الإسلام أمام الديمقراطيةالباب: مقالات الكتاب
محمد الإدريسي أستاذ فلسفة وباحث في علم الاجتماع - المغرب |
الإسلام أمام الديمقراطية1
ترجمة: محمد الإدريسي
الكتاب: "الإسلام أمام الديمقراطية"
المؤلف: فيليب ديريبارن
الناشر: غاليمارد
سنة النشر: 2013
اللغة: الفرنسية
عدد الصفحات: 186 صفحة.
قليل من الباحثين فقط، أمثال فيليب ديريبارن (Philippe d’Iribarne)، قد حاولوا توصيف ثقافات العالم الحديث دون الوقوع في مزالق الثقافوية. بعد أن أظهر كون تدبير الاقتصاد هي فكرة نجد لها حضور قوي في كل بلد في علاقته بالآخر، سعى الباحث وفريقه نحو تعزيز هذا النهج ليشمل حوالي أربعين بلد (لم يتم إضفاء الطابع الرسمي على المقاربة النظرية إلا في الآونة الأخيرة)3. من خلال هذه المحاولة الجديدة، يوصل فيليب ديريبارن رحلته عبر الثقافات. ولكن، وبدلاً من دراسة بلد جديد، يعيد الباحث تصوره عكس تصوره السابق: إنه يظهر كيف أمكن للإسلام – والذي يسعى نحو الانتشار على نطاق كوني- أن يترك بصمة مشتركة داخل البلدان التي ينتشر في نطاقها. للقيام بذلك، يحاول الكاتب تسليط الضوء على التناقضات المحتملة بين الفكر الإسلامي والمثل الديمقراطية.
يظل السؤال المطروح اليوم نقديًا بدوره، ويهم طبيعة اندماج الجاليات المسلمة في المجتمعات الغربية، ومستقبل البلدان المسلمة في سياق الغليان السياسي الذي تشهده –في العالم العربي كما في دول جنوب الصحراء. في فرنسا، لا تتم معالجة هذه المسألة إلا في إطار نمط عاطفي: بالنسبة للبعض، الحريصين على منع مختلف أشكال الوصم، يجب علينا رفض فكرة وجود رابط بين الإسلام والعديد من الوقائع الإشكالية. بالنسبة للبعض الآخر، وعلى العكس من ذلك، يتعلق الأمر بإظهار انعدام التسامح مع من يفكرون وفق ارتباطهم بالإسلام.
ليست في نية الباحث تبني أي من هذه الإملاءات الجاهزة. من خلال اعتياده على التجوال بين الثقافات، فإنه لا ينكر كون البلدان الإسلامية مختلفة ثقافيًا عن بعضها البعض، ومتنوعة كما هو الشأن مع ثقافات ما قبل الإسلام، وأن تاريخها الخاص هو ما يشكلها بالضرورة. من خلال تبنيه للصرامة التفسيرية المعهودة عليه، يسلط الضوء على وجود بصمة مشتركة، حاضرة في جوانب شتى للعالم الإسلامي: "رؤية سوداوية من الشك والجدل" إلى جانب وجود "يقين نهم" و"تمجيد وحدة المجتمع".
بداية، يظهر الباحث هذا التعارض الثنائي –شك/يقين؛ نقاش/وحدة- الذي يسجله في القرآن. لا يتعلق الأمر هنا ببعض الاقتباسات المنتقاة بدهاء، ولكن بالمنطق التأسيسي للنص، والذي يطبع كل السور والآيات: الصورة اليقينية للحقائق المنكشفة، والوعيد الموجه لأولئك المشككين (والذين يشككون عن سوء نية)، وشجب المجادلين ("المنكرين"، و"هواة الجدل"، ومن يتكلمون "دون أن يقولوا أي شيء") أو أيضًا الاحتفاء بوحدة المؤمنين.
