له الغربيون من خلال دراستهم للتراث اللغوي العربي له قيمة وأهمية في الساحة اللغوية لأنهم يستحضرون أدوات منهجية تساعدهم على الوصول لنتائج دقيقة، وهو ما نجد في دراسة الألماني فرنرديم لكتاب الجيم لأبي عمرو الشيباني، وكذلك المستشرق الإسباني داريو كابانيلاس رودريجيت للمعجمين المشهورين "المخصص" و"المحكم" لابن سيده المرسي، ويعد المستوى الصرفي في الدرس اللغوي العربي المستوى الأكثر دراسة من قبل الغربيين لما يعرفه من قضايا متشعبة لا زالت إشكالاتها العميقة تطرح في الساحة اللسانية إلى اليوم، وهو ما جعل جون لوفينستام وكرسل وجورج بوهاس وجون مكارثي العمل على مقاربة هذه القضايا تبعا لما استجد في الساحة اللسانية من نظريات وأدوات منهجية.
المبحث الثاني: تصور المستشرق اللساني جون مكارثي للبنية الصرفية في اللسان العربي.
أوضح ماكارثي 1976،1979 في إسهامات مثيرة للاهتمام، أنه بإمكان لغة الصواتة المستقلة القطع ومفاهيمها المساعدة حل بعض المشاكل البارزة في صواتة اللغات السامية وصرفها. "وقد اقترح ماكارثي وجوب إدماج طبقات مستقلة جديدة إلى جانب الطبقة النغمية، مبرهنًا على وجه الخصوص على أن البنية الأساسية لصيغ جذوع الأفعال في اللغات السامية يمكن أن تفسر على نحو بسيط وطبيعي، وذلك بتجزيء الطبقة القطعية للصواتة المستقلة القطع المعيار إلى ثلاث طبقات منفصلة ومستقلة: طبقات المصوتات، وطبقة الصوامت، الهيكل المقطعي، بالإضافة إلى ذلك، اقترح ماكارثي وجوب تجزيء كل طبقة من الطبقات المحددة سابقًا، على التوالي، إلى طبقات فرعية تناسب الوحدات الصرفية المختلفة"6
ويمكن أن ننطلق من الفصل الأخير من أطروحة ماكارثي 1979 "المشاكل الصورية في صواتة اللغات السامية وصرفها"، حيث بحث في الصرف الصواتي morpho-phonology للفعل في العربية الفصحى. ومن المعلوم، "فإن شكل الفعل في العربية يتألف من جذع يمكن أن يلحق به عدد من الزوائد. وسنحيل، ونحن نحذو في ذلك حذو مكارثي، على الجذع بالمصطلح التقليدي المستعمل في النحو العبري، أي بنية. ونقدم في الجدول 1 الذي ننقله عن أطروحة ماكارثي، صورة توضيحية عن البنيات الخمسة عشر الثلاثية الصوامت والبنيات الأربعة الرباعية الصوامت المعروفة في التراث النحوي العربي القديم. وحينما نتمعن في هذه الأشكال، نلاحظ أنها تتقاسم جميعها صوامت الجذع،"ك ت ب"، في حالة البنية الثلاثية الصوامت، و"د ح ر ج" في حالة البنيان الرباعي الصوامت، إلا أنها اختلفت عن بعضها البعض في المصوتات وبعض الصوامت الأخرى التي تحتوي عليها، كما تختلف عنها فيما سنسميه هنا بالهيكل المقطعي، أي في الترتيب المتوالي للصوامت والمصوتات في كل شكل من الأشكال."7
ويمكن أن نقدم في هذا الصدد الجدول الذي ضمنه مكارثي جميع الهياكل المتحكمة في بناء الفعل في اللسان العربي وهو كما يظهر في الجزء الآتي المقتطف من دراسته8:
لقد عمل مكارتي 1979-1981 حول الأوزان الصرفية في اللغة العربية واللغات ذات الصرافة غير السلسلية عمومًا، حيث نقل مكرثي التمثيل الصواتي إلى الألسن السامية بعد أن كان حكرًا على الألسن النغمية، فحينما "أنهى مكارثي رسالة الدكتوراه في سنة 1979، بعنوان Formal problems in semtic phonology and morphology "مسائل شكلية في الصواتة والصرف الساميين"، حيث اعتمد تحليل العبرية والعربية الفصحى ولهجتي دمشق والقاهرة في التدليل على بعض المقولات النظرية التي اقترحها، وفي هذه الرسالة أسس مكارثي John