هنالك حيث يمتد الغرب الإسلاميالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-05-31 22:56:08

أحمد القاسمي

المغرب

لا أحسب، وحتى لا أفتري على إنسان هو الآن من الأموات؛ ذلك البحار العربي (شهاب الدين أحمد بن ماجد السعدي)، والملقب بـ(أسد البحار)؛ رحمه الله، ونفعنا بعلمه؛ الذي عاش في القرن التاسع الهجري، والموافق للخامس عشر الميلادي -ولد في عام 838 هـ؛ حسب تحقيق أنور عبدالعليم في كتابه (ابن ماجد الملاح)؛ من سلسلة أعلام العرب؛ عدد شهر مارس؛ سنة 1967م؛ مصر- إلا أنه يَقعُد الْأُرْبُعاء (مُتربِّعًا)، وبيده اليمنى؛ بين سبابته وإبهامه وظهر أُصْبُع الوسطى قلمه الذي براه، وبيده اليسرى قُرطاس، وعلى يمينه دَواتُه؛ يَنظِم عِلمه البحري رجزًا؛ فيُجري حروف كلماته مدادًا على الورق.

وهو المحرر لأفكاره؛ لا يكون إلا في خَلوة هادئة، وفي وقت خال من تجاذبات الانشغالات اليومية، وقد تخفف من أثقال عمل كان قد أُنجز، وقد آب من رحلة بحرية تجارية طويلة؛ كان يجري به مركبه (الدّاو) في غير وهن في مياه المحيط الهندي؛ من جزر القُمُر أو جزيرة زنجبار أو من الساحل الشرقي لإفريقيا السوداء، أو من أرخبيل الفليبين وماليزيا، أو جزيرة جاوة، وفي يوم من أيام فصول غَلق البحر؛ أي يُمنع الإبحار فيها لرداءة الطقس؛ وهو القائل في أرجوزته المسماة بـِ«حاوية الاختصار في أصول علم البحار»:

وَينْبغي  مــعـرفــةُ  الأرْيَاح

                      ومغْلـق  البحْـرِ  والمِـفـتــاح

 فغلْقـه يمكُث ربعَ عـــام

                      مُــدّة تِسـعـــون مــن الأيــــام

ويقول بعد ذلك في نفس الأرجوزة:

         فهذه التِّسعين فها الغَلْقا

                       حقيق من جاز بها أن يشقى

  من مَضَض الوحشة والتندُّم

                      وكـثرة  الوســـواس  والتـــــألم

     أما الضّرورات فكم منها جرى

                          كم جـاز فيها أحْمق وخـاطــــرا

فلا شيء يشغل تفكيره الآن إلا تدوين ما اكتسبه من تجارب؛ وهو الربان الذي لا أحد غيره خبر البحر، وتقعيد ما اكتسبه مِراسًا، وما لاحظه وامتحنه واحتك به، وأدرك ماهيته وسلوكه، وقد يكون في أيام دفعت فيه الرياح الموسمية الآتية من عمق المحيط الهندي غيومًا كثيفة، والـمُعيقة للسفر في البحر؛ حُبلى بذرات الماء؛ فيكتب على إيقاع زمهرير الريح، ونقرات المطر؛ يُحدِثها سقوط القطرات على سقيفة كُوّة بيته المبني بلبنات من التراب، وهو يَنظِم أرجوزته المشهورة في علم البحار، التي عنونها بـِ«الفوائد في أصول علم البحر والقواعد»؛ إذ يرفع قلمه وقد داهمت ذهنه فكرة، فيسرح بخياله؛ يمتطي صهوتَه ليُحلّق به إلى هنالك؛ إلى حيث يمتد الغرب العربي الإسلامي؛ الذي لا يحُدّ بطائحَه إلا بحر الظلمات (المحيط الأطلنتي) بأمواجه الصاخبة؛ في بلاد يعرفها هو القاطن بالشرق الإسلامي باسم (مراكش)؛ فنتساءل ماهو ذلك الشيء الذي يشد انتباه البحار ابن ماجد -الذي أرشد الربان البرتغالي (فاسكو دو كَاما؛ 1469م- 1524م؛ Vasco de Gama) إلى ساحل الهند إذا صح هذا، وقد نفى هذه الواقعة من نفاها من المحققين- إلى هذه البلاد التي تبعد عن ساحل عُمّان بآلاف الأميال البرية؟ وهل كان لزامًا أن يأخذ بألبابه هذا الشيء، ولا يفكر في غيره في هذه اللحظة من لحظات استحضار تجاربه في خوض البحار، وتقعيدها في كتاب؟

