شبكات التواصل الاجتماعي بين الإدمان والنبذ الاجتماعيالباب: مقالات الكتاب
د. شروق إسماعيل الشريف جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل - كلية الآداب - قسم علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية - الرياض |
إن من المنجزات البشرية المعاصرة التي لا يستطيع المرء أن ينكر فضلها وحسناتها على بني البشر ثورة تكنولوجيا المعلومات؛ فقد هيأت ربط بقاع العالم كله، وجعلته أشبه بقرية صغيرة، وحققت للإنسانية كثيرًا من أحلامها، وقربت المجتمعات، ووضعتها في فضاء مشترك ومنصة واحدة، وسهلت بين الناس في جميع أنحاء المعمورة عمليات التواصل والاتصال المذهلة، كما طرحت أمام الإنسان آلياتٍ مبتكرة وسهلة للحصول الآني على المعلومة المنشودة في كافة التخصصات والمجالات، وأتاحت خدماتٍ عجيبة للاتصال الفعّال والوصول إلى الآخر –مهما كان مكانه- في يسرٍ دون عناء !
ولعل أبرز تلك الخدمات التي قدمتها ثورة تكنولوجيا المعلومات لإنسان هذا العصر منصات التواصل الاجتماعي التي ارتبطت نشأتها بظهور أول منصة للدردشة الاجتماعية في عام 1997م وهي منصة "Six Degrees.com" التي مكنت مستخدميها من تبادل المعلومات ونقل الأفكار فيما بينهم، ثم أعقب ذلك ظهور منصات أخرى انتشرت على نطاق واسع، مما فتح نوافذ جديدة للتواصل بين البشر، مهما اختلفت عقائدهم وجنسياتهم، ثم طفقت هذه الشبكات تسير في مسارات متعاقبة من التطور والانتشار حتى استطاع الإنسان أن يحولها من منصة اجتماعية مكتوبة إلى أخرى مرئية ومسموعة تلعب دورًا بالغ الأثر في اتخاذ القرارات، وتشكيل الرأي العام.
وبناء القناعات الذاتية تجاه مختلف القضايا والأحداث العالمية، ولا ننسى كم كان لمثل هذه المنصات من أثر في اظهار الكثير من المشكلات الاجتماعية والتي كانت مخفية وغير ظاهرة للكثير.
ومن ثم باتت وسائل الإعلام التقليدية الأخرى في مقابل شبكات social media أقل جاذبية وأقل إقبالًا، وتحولت أجهزة الحواسيب والهواتف بدائل سحرية للتواصل الاجتماعي، وإحدى القوى الفاعلة على المستوى الدولي.
ومع بزوغ شمس كل يومٍ جديد تمكن هذا النوع من التكنولوجيا الرقمية في إرساء أنماط من الثقافة الإلكترونية العالمية، تجاوزت حدود الزمان والمكان، وأضحت ملاصقة للفرد، وجزءًا من حياته اليومية، وتسللت إلى غرف الأبناء والبنات، وسربت معها غير قليلٍ من القيم المخالفة لمنظومة الأعراف والعادات والأخلاق التي تربينا عليها، ونقلت إلينا الكثير من القضايا الغريبة والسلوكيات الموبوءة؛ الأمر الذي أدى إلى إحداث خلل في حياتنا الاجتماعية والأخلاقية والنفسية..!
ولما كانت وسائل التواصل الاجتماعي، أو شبكات الإعلام الاجتماعي هي بالأصل منصات برمجية لإتاحة الفرصة أمام المستخدمين ليتواصلوا فيما بينهم ويشاركوا تجاربهم، من خلال نشر وعرض معلومات، أو تعليقات، أو صور، أو مقاطع فيديو، أو أي محتوى يُراد بثه، في سهولة خرافية وغير مسبوقة، دونما قيود من الزمان أو المكان أو المسؤولية، وهي برمجيات ومواقع متاحة يمكن الوصول إليها في أي مكان من العالم وعلى مستوى الكون كله، فقد اكتسبت قدرة هائلة في التأثير على المجتمع والدولة في العالم بوجه عام، والعربي منه بوجه خاص.