J.McCarthy نظرية جديدة في التحليل الصواتي، فقد كان المتبع في التحليل أن ينظر إلى الكلمة كأنها مركبة من أجزاء متتابعة، وهو ما يدعى بالتركيب السلسلي، وهذا التركيب هو الذي يوجد في كثير من اللغات خاصة اللغات الهندو أوروبية، التي أسست عليها النظرية اللسانية الحديثة بمختلف فروعها، وبدلاً من ذلك رأى مكارثي مستفيدًا من النظرية الصواتية ذات المستويات المستقلة، التي أرسى أسسها كولد سميث 1976 كما بينا أعلاه، أن نظرية الصواتة المعيار التي مثلها تشومسكي وهالي، لا يمكن تطبيقها على اللغات السامية،"9 وذلك بسبب أن الصرفيات في هذه اللغات ليست متوالية، بل متداخلة/ غير سلسلية، ويضرب مكارثي مثالاً على ذلك من العربية وهو ما يظهر من خلال الجزء المقتطف من مقاله10 الذي ضمنه أمثلة يوضح من خلالها تداخل صرفيات اللسان العربي.
يؤكد مكارثي John J.McCarthy من خلال الجزء المقتطف من المحور المخصص لإشكالات دراسته أن صرفيات اللسان العربي متداخلة لا يمكن الفصل بينها أثناء بناء الكلمة على خلاف صرفيات اللغة الإنجليزية ويعلل ذلك بدراسة الفعل "كتب" في اللسان العربي مقابل الفعل "write" في اللسان الإنجليزي.
إن البنية الصرفية للسان العربي تنطلق في عملية بناء الصرفات/الكلمات من الجذر الذي يبنى وفق قواعد محددة تحكم البنية الصوتية لهذا اللسان، ليتم بعد ذلك تفريغ الجذور في قوالب صرفية معينة تتماشى والمعنى الصرفي والمعجمي المراد بناؤه، لتأخذ الجذور بعد ذلك تحققًا ممكنًا تتحول من خلاله إلى جذوع، فإذا كانت طبيعة البناء لا تفرض تفكيك هذا الجذع وإعادة البناء فإننا نتبع قواعد الصرف السلسلي كما هو الأمر في المؤنث حينما تضاف صرفة الجنس وهي تاء التأنيث للحصول على لفظ مؤنث، وكما هو الأمر في المثنى والجمع حينما تضاف صرفة العدد، لكن هذا لا ينطبق على كل الجموع فجمع التكسير مثلاً لا يقبل ذلك، وإنما تطبق قواعد الصرف غير السلسلي في إعادة البناء، لأنه لا يتم الانطلاق من الجذع وإنما يُهدم الجذع لتطبق قواعد صرفية تحدد بناء جمع التكسير المناسب للمفرد.
1. بناء الكلمة العربية عند مكارثي John J.McCarthy:
إن كل كلمة عربية حسب مكارثي تتشكل من ثلاث صرفيات مستقلة وهي:
• الأجزاء الصامتية: وتتشكل أساسا من عناصر الجذر وكذالك الزوائد أو ما يصطلح عليه في التصور اللغوي العربي الحروف.
• الأجزاء الصائتية: وتتضمن النغمات الصائتية أو ما يطلق عليه في التصور اللغوي العربي القديم الحركات.
• هيكل: يتكون من متوالية من العناصر الصامتية "ص" والصائتية "صا".
وهذه الصرفيات المذكورة أعلاه توجد كل واحدة منها على خط تنضيدي مستقل ويمثل الهيكل الخط المحوري الرئيس الذي تربط إليه مختلف الأجزاء "الخطوط" التنضيدية، وتخضع عملية الربط بين هذه الأجزاء التنضيدية لعقود ربط تتشابه في جوهرها مع تلك التي وضعها كولد سميت، فالربط لا يكون اعتباطيًا بل لا بد أن يخضع لمجموعة من العقود، وهكذا فإن مكارثي قدم نظرية مقطعية لدراسة الألسن ذات الصرف غير السلسلي تقوم على المبادئ الآتية:
• مبدأ الربط وسلامة التكوين: هذا المبدأ يطبق خلال عملية الربط بين الخطوط أو ما يسمى عناصر التمثيل الصواتي، حيث يوجد خط للبنية، وخط للهيكل، وخط للجذر، وقد يوجد خط آخر للزيادة، ويتم الربط بين هذه الخطوط عن طريق روابط تسمى بعقود الربط التي تخضع لمجموعة من المبادئ انبثقت مع كولد سميت، وهذه المبادئ يمكن أن نجملها في:
أ. الربط من اليسار إلى اليمين.
