لماذا نكتب ولمن نكتب؟الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-09-27 01:15:10

د. محمد صابة

الجزائر

جموع كثيرة من المثقفين وأصحاب الأقلام تتعب وتكتب، وباتت الكتب بمختلف أنواعها تملأ الساحة الثقافية بالغث والسمين، الجميل والسقيم. ولكن ثمة سؤال يستوقفني دائمًا: لماذا نكتب ولمن نكتب؟ فهل يبقى التأليف والكتابة مجرد ترف فكري يُشبع رغبة الكاتب من دون تأصيل للأفكار ولا تحديد للمقاصد؟ يقول نجيب محفوظ: "أنا لا أستطيع أن أعيش بدون كتابة؛ لأنني في الكتابة أشبع رغبة بداخلي في أن أكتب"، أم يبقى هذا النشاط الفكري في ذاته هدفًا وجوهرًا؟

تتجلى أهمية أي كتاب أو مقال؛ فيما يضيفه للرصيد المعرفي، ومدى تأثير هذا النشاط الفكري في المجتمع، من تربية للنفوس، وتوسيع للمدارك، وشحذ للهمم، فلا ينتهي القارئ أو المتلقي إلا وقد اشتدّت عزائمه، ولا يتحقق هذا التأثير الإيجابي والمثمر؛ إلا إذا استوفى الكتاب أو المقال شروط التأثير، ومن ذلك أن يستولي طيف الفكرة على عقل القارئ، ويُقض مضجع نومه، وتستغرق الفكرة جل وقته، وأن يخط الكاتب ما يخط وهو مؤمن به، وهذا ما عبر عنه الروائي المغربي الطاهر بن جلون؛ بقوله: "الكتابة بالنسبة لي ممارسة يومية ولا أعتبرها عملًا شاقًا، بل أعتبرها واجبًا قوميًا...المهم أن يكون ما نكتبه معبرًا عن الشيء الذي نعرفه". وتضيف الروائية والكاتبة السورية حميدة نعنع أن الكاتب قد يكتب: "في البداية لترضية غرور الأنا المستفحل، ومع مرور الزمن تتكون لديه عبر الكتابة عادة استشراف المستقبل، وتغذية الخيال، خياله أولاً، وخيال من حوله ثانيًا؛ فيحرضهم، ويمنحهم الأمل، كما يرحل بهم إلى عوالم قد لا يستطيعون أن يرحلوا إليها من دونه، وهذا الذي يمنحه الإحساس بالسعادة والرضى". هنا تؤتي الفكرة ثمارها، بعد أن يسقيها صاحبها بصدقه، ويرويها بجهده. أَمَا وقد نكتب لمجرد الكتابة والتأليف، فلن تبلغ فكرة ما نكتب مستوى العين التي تقرأ، والأذن التي تسمع.

أحيانًا يتهرب بعض متقني التأليف والكتابة من مهمة الخط والكتابة خوفًا أن تفصح كتابته عن سريرتِه، لأن القلم يدوس على مكبس خياله، فيدفعه إلى الاعتراف، فيفضح خطُه فكرَه. فالكتابة في أحيان كثيرة استسلامًا لمشاعر الباطن، فيبوح الكاتب بما لا يريد، وأحيانًا يكتب البعض مراوغًا لتحوير الفكر، أو للخداع، فلا يحمل من هموم المجتمع إلا ما يخدم غروره وأنانية، وقد ينقاد وراءه السذّج والمنسلخين عن أفكارهم وأخلاقهم، فقد لا يطول الأمر أمدًا بعيدًا فيفضح سره.