وما من شكٍ في أنه حين يتعاظم في تلك الشبكات الاجتماعية عنصرا التسلية والترفيه، علاوة على ما تتسم به من سعة الانتشار وسهولة الاستخدام من أي مكان، وتوفر الإنترنت على مستوى الكون فقد صارت ملعبًا خطيرًا يتبارى فيه المراهقون والطائشون والمنحلون بعرض محتواهم وتجاربهم وعقائدهم وطموحاتهم وأنماط حياتهم المبتذلة دون وصاية، أو وازع من دين أو ضمير.
ومع إيماننا الكامل بالدور العظيم والأهمية الكبيرة لمنصات التواصل الاجتماعي في تذليل حدود المكان والزمان، وتسهيل الاتصال بين الأفراد، والتعريف بالآخر ، والمشاركة في شتى أنواع القضايا العالمية، إلا أن الصورة ليست وردية كما توقع البعض، وخطايا تلك المنصات أكبر من أن تحصى، وأخطر من أن ننظر إليها نظرة التهوين والاستخفاف؛ فقد تنامى حجم الجرائم الإلكترونية، وتنوعت كمًا وكيفًا بصورة مخيفة، ما بين جرائم أخلاقية واجتماعية وسياسية وجنسية، وبات المشهد العام قاتمًا لما تحولت تلك الشبكات منبرًا لكل من هبّ ودب، اختلط فيه الحابل بالنابل، وأصبح معظم المستخدمين يتنافسون في بث مقاطع مرئية رديئة، وملفات صوتية مبتذلة، ومعلومات سريعة سطحية.
ولا يخفى عن الجميع تلك المسابقات التي تُبث عبر بعض هذه المنصات بين الجنسين، والتي يبدو أن الهدف الأساسي لها هو جني المال فقط وتحقيق الشهرة، كل ذلك عبر فضاء إلكتروني ورحلة افتراضية تزداد فيها سلطة الفرد خارج الأطر التقليدية، ويتعاظم فيها تحرير المرأة من القيود الاجتماعية، وتتفكك على إثرها روابط التفاعل الاجتماعي المباشر مع العائلة والأصدقاء؛ الأمر الذي أدى إلى حدوث تغييرات فارقة في تكوين الشخصية العربية على وجه الخصوص.
وفي مجتمعاتنا العربية والإسلامية ليس من الأمر المستهجن أن يتنافس الأفراد في أي مجال من مجالات الحياة، شرط أن يكون تنافسًا شريفًا، ومحرضًا على أعمال الخير، ومؤديًا إلى تحقيق مصالح دينية ودنيوية عليا، متجردًا من أهواء النفس وإثارة الغرائز ومنزهًا عن تحقيق غايات دونية رخيصة. وديننا العظيم إنما يدعو إلى ذلك التنافس الشريف، وينادي كل مسلم أن يكون من السابقين إلى الخيرات المتنافسين في وجوه البر، يقول الله عز وجل:
(فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ) المائدة 84
وقال سبحانه: (خِتَٰمُهُۥ مِسۡكٞۚ وَفِي ذَٰلِكَ َلۡيَتَنَافَسِ ٱلۡمُتَنَٰفِسُونَ ) المطففين: 26
هنا كان حرص الإسلام الشديد على أن تتوجه بوصلة المسلم إلى التحلي بمكارم الأخلاق في جميع أحواله وتصرفاته، لم يفرض قيودًا على حرية الفرد، بل دعاه إلى التمتع بملذات الحياة ومباهجها، ولم يحرمه متعة التنافس الحر، بل شجعه على ذلك، وبارك له فعله، ما دام ذلك كله مقيدًا بإطار الشرع، غير خارج عن أصول الدين وأعراف المجتمع القويمة.