ب. ربط كل عنصر بنغم واحد، والواحد تلو الآخر كما هو الأمر في (1).
(1)
ج. إذا تم تطبيق العقد وبقيت وحدات من الهيكل شاغرة فإن الجزء التنضيدي الموجود في أقصى اليمين يتوسع ويرتبط بها ليتحقق مبدأ آخر من مبادئ النظرية وهو مبدأ الانتشار كما هو الأمر مع الأفعال الصماء في المثال (2).
ح. إذا كان عدد الوحدات الهيكلية يقل عن عدد الأجزاء التنضيدية فإن تلك الموجودة في أقصى اليمين تظل عائمة، وبذلك لا تتحقق على المستوى الصوتي11.
إن عقود الربط واجب حضورها لتربط كل العناصر، فالعناصر التي لا تربط لا يمكن لها أن تتحقق على مستوى النطق، وبالتالي فإن التحقق رهين بشرط الربط، كما أنه ليس لكل عنصر إلا أن يأخذ خطًا واحدًا في أثناء عملية تكوين الكلمة، فكل ما يميز كل خط تنضيدي هو ما يتضمنه من عناصر، ومنه يتضح أن مبدأ سلامة التكوين يجب أن يراعي الشروط الآتية:
- ربط عقود الربط من اليمين إلى اليسار واحد تلو الآخر.
- لا يسمح بتقاطع خطوط الربط.
- لا يربط بين عناصر الخط الواحد، بل تربط عناصر خط البنية بعناصر خط الهيكل.
• مبدأ المحيط الإجباري: أخذ مكارثي هذا المبدأ عن لين 1973، ويقول هذا المبدأ بضرورة عدم وجود عنصرين متماثلين في خط تنضيدي واحد، إلا أن هذا المبدأ طرح إشكالاً في الجذور الصماء وكذلك الكلمات المضعفة، الأمر الذي أدى إلى القول بوجود جذور ثنائية، وذلك لأننا لا نجد تبعًا لهذه النظرية قطعتين صامتتين متجاورتين تحملان السمات نفسها في الخط التنضيدي نفسه، وهذا ما يظهر في المثال (2):
(2)
يظهر أن الراء في (2) انتشرت لتملأ الموقع الفارغ، وهذا ما يرمي بنا إلى مبدأ ثالث وهو مبدأ الانتشار الذي يفسر لنا عدم تضعيف الجذور في بداية الكلمة، لأن في تضعيفها خرق لمبادئ هذه النظرية، ولعل ما سنتناول في الجزء الموالي من الدراسة سبين بشكل واضح ما نظّر له في هذا الجزء.
2. الصيغة الصرفية من منظور جون مكارثي John J.McCarthy:
تقوم النظرية المقطعية إذن على ضرورة عدم وجود عنصرين متماثلين في خط تنضيدي واحد جنبا إلى جنب. وللمزيد من التوضيح نسوق المثال الآتي:
(3)
بنفس الطريقة تعامل مكارثي مع الصيغ الفعلية الأخرى، ولكن قبل أن يصل إلى هذه القضية لاحظ بأن صيغا ثمانية تتكرر وهي:
(4)
وقد قام مكارثي باختزال هذه الصيغ في صيغة واحد مع إضافة قاعدة حذف لتكون الصيغة على النحو الآتي:
(5)
ص صا ص ( [+قطعة]) {صا ص ص} /صا ص
ص صا ص – ص صا ص/Ø صا13
وقد أضاف مكارثي هذه القاعدة للتخلص من صيغة غير موجودة ضمن الصيغ المذكورة أعلاه وهذه الصيغة هي:
ص صا ص صا ص صا ص*
وقد لاحظ مكارثي عند تناوله هذه الصيغ أن هناك مجموعة من المشاكل تطرح بخصوص عقود الربط التي اقترحها وبخصوص هذا لم يلجأ إلى محاولة تغيير عقود الربط بل احتفظ بها لأنها تمكنه من تفسير ظاهرة التكرار الصامتي الموجود في آخر مجموعة من الصيغ، وفي المقابل لجأ مكارثي إلى بعض القواعد التي من شأنها أن تنظم التوزيع المسموح به للصوامت والصوائت داخل الصيغ.