إن القلم مسؤولية ثقيلة، فلتحذر لما تكتب، لأن الكتابة في الأصل بوح لما في الصدر من الموج، ولكن وجب أن نوظفها لما يخدم الغايات، والشريف من القصد. فالقلم المسؤول له أثر وثمرة من الفضيلة والتغيير، فالكتابة تتباين من حيث البنية والتركيب، فكتابة الأكاديمي تختلف عن كتابة الهاوي، وهذا يؤدي إلى تتباين المستويات في الكتابة. فالأكاديمي كاتب متخصص يلتزم بشروط وقواعد وأسس البحث العلمي، ويعلن الغايات والأهداف من خلال الخط والسرد، وإن الكاتب الحق ليتهيّب الكلمة، التي تمثل لسان حال صاحبها، وهي ثقيلة ناءت عن حملها السموات والأرض، فالكلمة هي أصل الكتاب، وهي من وحي الذاكرة والعقل والنفس والأفكار، ولكل كلمة أصل. والكاتب يعلم أنه تحت سيوف النقد، فالله وكيله، حيث يقول:

(كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ )(سورة الكهف: الآية 5). والقارئ يراقبه، والمجتمع يحاسبه، وهو مع هذا وذاك يعلم أنه قائد رأي، فلا يركن للكلمة في غير هداها، فيتدرّج إلى القعر، أما الهاوي فهو حر القلم، يجره كيف ما يشاء، حسب هواه دون رصيد أو رصد.

وأهداف الكتابة ثلاث؛ ربح أو منفعة أو صيت، والأصل في الكتابة عند بعض المنتفعين أنها عرض لبضاعة الأفكار، لا يهمه شأن الأخلاق والأوطان، أما عند أصحاب الأهداف والقصد، فهي أسمى من مجرد العرض، فهي طرح للأفكار والبدائل، وأسلوب لتقريب المسافات، والحد من الخلاف والخصومات. فإن وقع الوفاق كانت هذه الأفكار أساسًا وأصلاً لبناء أرضية مشتركة للحل والعقد. والمحرر الصادق يعرض بنات أفكاره على القارئ؛ فيشركه خبرته ويدفعه إلى التفكير والنقد.

إن مهارة الكتابة والحذق تتجاوز البعد اللفظي، ولكن هي قدرة على الإبداع، وسعة في الأفق. إن غاية الكتابة هي توثيق النطق بالنص، وتحقيق التقارب بين الناس. والكتابة المعبرة حقًا؛ هي التي يعرض صاحبها أفكاره بأسلوب الإقناع والحجاج وقوة الرد، فيقنع المتلقي أو القارئ بخبرته وأفكاره، أو على الأقل يثنيه عن بعض رواسب قناعته إلى ما هو أحسن وأجمل، وهو يستعمل في ذلك كل أساليب الإقناع من منطق، وحكمة، ونقل، وعقل. وهناك كذلك من يكتب للصيت؛ حتى يُقال كتب فلان، وتبقى ذكراه، فكله حظ للذات والنفس.

وفي المقابل هناك صنف كتابتهم من أجل الغير، مندوحته تحقيق الإصلاح والتغيير، وهذا الصنف من الكتاب يكابد المعارضة والشجب، فإن حبست عليه كلماته فأثاره باقية رغم الرمس. وهؤلاء ظلت أسماءهم أعلام ومنابر للذكر، ذلك أنهم سقوا كتاباتهم بالعرق والدم، والإخلاص والجهد، وهؤلاء كالشجرة المثمرة، التي تقذف بالحجارة، أو كما يقول الحق سبحانه وتعالى: (أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا كَلِمَةٗ طَيِّبَةٗ كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ أَصۡلُهَا ثَابِتٞ وَفَرۡعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ) (سورة إبراهيم: الآية 24).

والكتابة في الأصل؛ التواصل مع الناس في صمت، وهي وسيلة لنقل الأفكار والمعاني والحقائق والخبرات والدروس. فإن قالوا "تكلم لأراك"، قلنا "أكتب لنسمعك". فالكتابة الجادة من حيث الهدف والقصد من الكاتب للقارئ نصيحة صادقة دون تأثير مسبق ولا تلقين. وإن المرء ليتوقف فترات ويتريث مُدداً لا يكتب، لأنه لا يعلم لمن يكتب! ولأنه أحياناً لا يدرك كيف يكتب؟


عدد القراء: 1044

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-