الفن المُعاصِر وما بعد الحَداثة حُدود الوَصْل والتَّبادُلالباب: مقالات الكتاب
بنيونس عميروش تشكيلي وناقد فني- المغرب |
في البدء، يتَعَيَّن التأكيد على أن ما بعد الحداثة التي بعثرت الأنظمة والقوانين، هي مجموعة من الممارسات والتصورات النقدية التي تعتمد مفاهيم متعددة من قبيل التفكيك والاختلاف (الاختلاف الفكري والأكاديمي والأدبي والفني عن العصر السابق: عصر الحداثة)، وهي - في الأصل- حصيلة جدل فكري ذي أهمية بالغة في الفكر المعاصر، ساهم فيه العديد من الفلاسفة والمنظرين من أمثال جوليا كريستيفا، يورغن هابرماس، مارتن هايدغر، ميشيل فوكو، جيل دولوز، جاك دريدا، إيهاب حسن وغيرهم.
من بين هؤلاء، يبرز الفرنسي جان فرانسوا ليوتار (1924 - 1998) الذي بلور مصطلح "ما بعد الحداثة" في اللغة الفرنسية، للإعلان عن نهاية الخطابات الفَوْقية التي ينعتها بالمَحْكيات الكبرى (Les grands récits)، نظرًا إلى اعتقادها الراسخ في قدرتها على قراءة المستقبل وتحديد مصير الوجود الإنساني، أي تلك المَرْويات ذات الصلة بالخطابات الحداثية من قبيل "جدلية الروح (هيجل)، هيرمينوطيقا المعنى (ريكور)، تحرر الذات العاقلة أو تحرر العامل (ماركس) ونمو الثورة (الليبرالية)"(1)، وذلك استنادًا إلى تحديد الحداثة بقوله: "سوف أطلق مصطلح الحداثة على أي فرع من فروع المعرفة يسعى إلى اكتساب شرعيته بنفسه من خلال افتراض خطاب شارح (métadiscours) يمثل إطاره المرجعي (...) أي من خلال الاستناد إلى نظرية عامة مثل نظرية جدلية الروح، أو هرمينوطيقا المعنى، أو تحرير الذات العاقلة أو الفاعلة، أو قصة خلق الثورة"، وعلى الطرف الآخر، يحدد ما بعد الحداثة كالتالي: "سوف أتوخى التبسيط الشديد فأُعَرِّف ما بعد الحداثة بأنها التشكيك في كل النظريات أو القصص الشارحة (métanarratives)"، إذ يعتمد ليوتار في تمييزه بين "التَّوجُّهَيْن" على فكرة، مفادها أن المعرفة العِلمية، تستمد شرعيتها أولاً وأخيرًا من مجموعة القواعد التي يتفق عليها المشاركون في كل لعبة لغوية، وهي قواعد تتشكل وتحقق استمرارها من خلال عملية نقل المعرفة نفسها وتلقيها، باعتبارها "معرفة سردية" (2). ففي ضوء تلاشي شرعية العديد من الإيديولوجيات والنظريات الكبرى في مجتمع "ما بعد الحداثة"، كما هو الشأن بالنسبة للماركسية (التي بلغت نهايتها بانهيار الاتحاد السوفيتي في 1991 مع نهاية الحرب الباردة ونهاية النظام الشيوعي في أوروبا)، ونظريات التقدم والإجماع العقلاني والعلم المُوَحَّد وغيرها، انبثقت لحظة جديدة في الفكر الغربي بين الواقع الظاهري والواقع الحقيقي (الموسوم بـ"ضياع سلطة" المؤسسة التقليدية بتعبير حنة أرندت)، لحظة ما بعد الحداثة التي يُعَرِّفها جان فرانسوا ليوتار بـ "الحالة التي تعرفها الثقافة بعد التحولات التي شهدتها قواعد اللغة الخاصة بالعلم والأدب والفنون منذ نهاية القرن التاسع عشر" (J- F. Lyotard, La condition postmoderne- Rapport sur le savoir, 1979).