هناك بجانبه على رفّ الكتب المجلدة والمسفرة كتاب مخطوط، أو هو بين كتب أخرى راكمها أمامه؛ لاندري؛ يُدمن قراءتها ليستزيد من علمها، ويسترشد بما صاغته من قواعد ونظريات في علم البحار، أو ما يُطلق عليه حاليًا بـِ(الأوسيانوغرافيا؛ Océanographie)؛ تنفعه في رسم المسالك البحرية الآمنة؛ وفي علم الأنواء وعلم الفلك وعلم الرياضيات، وهو من أجل بُغيتِه يجدّ ويكدّ ويسهر الليالي كما قال في هذا البيت من إحدى أراجيزه:

سُهاد حكت عيني عُصارة عَنْدم

                     وكل نجوم الليل تسأل عن دمي

وتعني كلمة (اَلْعَنْدَم) الواردة في هذا البيت، وحسب معجم لسان العرب: «وقال بعضهم: العندم دم الغزال بلِحاء (الأرطَى)، و(الأرطَى شجر ينبت في الرمل، زهره طيب الرائحة وثمره كالعناب يُستعمل في الدباغ)؛ يُطبخان جميعًا حتى ينعقدا فتُختضب به الجواري، وقال الأصمعي في قول الأعشى: سخامية حمراء تُحسب عندم».

ويقول أيضًا البحار ابن ماجد في أرجوزة أخرى:

تأمّل وشاوِر واسْهر الليل واعزم

                      وحقّق ودقّق واحفظ السر واكتُم

اسم ذلك الكتاب هو «جامع المبادئ والغايات في علم الميقات»؛ لعالم الرياضيات أبي علي الحسن بن عمر المراكشي (تاريخ وفاته 660ه/1262م؛ الذي ألفه حوالي عام 627ه الموافق لـِ1220م، فيقول ابن ماجد في كتابه «الفوائد في أصول علم البحر والقواعد»: «بل إنّا نقول للمعالمة ونُعرّف الغافلين منهم ونَدُلّهم على الكتب الكبار التي لم تتم صَنْعتُهم إلا بها مثل كتاب المبادئ والغايات تصنيف رجل مغربي من أهل مراكش...».

فماذا يُستخلص من هذه الحكاية التي فيها القليل مما هو مُتخيل؟

أولاً: عندما تُصنف أفكار المؤلف على الورق وتتخذ شكل كتاب؛ فيرى النور بعد أن كان حبيس المسودات والسراديب والرفوف الغبراء؛ فلا عائق يحول بينه وبين وصوله إلى جمهور القراء من العلماء والطلبة وغيرهم؛ سواء في عصر أوج الكتاب المخطوط والمكتوب بالحرف وباللغة العربية، أو بحروف (غوتنبر) المتحركة فيما بعد.

ثانيًا: اللغة العربية والخط العربي اللذان يؤلف بهما الكتاب؛ هما ما أُنزل بهما الوحي، وأول ما يحفظه الصبية المسلمون، ويُجوّدونه على يد شيوخ العلم الشرعي هو كتاب الله عز وجل، ويؤهلهم آنذاك إلى ارتياد جوامع العلم والمعرفة.