يبدو أن الكاتب يبين كيف أمكن لهذا المنطق أن يكون قادرًا على ضبط أو التخفيف من التواصل مع العوالم الأخرى: على سبيل المثال، اللقاء مع الفكر اليوناني الذي نظر إليه، ضمن نقاش متناقض، كوسيلة لإبراز الحقيقة. بداية، تم التوافق على فكرة المعرفة التي سلطت الضوء على دواخل هذا الفكر أو على صورة الملك الفيلسوف (أفلاطون). لكن، وعلى العكس من ذلك، حتى عند المفكرين القريبين من العالم الغربي –كما هو الشأن مع ابن رشد- ظلت هناك رهبة من مواجهة اللايقين، والشك والانقسام. بالنسبة لهذا الفيلسوف، نظر إلى العقل باعتباره القدرة على استيعاب ما يعطى وتأييده. ليس النقاش وسيلة للوصول إلى مزيد من الحقيقة، وإنما على العكس من ذلك مجرد عامل لـ"التمزيق". أما بالنسبة للتأمل النظري، فإنه محصور على فئة "العلماء الأتقياء".
بعد ذلك، يوجه فيليب ديريبارن نظره نحو القانون والشريعة. في ما وراء التنوع، يرى أنه هناك ميول نحو تقنين السلوك الإنساني. في حالة وجود صعوبة في التفسير، يتم الاحتكام إلى المعنى الواضح للنصوص وتعليقات المختصين حول الأصول. وبخلاف ذلك، فإن الأمر يعود إلى إجماع الأمة ورأي الأشخاص الورعين والجديرين بالثقة. مع مرور الوقت، تراجع هذا المنطق ميكانيكيا نحو هوامش التأويل.
تصبح بصمة هذا المنطق الإسلامي، جلية للعيان عندما ننظر إلى العوالم الدهرانية. لذلك يخلص الباحث إلى تحديد نفس العلاقة مع العالم: هناك توقع كامن بتميز السلوكيات والقيادة الأخلاقية، فضلاً عن الاحتفاء بالآراء. وما يوضح الأمر هي الترجمة الأردنية لميثاق الجماعة الفرنسية. لقد أزيل حافز النقاش والرؤية الايجابية للصراع وعوض بالدعوة نحو الوحدة والتوجيه.
يستعرض المؤلف بعد ذلك المبادئ الديمقراطية المرفوضة من قبل الإسلام. عمومًا، فإن الكتاب الذين يرغبون في تجاوز القراءة الجوهرية، لا يرون في ذلك سوى نتيجة تاريخية. تبين الطرق المقدمة من قبل الكاتب، بأن بعض الإغراءات – الثيوقراطية، والاستبدادية، وغير المتكافئة.. الخ- بالكاد لها علاقة بالإسلام. في المقابل، ينشأ هناك تناقض مرتبط بالخوف الراديكالي مما قد يؤدي إلى "الفتنة. يلاحظ الكاتب بشكل سريع بأن التشدد الحالي للإسلام، وعلى عكس التصور السائد، هو نتيجة للحداثة (ولا يتعلق الأمر بانحسار ظلامي). إن الإسلام المتسامح موجود في الريف، ورفض المعتقدات الشعبية –دون أي أساس ديني- هو فكرة حديثة بالضرورة. يساهم ارتفاع المستوى التعليمي ومحو الأمية في العودة العامة إلى صرامة النص.
بتسليط الضوء أكثر على الأمر، من المحتمل ألا يكون الكاتب خبيرًا في الإسلام. لكن، من المحتمل أيضًا أن يكون قد تسلق الأسوار التي تفصل بين الخبراء وعمل على تطبيق تفسيراته الدقيقة والمرتبطة بمجالات معرفية مختلفة (دينية، وفلسفية، وقانونية، وسياسية وسوسيولوجية). لقد حذر الباحث من التعميمات المتسرعة والمستبقة، في كل مرحلة، المحددة للنظر في الأحداث التي قد تبدو متناقضة. على طول الكتاب، يحدد الباحث تاريخ معقد للأفكار في إطار المجتمعات الموسومة بالإسلام، ما جعل مقاربته تنفي أي مبدأ للحتمية: هدف إلى التعرف على العوالم الثقافية أو الدينية التي تؤثر على تمثلات أعضائها وروابطهم الاجتماعية.