على الصعيد الفني، يرى ليوتار أن "فن ما بعد الحداثة" لا يمكن النظر إليه بوصفه فئة محددة دائمة من الأعمال، لأن ما بعد الحداثة لا تتحقق إلا في صورة مُحاوَلة لتدمير كل التصنيفات والتقسيمات والإفلات منها، وفي صورة تشَكُّك جذري في كل ما هو معروف ومألوف، وثورة عليه، فيما يؤكد أن كل عمل ينتمي إلى الحداثة ينبغي أن يمر أولاً بطور ما بعد الحداثة، لأن ما بعد الحداثية Postmodernisme لا تمثل الحداثية Modernisme في مرحلة احتضارها، بل في مرحلة ميلادها التي هي في حالة ميلاد دائم (3). وفي مُساءلة ليوتار عن نوع الفن الذي يُمكن أن نُطلِق عليه وصف ما بعد الحداثة أجاب: "علينا أن نرتاب من كل الإبداع الفني الذي وصل إلينا من القديم وحتى البارحة. لقد تحدى سيزان الانطباعيين (Les impressionnistes)، ثم جاء بيكاسو وبراك فاستهدفا سيزان بالهجوم، ثم كفر دوشان Duchamp عام 1912 بفرضية الرسم نفسها حتى وإن كان تكعيبيًا، وجاء بعده بورين Buren (Daniel) ليتشكَّكَ بدوره في فرضية أخرى، رأى أن دوشان حافظ عليها في أعماله ولم يتعرض لها بالنقد، وهي الفرضية التي تتعلق بموقع التصوير ومكانه في العمل الفني" (La condition postmoderne)، مع هذا المعنى يبدو أن مصطلح "فن ما بعد الحداثة" يُناقض نفسه، إذ يسعى إلى وصف أعمال تحيلنا على لغات الفن المعروفة التي يمكننا إدراكها كفن من خلال هذه اللغات، بينما تتعمد الهروب منها وتكسيرها في الوقت نفسه، ما دفع بيل ريدينجز Bill Readings للقول بأنه "فن ينتمي إلى الفن ولا ينتمي إليه في آن واحد"، ومثل هذه الآراء النقدية تُصَوِّر ما بعد الحداثة كحالة دائمة من التقلب وعدم الاستقرار، ضمن مقاومة التقنين والتحديد (4).
في مقابل السرديات الكبرى التي أَخْلَفَتْ هدفها النبيل في تعبئة الجماهير لتحقيق السعادة على الأرض (5)، يقترح ليوتار بديلاً نظريًا من خلال مفهوم "السرديات الصغرى"، باعتبارها خطابات مُشَكَّلَة من لدن تجمعات معينة لتحقيق أهداف محددة، مرحلية وبراغماتية، مُفْرَغة من الطابعَيْن الشمولي والسلطوي، بحيث تنحل السرديات الصغرى تلقائيا بمجرد تحقيق الأهداف لدى هذه الأقلية، دون أن تتحول إلى إيديولوجيا سياسية أو اجتماعية ثابتة. ومثلما تتعلق السرديات الصغرى بالراهن والمؤقت والمرحلي، ترتبط عنده مفاهيم أخرى بـ"المُختلف" و"اللّامتوقَّع"، وبـ"الحدث" كمفهوم يفيد تفسير التحولات الاجتماعية والثقافية المرحلية وحتى التحولات التاريخية الكبرى.