في سبتمبر من عام 2016م أطلق أحد المبرمجين الصينيين تطبيقًا جديدًا، أضيف إلى قائمة شبكات التواصل الاجتماعي، وقد حقق ذلك التطبيق نجاحًا كبيرًا في استقطاب فئات الشباب والمراهقين، وتصدر قائمة الأعلى تحميلًا من المتاجر الإلكترونية، وقد صمم في بادئ أمره بحيث يمكن المستخدم من تسجيل مقاطع فيديو لنفسه بطريقة تعتمد على الموسيقى، وتتزامن فيها الشفاه مع الأغاني، ثم بمرور الوقت صار ملعبًا مستباحًا للمراهقين، وملهى ليليًا يتبارى فيه المستخدمون في الإيحاءات المرذولة، والرقص الماجن، وتحولت بعض مقاطع البث المرئي إلى مشاهد خليعة في مجتمع رقيع، رُفع منه الحياء حتى عن عرض نسائه الذي وضع الإسلام تحته آلافًا من الخطوط العريضة الحمراء، وجعله من المحرمات!
واللافت للنظر أن كثيرًا من مقاطع البث المرئي تكون عبارة عن مسابقات وتحديات قد يلحق فيها أحدهم الأذى بالآخر من أجل المال، وقد يتطور الأمر إلى أن تعرض بعض الفتيات أجسادهن من أجل الحصول السريع للمال (مع الإحساس ببعض الأمان لوجودهن خلف الشاشة).
أصبح في زمننا هذا من العادي جدًا ومن الشائع أيضًا أن نشاهد مقاطع مرئية لشباب وشابات من الذين تسلط عليهم جشع المال وهوس الشهرة، يرقصن فيها على موسيقى صاخبة، بلباس فاضح، وحركات غير مقبولة، بل صرنا نرى سيدات يمارسن بعض الأدوار التمثيلية، أو التحديات التنافسية، بملابس غير محتشمة، هاتكين بأنفسهن خصوصيتهن، وممزقين لحرمة بيوتهن، وهي ولا شك في مجملها تصرفات مبتذلة غير مقبولة، تسيئ لهن ولسمعتهن وللمجتمع المسلم.
إن مشكلة مجتمعاتنا العربية مع منصات التواصل الاجتماعي أننا استغللنا جانبها السلبي، ومع انحسار الدور التربوي الذي تلعبه الأسرة، وغياب الوعي، ومع توفر دوافع الشهرة وجلب الأموال وحصد جمهور المتابعين انبرت شرائح مجتمعية من الشباب والمراهقين في تنفيذ أعمال ضارة، ومخالفة للأعراف والقوانين، وتحولت هذه المنصة على أيديهم إلى ساحة مفتوحة من المحرمات والمخالفات والسلوكيات التي تخالف تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف.
وغاية القول: إذا كانت مواقع التواصل الاجتماعي قد حققت كثيرًا من أحلام البشرية في مجالات شتى، كالاتصال والدعاية والتسويق، وجلبت لبعض مستخدميها أموالاً طائلة، إلا أنها أسهمت كذلك في إفراز أنماط شتى من الجرائم الإلكترونية والانحلال الخلقي، كالقرصنة، والتشهير بالأعراض، والتعدي على الخصوصية، وإثارة الفتن الدينية والعرقية، كما أنها زرعت في مجتمعاتنا بذور العري، وضيعت الوقت والطاقة، علاوة على أنها صنعت مجتمعًا افتراضيًا موصومًا بالنرجسية، غارقًا في العزلة الاجتماعية، مصابًا بهوس الشهرة، مريضًا بالتوتر والاكتئاب، معتقداً أن هذه المنصات هي السبيل المختصر إلى الوصول الى المال بدون أدنى جهد يبذله في طلب علم أو في اكتساب مهارة
من هنا كان لزامًا السعي الجاد في إيجاد آليات تكفل تطبيق تلك البرامج والمنصات بالشكل الذي يحقق المنفعة العامة، وأن يكون الشاب والشابة -الفئة المستهدفة الكبرى من تلك المنصات - على وعي بأهمية العلم والسعي والبذل للحصول على المال بطرق شريفة، كما أن قيم المجتمع أهم من الثراء والشهرة السريعة، وأن يكون هناك رقابة من الأهل على المحتوى الذي يُبث من قبل ملايين المستخدمين في فضاء مفتوح، لا رقابة عليه ولا وصاية.
تغريد
اكتب تعليقك