ومن الظواهر التي أفرزت خرقا لعقود الربط، نجد ظاهرة التضعيف الداخلي للصوامت في الصيغتين الثانية kattab والصيغة الخامسة، إذ إن عقود الربط تعطينا خرجا مخالفًا من قبيل katbabو takatbab فهذان خرجان لاحنان لذلك اقترح قاعدة فك الربط التي ستظهر لنا من خلال المثالين الآتيين.
(6)
إن الخرج المتوصل له في (6) بعد تطبيق نظرية مكارثي بكل قواعدها خرج لاحن لذلك اقترح أن يكون التمثيل على النحو الآتي كما يظهر في (7):
(7)
عمل مكارثي على إدخال بعض التغييرات على عقود الربط ليفسر وجود بعض الصيغ الفعلية كما تتحقق مع الجذر، فالجذر "ك ت ب" حينما ينتقي صيغة "فَعّل" فإنه يحقق في اللسان العربي الفعل "كتّب" لا الفعل "*كتبب"14، ومن ثم تكون المبادئ التي وضعها مكارثي لا تحترم ما يحققه اللسان العربي نطقاّ، لكنه استدرك ذلك كما هو مبين في المثال (7) باقتراح فك ربط R3 وانتشار R2.
3. اقتراحات مكارثي لحل بعض إشكالات الصيغ الصرفية.
إلى جانب إشكال التضعيف في الصيغ الصرفية هناك مشكل آخر يتعلق باللواحق وفي هذا الإطار اقترح مكارثي في البداية أن تربط اللواحق بالعنصر الصامتي الأول، ولكن هذا الاقتراح سيؤدي إلى طرح مجموعة من الإشكالات خاصة في الصيغ التي تعرف اللواحق في داخلها، وقد كان لزامًا على مكارثي أن يحمل الهيكل مسؤولية تعيين اللاحقة داخل مكوناته، وبالتالي حل بعض الإشكالات لكن البعض الآخر بقي عالقا.
لقد حاول مكارثي بوضعه لهذا النموذج إقامة نحو تمثيلي للصرافة الفعلية في اللغة العربية، بحيث سعى إلى إفراز العديد من التعميمات وذلك من خلال اقتراحه لعديد من القواعد فرضها التصور العام للنظرية المقطعية، ورغم محاولته تجاوز جهاز الصواتة المعيار فيما يخص التمثيل الصواتي، إلا أن مكارثي لم يفلت من قوة صياغته الصورية للقواعد، وهو ما فرض ظهور نظرية جديدة أكثر ملائمة للبنية الصرفية العربية، ويمكن أن نقدم مقتطفا من دراسته يبين بعض الحلول التي قدمها مكارثي لإشكال بناء صيغة الفعل الرباعي المجرد .
لم يقف مكارثي عند بناء الفعل من الجذر الثلاثي في علاقته بالصيغ وإنما وقف أيضًا عند الإشكالات التي تطرحها الجذور الرباعية في عملية بناء الكلمة في علاقتها بالصيغ، كما أنه لم يعالج الأمر في بعده المجرد وإنما درس أيضًا علاقة هذا النمط من الجذور في علاقته بالصيغ المزيدة، إذ تحدث عن صيغة الفعل المجرد الرباعي بالصيغ المزيدة موظفا مصطلح germination.