مثل هذه المفاهيم وغيرها، تجد صداها التوليفي والرمزي، بطريقة أو بأخرى، ضمن خلفيات تأويلية، مخصوصة بوضعيات وبناءات بصرية في أساليب الإبداع الجديدة الموسومة بـ"الراهن"، و"العابر"، و"المؤقت"، و"المُقلق"، و"المستفز"، و"الشك"، و"الهش"، و"اللّايقين"...، ومن أجل تمييزها وتأطيرها داخل الفن ما بعد الحداثي، يتم اعتماد مفهوم الفن المعاصر L’art contemporain عادة في الخطابات النقدية والنظرية الراهنة، الخاصة بالفنون التشكيلية والبصرية عمومًا، ذلك أن ما بعد الحداثة ومفهوم الفن المعاصر يتناغمان ويتبادلان مُعظم الخصائص التي تقوم عندهما أساسًا على مناهضة قوالب الفن الحديث، كما ينفلتان معًا عن التعريف الدقيق، ما يجعلهما مُلْتَبِسَيْن ومُنْفَتِحَيْن بنفس القدر على مختلف الأطروحات المُسْتَحْدثة وكافة أشكال التعبير دون قيد أو شرط، مع الإشارة إلى أن الفن المعاصر الذي ينحدر في تاريخ الفن إلى ما قبل منتصف القرن العشرين، لم يكن طرفًا في الجدل الفلسفي بشكل مباشر حول ما بعد الحداثة، بينما ظل المصطلح الأوسع والمُتصالح مع جميع التوجهات، ليضم فئة من الفنانين الذي يواصلون الاشتغال في إطار التقاليد الحداثية وتلك المتأخرة منها، وحتى أولاء الرافضين لـ"حساسية" ما بعد الحداثة من التشكيليين. ففي جانبه الأوفر، ظل الفن المعاصر متوافقًا مع تطلعات ما بعد الحداثة (التي قد تمس بدورها فترة من الفن الحديث) عبر تحويل الصُّوَر وإعادة تدويرها، ضمن خلق أحداث وأداءات وأنساق تطبيقية قابلة للتقاسم وتوليد المفاهيم، بحيث عمل الفن المعاصر على تذويب الفروق بين الممارسة الفنية النخبوية والشعبية، فيما بات يستعير أشكاله من فروع الفنون الجميلة المُتَعارَفَة (النحت، والتصوير La peinture والرسم Le dessin وما يليه فنون الطباعة "اليدوية" من حفر Gravure وطباعة حجرية Lithographie وطباعة حريرية Sérigraphie)، مثلما يستعيرها من الممارسات "الإبداعية" الجماهيرية (الملصقات، الصورة الرقمية، الغرافيك الرقمي، مقاطع الفيديو، المُنْتَجات الحِرَفية والمُصَنَّعَة وغيرها) دون حدود مسبقة، ليتخذ صبغة تَرْحِيبِيَّة ملحوظة، على اعتبار الفني ما تعتبره ذاتِيَّة كل فرد ونظرة المجتمع المعاصر على هذا النحو، ولذلك يتجاوز الفن المعاصر المفهوم التقليدي للتخصصات الفنية، لينضم إلى مفهوم فنون ما بعد الحداثة من بابها الواسع.