ثالثًا: ومن ثَمّ فما كتبه أبو علي الحسن بن عمر المراكشي وهو من أقصى الغرب العربي الإسلامي، حيث بلاد (مراكش)، وحيث جامع القرويين؛ أقدم جامعة في العالم؛ حسب ما أقره الغربيون أنفسهم؛ ليس عسير الفهم على الربان العربي ابن ماجد وهو في أقصى الشرق الإسلامي، وما يُستشف من هذا هو جمالية وبلاغة اللغة العربية التي فُتن بها حتى غير العرب والمسلمين من المستشرقين؛ ذات الجملة المركبة من كلمات فيها الفاعل والفعل والمفعول به والمفعول فيه والحال وهلم جرا؛ لا ركاكة فيها، فأسلوب اللغة العربية صاف ينفذ إلى باطن النفس، فيُطربه ويمتعه، لأن مصدره تلك الجملة المحكمة البناء الواردة بالقرآن الكريم، وهي كلام الله سبحانه وتعالى، وفي خطابه ما يمرِّنُنا على القول السديد والطيب؛ لا غلظة فيه، فتأمل هذه الآية وهي الخامسة من سورة (الصف) الآية: 5 : (وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ لِمَ تُؤۡذُونَنِي وَقَد تَّعۡلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡۖ فَلَمَّا زَاغُوٓاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَٰسِقِينَ)؛ نداء عفيف اللسان؛ يقع على القلوب المتحجرة؛ فيُذيب قساوتها ويُحيلها إلى ما فُطرت عليه من إيمان يتراحم به بنو آدم عليه السلام.

رابعًا: حب المعرفة الذي يملأ قلوب أهل لغة الضاد، فقد سافر كتاب «جامع المبادئ والغايات في علم الميقات» على ظهور الجمال والخيول؛ يطوي في تنقله الصحاري والسهوب والجبال والسهول، وعلى متن السفن والقوارب؛ يتأرجح بمياه البحار والمحيطات والأنهار الجَلِبة؛ لا يحول بينه وبين وصوله إلى حيث كُتب له أن يصل حاجز، وقد ألح الطالبون المتعطشون للعلم والمعرفة في طلبه.

أليس هذا كفيل بأن تُبعث أمجاد تلك الحضارة وعلومها الناطقة باللغة العربية والمكتوبة بالخط العربي، والرقي بها، التي ترامت أطرافها شرقًا؛ في ذلك الامتداد الواسع للقارة الآسيوية، وغربًا في ذلك الامتداد الواسع للغرب العربي الإسلامي، وجنوبًا في صحراء وسهوب وأدغال إفريقيا السوداء، وشمالاً في فجاج أوروبا وأوديتها وسهولها وهضابها الخصيبة؟

هل باستطاعة أهل لغة (الضاد)، ومن يكتبون بها ويؤلفون ويُدرِّسون، ومن يتعلمها من غير العرب؛ من جُنوس وقوميات أخرى؛ أن يحافظوا على استمرار وجود اللغة العربية، ويردُّون على من يتنبأ بمآل لا يُطمئِن؛ أقوالهم التي لا تستند على أي تصور ثقافي وحضاري سليم، فأصل اللغة العربية يضرب بجذوره في عهود أمم قديمة، وأصل الحرف العربي ليس تركيبة مخبرية تُفرض فرضا، فأصله يرجع إلى الحرف الأوغاريتي (نسبة إلى أبجدية أوغاريت القديمة المكتشفة بسوريا الحالية)، كما تطورت عنه العبرية واليونانية واللاتينية.

 

الهوامش:

1 - سفينة شراعية؛ يتميز شراعها بأنه مثلث الشكل؛ تصنع بطريقة تقليدية في منطقة الخليج العربي، وهي تلك المراكب التي كانت تبحر للتجارة قديمًا ومازالت في بحر العرب؛ ما بين سواحل شبه الجزيرة العربية، وسواحل شبه الجزيرة الهندية، وسواحل إفريقيا الشرقية.

2 - كلمة يونانية مركبة من اثنتين: (Océan) وتعني إله البحر، و(Gráphein) وتعني فعل (يكتب)، و(الأوسيانوغرافيا) هو علم البحار والمحيطات.

3 - الشرح مأخوذ من: www.almaany.com

4 - نسبة إلى (أوغاريت)، وهي مملكة قديمة في سوريا؛ يعود تاريخها إلى عام 7500 ق.م؛ عُرِفت أبجدياتها بأنها تحتوي على ثلاثين حرفًا.


عدد القراء: 1713

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-