الخاتمة:
يظهر من خلال ما قدمناه في هذه الدراسة أن ما تطرحه البنية الصرفية للسان العربي من إشكالات قد حاول جون مكارثي John J.McCarthy مناقشته بما توفر عليه من معطيات لغوية، وهو ما يعكس لنا أن بحثه كان عميقًا يدل على توغله الكبير في الفكر الصرفي العربي؛ إذ له تأملات تثبت لنا أننا أمام عالم فذ، وفكر متوقد؛ فهو لا يقتصر على إيراد المعطيات اللغوية فقط، وإنما يتجاوز ذلك إلى الوصف والتحليل قصد تقديم تفسير علمي للقواعد المتحكمة في بناء الصيغ الصرفية في اللسان العربي، وهو ما رُد أكثره في الدراسات اللغوية القديمة إلى السماع، ليأتي اليوم عالم مستشرق يحاول كشف أسرار النظام اللغوي لهذا اللسان، ويفتح الصرف العربي على آفاق جديدة، خاصة وأن اللسان العربي قد ضُبط مستواه الصوتي بطريقة رياضية؛ إذ لا نجد في الجذر الواحد أصواتا تنتمي لنفس المخرج كما أن الجذر إذا كان غير ثلاثي لا بد أن يدخل صوت من أصوات الذلاقة في تكوينه وإلا استحال تكوين جذر رباعي أو ثلاثي مزيد، فكيف للسان ضبط مستواه الصوتي بهذه الطريقة أن يكون مستواه الصرفي غير محكوم بخوارزميات تجعل الكلمة تظهر على النحو الذي تظهر عليه حينما تدمج الصيغة مع الجذر؟ إن هذا الإشكال يفرض علينا الوقوف والبحث عن المنطق المتحكم في باقي المستويات خاصة المستوى الصرفي، لتجريد قضاياه من مصطلح السماع الذي ظل لصيقا بها إلى اليوم.
الهوامش والمصادر:
1 - الاستشراق بين المواصفات العلمية والأهداف المشبوهة، إبراهيم عبو، مجلة الناصرية للدراسات الاجتماعية والتاريخية، مجلد 10، عدد 02، ديسمبر 2019، ص 167.
2 - نقد الخطاب الاستشراقي- الظاهرة الاستشراقية وأثرها في الدراسات افسلامية، ج 1، ط 1، بيروت، دار المدار الإسلامي، 2001م، ص 11.
3 - الدراسات العربية في أوروبا، يوهان فك، ترجمة سعيد بحيري ومحسن الدمرداش.
4 - كتاب سيبويه في الدراسات الغربية المعاصرة "ميكائيل كارتر نموذجًا، محمد الوحيدي، بحوث المؤتمر الدولي الثالث: المنجز العربي اللغوي والأدبي في الدراسات اللغوية، قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة الملك سعود، 2020م، ص 210.
5 - جهود المستشرق الفرنسي أندريه ميكيل في دراسة الأدب العربي، منال العيسي، بحوث المؤتمر الدولي الثالث: المنجز العربي اللغوي والأدبي في الدراسات اللغوية، قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة الملك سعود، 2020م ص 408.
6 - الصواتة ذات الأبعاد الثلاثة "موريس هالي وجون روجي فيرنيو ترجمة مبارك حنون وأحمد علوي.، مجلة اللسانيات وتحليل الخطاب، العدد الثاني، شتنبر 2015، ص 36.
7 - الصواتة ذات الأبعاد الثلاثة "موريس هالي وجون روجي فيرنيو ترجمة مبارك حنون وأحمد علوي.، مجلة اللسانيات وتحليل الخطاب، العدد الثاني، شتنبر 2015، ص 37.
8 - A prosodic theory of nonconcatenative morphology, John J.McCarthy, linguistic Department Faculty Publication/ 1981, University of Massachusetts, Amhesst, p 385.
9 ـ بنية المصدر في اللسان العربي: دراسة صرف صواتية، أيوب أيت فرية، رسالة دكتوراه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك، الدار البيضاء المغرب،) الموسم الجامعي 2016-2017، ص 74.
10 - Aprosodic theory of nonconcatenative morphology, John J.McCarthy, linguistic Department Faculty Publication/ 1981, University of Massachusetts, Amhesst.
11 -التكرار الصامتي والتعاقب الصائتي، محمد التاقي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ابن المسيك، جامعة الحسن الثاني، الدار البيضاء، ص 129.
12 - Aprosodic theory of nonconcatenative morphology, John J.McCarthy, linguistic Department Faculty Publication/ 1981, University of Massachusetts, Amhesst, p 386.
13 - A prosodic theory of nonconcatenative morphology, John J.McCarthy, linguistic Department Faculty Publication/ 1981, University of Massachusetts, Amhesst; p 387.
تغريد
اكتب تعليقك