ضمن سياق الاستجابات التي تُؤَلِّف بين ممارسات ما بعد الحداثة والفنون البصرية بعامة، نقف عند الفن المعماري الذي يُعَدُّ أحد فروع الفنون التشكيلية (إلى جانب التصوير والنحت)، لنُشير إلى أن إطلاق نَعْت "ما بعد الحداثة" على أسلوب فَصيلة أعمال بعَيْنها: "أسلوب ما بعد الحداثة" كنموذج تَصْنيفي، يتعلق بالنقد الفني المَعْني بفن العمارة، وينحدر إلى سنة 1980، تاريخ المعرض الذي احتضن مجموعة من الواجهات (Façades) التي صَمَّمها ثلاثون مهندس معماري من أوروبا وأمريكا، تحت عنوان "أحدث طريق" (Strada Novissima)، وقد أُقيم لأول مرة في إطار بينالي فينيسيا (البندقية). في هذا السياق، تحدث الناقد الإيطالي باولو بورتوجيزي Paolo Portoghesi (وهو فنان معماري ضمن العارضين) عما لاحظه في الأعمال من تحوُّل واضح عن قِيَم وأساليب الفن المعماري الحديث وما لمسه من ثورة عليها، ففي الحين الذي أعلى فيه المعمار الحديث من قيمة الأشكال الهندسية الخالية من الزينة والتفاصيل المعقدة، ومن الإحالة والرمز والأجرومية التقليدية لفن العمارة، جاءت تصاميم المعرض مُعارضة لذلك تماما، لتطرح طِرازًا معماريًا جديدًا، يقوم على مبدأ التواصل وتوظيف الصورة (image)، ويتسم بخاصية التلاعب الساخر بأساليب الماضي وتقاليده المعمارية واستخدمها لخلق مفارقات بصرية، كدليل على فقدان الثقة في عقائد المذهب الحداثي التي تُساوي بين "المنفعة" و"الجمال"، وتؤكد على أن "الوظيفة تفرض الشكل الفني وتُحَدِّده" وما إلى ذلك، ومن ثمة، يُؤكد بورتوجيزي على أن هذا الأسلوب ما بعد الحداثي في التصميم المعماري (أعمال معرض "أحدث طريق") لا يشكل مجرد تغير في الاتجاه، بل يمثل "قطيعة" مع الحداثية (Modernisme)، ورفضا وإنكارا لكل الفرضيات الأساسية التي تستند إليها في إضفاء الشرعية على رفضها للماضي (6). هذا النموذج النقدي الذي وظف "أسلوب ما بعد الحداثة" (بشكل إجرائي) في الحقل المعماري، بات يأخذ في حُسبانه كل الصراعات التي فجرها وحالات الاستبعاد التي فرضها، ليصبح بمثابة القاعدة للعديد من الكتابات النقدية المتنوعة التي تناولت بالوصف والتحليل أشكال الاختلاف والانحراف التي أتى بها "تيار" ما بعد الحداثة في مجالات التصوير والنحت والأدب والفوتوغرافيا والتلفزيون والسينما، وتبدت في بعض جوانب الرقص والمسرح (7).
في عام 1966، عرض الفنان الأمريكي كارل أندريه Carl Andre (مولود في 1935) تكوينًا مستطيلاً عبر طبَقَتَيْن بِسِعَة 120 وحدة من الطوب (Briques réfractaires) (يتخذ العمل حَجْمًا Volume هندسيًا بسيطًا: متوازي المستطيلات Parallélépipède) بمعرض "تيت مودرن" (Tate Modern) للفن الحديث في لندن، وهو العمل الذي يمكن تقليده بسهولة، مما أثار الاستياء لدى النقاد والمهتمين الذين رأوه عديم المعنى وخالٍ من أية جاذبية بصرية، غير أن هذا العمل الذي كسر قواعد النحت الأكاديمية، انتقل من خلاله كارل أندريه إلى دائرة الفن المعاصر، بعد أن أُثيرت أسئلة حول الهدف من وراء هذا العمل، ومُبَرِّرات مَكانته كقطعة متحفية؟ إنها نوع الأسئلة ذاتها التي تترجم سِمة نموذجية من سمات عصر ما بعد الحداثة، ذلك أن التركيب البسيط لِوَحَدات الطوب، المُعَنْوَن بـ"مُعادِل 8" (Equivalent VIII)، والمَوْصوف بصِبغة تَصْميمِيَّة مقصودة، يُشَكِّل تَحَدٍّ صارخ لخصائص الفن السابق، بينما هذا التمرد الذي يُنْكِر قواعد الفن الحديث، يُجَسِّد في حد ذاته نوعًا من الفن في عُرْف فناني ما بعد الحداثة، فيما يُحيل العمل على فن المفاهيم L’art conceptuel. وعليه، لَخَّص كارل أندريه قيمة عمله المعاصر بالقول: "إن ما أحاول إيجاده هو مجموعة من الجزئيات، وكذا القواعد التي تجمعها بأبسط طريقة".