لا يعتمد الكتاب على إثباتات مبنية، لكن على استكشاف منهجي للعوالم الثقافية. إنه لا يتنبأ بما قد يحدث للمنظور الإسلامي إزاء النقاش الديمقراطي، لكنه يسلط الضوء من جديد على توتر الأحداث الراهنة. على الرغم من كونه لم يتناول الموضوع بما هو عليه، إلا أن تحليله يقدم فهمًا جديدًا لفرضية التطرف الإسلامي في دول جنوب الصحراء.
تكمن فائدة عمل فيليب ديريبارن في كونه يقدم قراءة للوقائع وفق نهج نظري مبتكر. مع ذلك، ظل الباحث حذرًا والتزم الصمت إزاء الكثير من المسائل التي ظهرت ضبابية بالنسبة له، وترك فرصة الترقب للقارئ. على سبيل المثال، نجده لا يعالج مسألة المساواة بين الرجال والنساء (على الرغم من اعتبارها من فضائل الديمقراطية). في الواقع، تكشف هذه اللامساواة عن خلفية ثقافية أوسع من ذلك بكثير، ولا علاقة لها بالإسلام. لا يتحدث المؤلف سوى عن التيار الإسلامي الذي يعدل التأثير الضار للسلوكيات الاجتماعية.
هناك مسألة أخرى يمكن أن ننتقد الكاتب من خلالها، وتتعلق ببسط نهجه ليشمل العقيدة الدينية. حتى هذا الحين، اعتدنا على البحث في مخاوف المؤسسين التي تطارد ثقافات الأمم. لكن، لا شيء- باستثناء النتيجة التي نتحصل عليها- يدعم صحة هذا المنزلق المنهجي. برغبته في التأكيد على كون التشكيك ليس حقيقة دينية، عمل فيليب ديريبان على إسقاط نظرته النقدية للأناجيل، لذلك يظهر أن هناك فرق واضح، حيث أن هذه الأخيرة تعترف بالشك والخلاف بين المريدين. ومع ذلك، هل هناك أي تعارض مؤسس قد كشف عنه الكاتب في الرسالة المسيحية؟
يجب علينا أن نعترف بكون المؤلف قد عمل بإصرار على استنطاق الوقائع في كل بناء نظري. يذكرنا نهجه بطريقة عمل علماء الفلك خلال القرن السادس عشر، من خلال التركيز على المراقبة والحساب، من أجل فصل علمهم عن التنجيم. يقود الحضور القوي للوقائع الثقافية الباحث إلى التغلب على معتقدات السوسيولوجيا (أدان التركيز على التأثير التنبؤي للقيم التي تلازم المجتمع) لصالح وجهة نظر نظرية جديدة مستمدة من الوقائع. إنه يظهر وجود جاذبية قوية، في قلب الإسلام، تتشكل في علاقة مع قوى أخرى، ويسلط الضوء على مسارات المجتمعات التي تعلن عنها.
الهوامش:
1 - في الأصل نشرت هذه المراجعة باللغة الفرنسية في:
Henry Alain, « Philippe d'Iribarne. L'Islam devant la démocratie», Afrique contemporaine2/2013 (n° 246) , p. 154- 156.
URL : www.cairn.info/revue-afrique-contemporaine-2013- 2-page-154.htm
DOI : 10.3917/afco.246.0154.
2 - الوكالة الفرنسية للتنمية.
3 - Philippe d’Iribarne, Penser la diversité du monde, Seuil, 2008.
تغريد
اكتب تعليقك