من زاوية أخرى، يلاحظ المهتم بِيُسْر أن بَراديغم الفن المعاصر يتقدم في اتجاه توفير مُخْرَجات اللَّعِب على التوليف المرن للصور الذهنية واستثمارها، لتكون بديلة للحدث الفني نفسه، وقد توصلت إلى تحويل الاهتمام بالفن إلى صور فوتوغرافية أو مجرد أوراق مطبوعة أو خطاب شفهي تتخذ فيه المعلومة صلب "الفعل الفني"، ما دعا الفنان الأمريكي إيان ويلسون Ian Wilson) 1940 - 2020) للإعلان: "أنا لست شاعرًا، غير أني أحترم الخطاب الشفهي كعمل نحتي. فإذا أخذتَ مُكعبًا، قد يقول لك شخص إنك تتخيل الوجه الآخر للمكعب لأنه شكل بسيط. كما يمكنك فهم الفكرة إلى حد بعيد بقول إمْكانِك تَخَيُّل كل الأشياء دون أن ترى وجودها المادي، وستظل تلك هي الملامح الحيوية المُميَّزة المُتَمَلِّكَة لملامح عصر الأوبجكت الأساسي حتى يكون رهن تصرفك".
إنها النتيجة التي تجسد حتمية التجديد، ومُسايرة العصر الذي يُملي منطلقات ودوافع التجريب والانقلاب التي ظلت مُرافقة لماهية العمل الفني، المُتحوِّلة دوما، تماشيا مع المُتغيرات العالمية على جميع الأصعدة، إيجابًا وسَلْبًا (من الإيكولوجي والاجتماعي إلى السياسي والاقتصادي والعلمي والفكري بعامة)، إلى أن تفرَّعَت وظائفه، فأصبح في نهاية القرن العشرين وما تلاه من سنوات القرن الواحد والعشرين، يقيم داخل نسيج متشابك من الفنون والعلوم والمعارف والصناعات والهندسة والأدبيات الفلسفية والتَّخاطُبات، وعديد الوسائل الإعلامية والوسائط التكنولوجية الحديثة، ليتخذ منزلة الهُجْنَة بين الفن والحَدَث الفني، عبر مختلف أشكال التقديم والعَرْض الرقمية والمادية والفضائية، وكذا الجَسَدِيَّة السائرة في المزيد من تشخيص الأزمة الوجودية عبر أصناف "الأداء" (Performance) الباعثة على التَّقَرُّح والكبت والاختناق.
فإذا بَدا لنا هذا التغيير المُلاحَظ، السِّمَة التي طبعت الفن الجديد خلال هذين العقدين الأخيريْن من القرن الجديد، إنما يُشَكِّل، في الأصل، الاستجابة الطبيعية لإيقاع متوالية تطورات القرن العشرين الذي بنى طلائِعَه الفنية في عُشَرِيَّتَيْه الأولَيَيْن (الباوهاوس Bauhaus، دي ستايل De Stijl - "Néoplasticisme"، الـ "ريدي مايد Redy made"...) كدفعة أساسية لما تلاهما من تيارات وتوجهات وتحديات، عملت أكثر فأكثر على تحرير الفنان لتجاوز الثابت من المعايير "الجمالية" القديمة وغيرها من المُواضَعات النَّسَقية.
فهل يصح القول بأن الحداثة قد استنفذت إمكاناتها وأفقها؟ يكون الأمر غير ذلك، في الوقت الذي نستحضر فيه منعطفات تاريخية حاسمة لتوطيد مرتكزات وخصائص الفن الحديث، فندرك أن المنعطفات ذاتها كانت وراء صياغة أسس ومنابع ما بعد الحداثة ضمن تقارب مزدوج ومتداخل، يُفَنِّد القول بالقطيعة، ذلك أن "كل بنى ما بعد الحداثة تنطوي على شفرتَيْن أو لُغتَيْن إحداهما حداثية، والأخرى غير ذلك، في جدل مستمر مع بعضهما البعض، فهي بُنى ثقافية تتغيا تأكيد مِصداقية المعرفة، وقد ينتج عنها إلغاء المصداقية التي تسعى لتأكيدها، وهذا التناقض هو أحد مظاهر الوضع ما بعد الحداثي، وأحد الخصائص التي تتسم به منتجاته الثقافية والإبداعية على السواء" كما يرى صبري حافظ (8). تلك الشفرة الحداثية القابعة في ما بعد الحداثة هي ما يُخفف حِدَّة "خِلافها" مع الحداثة بعيدًا عن صفة "النزاع"، فإذا كان "لفظ ما بعد الحداثة يوحي بفكرة الحداثة، ومن ثمَّ يتضمَّن بُعد التَّوالي الزمني للعلاقة بين المفهومَيْن" (إيهاب حسن)، فإن "ما بعد الحداثة هي صيغة جديدة لمفهوم قديم (الحداثة) ومحاولة لإثراء مرحلة الحداثة ذاتها، وإتمام مشروعها حتى النهاية" (يورغن هابرماس). فبالرغم من ذلك التعارض القائم بينهما، فإن العديد من المفكرين والفلاسفة الذين ينتصرون لما بعد الحداثة، يُقِرّون بكون الاختلاف الحاصل بينهما، إنما يكْمُن في صُلب الحداثة نفسها، فيما يعتبرون ما بعد الحداثة حالة استمرار للفكر الحداثي على نحو مختلف وأكثر تطورًا، بحيث يظل العمل ما بعد الحداثي يشكل جزءًا من الحديث، و"قد يكون ما بعد الحداثي في الحديث ما يسمح بأن يبرر ما لا يقبل العرض في العرض ذاته".
في حين، تؤكد فنون ما بعد الحداثة إصرارها على السير قدمًا في تكسير الحواجز، بتوسيع حقلها لاستقطاب أنماط وتجارب وأزمنة وخرائط مختلفة، تجمع بين الشرق والغرب دونما حُسْبان للحدود، مانحة مجالها الرحب لكافة الأجناس التعبيرية وكافة الوسائط المُتاحة دون حواجز، باعتبارها "حداثة الحداثة" التي لم تعد تقتصر على اقتراح وجهة نظر "جمالية"، بقدر ما صارت تشحذ أدواتها لتكون وسيلة اتصال، قادرة على خلق التفاعل المتبادل والمُوَجَّه مع أكبر عدد من المتلقين.
الهوامــش:
(1) جان- فرانسوا ليوتار، في معنى ما بعد الحداثة- نصوص في الفلسفة والفن، ترجمة: السعيد لبيب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- بيروت، ط 1، 2016، ص 8- 9.
(2) نك كاي، ما بعد الحداثة والفنون الأدائية، ترجمة: نهاد صليحة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 2، 1999، ص 22-23.
(3) Ibid، ص 24.
(4) Ibid، ص 25.
(5) تعود ملامح "ما بعد الحداثة" إلى بعض رواد فلسفة الحداثة، وعلى رأسهم إيمانويل كانت (1724- 1804) ضمن افتراضية أننا لا نستطيع أن نعرف الأشياء بذواتها، وأن الأفكار، كالإله والحرية والخلود والبداية الأولى والنهاية الأخيرة، ليست حقائق بذاتها بل هي أشياء وظيفية لتنظيم المعرفة.
(6) نك كاي، Op-Cit، ص 1 - 2.
(7) Ibid، ص (ح) (مقدمة).
(8) صبري حافظ، "التناظر بين عتبات الحداثة وعتبات ما بعد الحداثة (1896 - 1900) و(1996 - 2000)"، أشغال الندوة الدولية لبينالي القاهرة الدولي السادس (الكونية بين نداءات الماضي وإشارات المستقبل)، 1996.
تغريد
اكتب تعليقك